قولُه:
وإنما دِينُ اللهِ ما بَعثَ به رسلَه، وأَنزلَ به كُتبَه، وهو الصراطُ المستقيمُ، وهو طريقُ أصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خيرِ القرونِ، وأفضلِ الأُمَّةِ وأكرمِ الخلْقِ على اللهِ تعالى بعد النبيِّين، قالَ تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} فرَضِيَ عن السابقين الأوَّلين رضاً مُطلَقاً ورَضِيَ عن التابعين لهم بإحسانٍ وقد قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأحاديثِ الصحيحةِ: (خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِينَ بُعِثْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) وكان عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ - رضِيَ اللهُ عنه - يقول: (من كان منكم مُسْتَنًّا فليَسْتَنَّ بمن قد ماتَ، فإن الحيَّ لا تُؤمنُ عليه الفتنةُ أولئك أصحابُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَبرُّ هذه الأُمَّةِ قلوباً، وأَعمقُها عِلْماً وأَقلُّها تَكلُّفاً، قومٌ اختارَهم اللهُ لصُحبةِ نبيِّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإقامةِ دِينِه، فاعْرِفوا لهم حقَّهم، وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ؛ فإنهم كانوا على الصراطِ المستقيمِ). وقالَ حذيفةُ بنُ اليَمَانِ - رضِيَ اللهُ عنهما -: (يا معشرَ القرَّاءِ، استقيموا وخُذوا طريقَ من كان قبلَكم، فواللهِ لئن اتَّبعتموهم لقد سَبقْتُم سَبْقاً بعيداً، ولئن أَخذتُم يميناً وشِمالاً لقد ضَللْتُم ضَلالاً بعيداً). وقالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ - رضِيَ اللهُ عنه -: (خَطَّ لنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَطًّا وخَطَّ لنا خطوطاً عن يمينِه وعن شِمالِه ثم قالَ: هذا سبيلُ اللهِ وهذه سُبُلٌ، على كلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يَدعو إليه ثم قرأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقُ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وقد أمَرَنا سبحانَه أن نقولَ في صلاتِنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} وقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ)؛ وذلك أن اليهودَ عَرفوا الحقَّ ولم يَتَّبِعُوه، والنصارى عَبدوا اللهَ بغيرِ علْمٍ ولهَذا كانَ يُقالُ: (تَعوَّذوا باللهِ من فتنةِ العالِمِ الفاجرِ والعابدِ الجاهلِ، فإن فتنتَهما فتنةٌ لكُلِّ مفتونٍ). وقالَ تعالى {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} قالَ ابنُ عبَّاسٍ - رضِيَ اللهُ عنهما -:(تَكفَّلَ اللهُ لمن قرأَ القرآنَ وعَمِلَ بما فيه أن لا يَضِلَّ في الدنيا ولا يَشقى في الآخرةِ وقرأَ هذه الآيةَ)، وكذلك قولُه تعالى:{آلم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤمِنونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤمِنونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فأَخبرَ أن هؤلاءِ مهتدون مفلِحون وذلك خلافَ المغضوبِ عليهم والضالِّين.
فنسألُ اللهَ أن يَهديَنا وسائرَ إخوانِنا صراطَه المستقيمَ، صراطَ الذين أَنعمَ اللهُ عليهم من النبيِّين والصدِّيقين والشهداءِ والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقاً، وحسْبُنا اللهُ ونِعمَ الوكيلُ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ على سيِّدِنا محمَّدٍ وعلى آلهِ وصحبِه وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
الشرْحُ:
يعني أن ما عليه المبتدِعةُ والملاحِدةُ من جبريَّةٍ وقدَريَّةٍ وجَهْميَّةٍ ومعتزِلةٍ وغيرِهم ممن زَاغَ عن سبيلِ المؤمنين ليسوا على هدًى ولا شرْعٍ من اللهِ، وإنما دِينُ اللهِ هو ما شرَعَه في كتابِه العزيزِ، (الذي فيه نبأُ ما قبلَنا، وخبرُ ما بعدَنا، وحكْمُ ما بينَنا الذي هو الفصْلُ ليس بالهزْلِ مَن ترَكَه من جبَّارٍ قَصَمَه اللهُ، ومَن ابتغى الهُدى من غيرِه أَضلَّه اللهُ، هو حبْلُ اللهِ المتينُ وهو الذِّكْرُ الحكيمُ، وهو الصراطُ المستقيمُ، هو الذي لا تَزيغُ به الأهواءُ، ولا تَلتبسُ به الألسِنَةُ، ولا تَشبعُ منه العلْماءُ، ولا يَخْلَقُ عن كثرةِ الردِّ، ولا تَنقضي عجائبُه، وهو الذي لم تَنتَهِ الجنُّ إذ سَمِعَتْه حتَّى قالوا: يا قَوْمَنا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَّهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} من قالَ به صَدَقَ، ومن حَكَمَ به عَدَلَ، ومن عَمِلَ به أُجِرَ، ومن دعا إليه هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيمٍ) كما قالَ ذلك الخليفةُ الراشدُ عليُّ بنُ أبي طالبٍ - رضِيَ اللهُ عنه - فيما رواه أبو عيسى التِّرمذيُّ - رَحِمَه اللهُ -، وكذلك دِينُ اللهِ هو ما سَنَّه رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد شرَعَ الشرائعَ وسَنَّ السُّنَنَ بإذنِ ربِّه ووحيِه، لا من تلقاءِ نفسِه كما شَهِدَ اللهُ له بذلك في قولِه عزَّ وجلَّ: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُّوحَى}.
وعلى هذا النهجِ المستقيمِ دَرَجَ الصحابةُ رضِيَ اللهُ عنهم أجمعين يَستضيئون بِمِشكاةِ القرآنِ فيهديهم أقومَ الطريقِ ويتحاكمون إليه وإلى سُنَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولقد مدَحَهم سبحانَه وأَثْنَى عليهم حيث قَبِلُوا عن رسولِه ما بَلَّغَه إليهم وهم المهاجرون والأنصارُ الذين ضُربَ بهم المثلُ في التوراةِ والإنجيلِ والقرآنِ فقالَ: {مُحَمَّدٌ رُّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الآيةُ، وقالَ: {لَقَدْ رضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآيةُ, فهم حُجَّةُ اللهِ على خلقِه بعدَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤدُّون عن رسولِه ما أَدَّى إليهم لأنه بذلك أَمَرَهم فقالَ: (لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ) ولقد مدَحَهم رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديثِ الذي رواه مسلِمٌ عن عِمرانَ بنِ حُصينٍ - رضِيَ اللهُ عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ). - قالَ عِمرانُ: فلا أدري أَذَكَرَ بعد قرنِه مرَّتين أو ثلاثاً - ثم إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ وَيَنْذِرُونَ وَلاَ يُوفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ) وروى مسلِمٌ أيضاً بسندِه عن ابنِ مسعودٍ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)، ومعنى الخيريَّةِ في الأحاديثِ راجعةٌ لفضيلةِ أهلِ ذلك القرْنِ في العلْمِ والإيمانِ والأعمالِ الصالحةِ التي يَتنافسُ فيها المتنافِسون ويَتفاضلُ فيها العاملون، فقد غَلبَ الخيرُ وكَثُرَ أهلُه واعتَزَّ فيها الإسلامُ والإيمانُ وكَثُرَ فيها العلْمُ والعلْماءُ ثم الذين يَلونَهُم فُضِّلُوا على مَن بعدَهم لظهورِ الإسلامِ فيهم وكثرةِ الداعي إليه والراغبِ فيه والقائمِ به، وما ظَهَرَ فيه من البدَعِ أُنكِرَ واستُعْظِمَ وأُزِيلَ كبدعةِ الخوارجِ والقدَريَّةِ والرافضةِ؛ فهذه البِدعُ وإن كانت قد ظهرَتْ فأهلُها في غايةِ الذُّلِّ والْمَقْتِ والهوانِ ويَكثُرُ القتْلُ فيمن عاندَ منهم ولم يَتُبْ, والمشهورُ في الرواياتِ أن القرونَ المفضَّلَةَ ثلاثةٌ الثالثُ دونَ الأوَّلَيْن في الفضلِ لكثرةِ البِدَعِ فيه، لكنَّ العلْماءَ مُتوافِرون والإسلامَ فيه ظاهرٌ والجهادَ فيه قائمٌ.
وإذاً فالشاهِدُ من آيةِ براءةٍ وحديثِ عِمرانَ بنِ حُصينٍ هو مدْحُ أصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والثناءُ عليهم، لاستقامتِهم على أمْرِ اللهِ وتمسُّكِهم بهدْيِ رسولِ اللهِ. وقولُه: (فَرَضِيَ عَنِ السَّابِقِينَ رِضاً مُطلَقاً ورضِيَ عن التابعين لهم بإحسانٍ) معناه أن اللهَ أوْجبَ لجميعِ أصحابِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجنَّةَ والرِّضوانَ وشرَطَ على التابعين شرْطاً لم يَشْرُطْه فيهم وهو اتِّبَاعُهم إيَّاهم بإحسانٍ، فالصحابةُ حَصَلَ لهم بصحْبَتِهم للرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيمانٌ ويقينٌ لم يَشْرَكْهم فيه مَن بعدَهم، ومعنى (الذين اتَّبَعُوهم بإحسانٍ) الذين اتَّبَعوا السابقين الأوَّلِين من المهاجرين والأنصارِ وهم المتأخِّرون عنهم من الصحابةِ فمن بعدَهم إلى يومِ القيامةِ وليس المرادُ بهم التابعين اصطلاحاً، وهم كلُّ من أَدركَ الصحابةَ ولم يُدرِك النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل هم من جملةِ من يَدخلُ تحتَ الآيةِ فتكونُ (مِن) في قولِه: مِن المهاجرين على هذا للتبعيضِ, وقيلَ إنها للبيانِ فيَتناولُ المدْحُ جميعَ الصحابةِ ويكونُ المرادُ بالتابعين مَن بعدَهم من الأُمَّةِ.
والمهاجرين: جمْعُ مهاجِرٍ وأصلُ المهاجَرَةِ عندَ العربِ: أن يَنتقلَ الإنسانُ من البادِيَةِ إلى المدُنِ والقُرى، والمرادُ به في الشريعةِ: من فَارَقَ أهلَه ووطنَه وجاءَ إلى بلَدِ الإسلامِ وقَصَدَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رغبةً فيه وإيثاراً ثُمَّ هي عموماً الانتقالُ من بلدِ الشرْكِ إلى بلدِ الإسلامِ.
وأَثَرُ ابنِ مسعودٍ في وصفِ الصحابةِ - رضِيَ اللهُ عنهم أجمعين - رواه رُزَيْنُ بنُ معاويةَ العبدريُّ، ومثلُه ما جاءَ عن عبدِ العزيزِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ أبي سلَمةَ أنه قالَ: (عليك بلزومِ السنَّةِ فإنها لك بإذنِ اللهِ عِصمةٌ فإن السنَّةَ إنما جُعِلتْ ليُستَنَّ بها ويُقتَصَرَ عليها، وإنما سنَّها من قد علِمَ ما في خلافِها من الزَّلَلِ والخطأِ والحُمْقِ والتعمُّقِ, فارْضَ لنفسِكَ بما رَضَوْا به لأنفسِهم فإنهم عن علْمٍ وَقَفُوا، وبِبَصَرٍ نافذٍ كَفُّوا، ولَهُمْ كانوا على كشفِها أقوى وبالفضلِ لو كان فيها أَحْرَى، وإنهم لَهُمُ السابقون وقد بَلغَهم عن نبيِّهم ما يَجري من الاختلافِ بعدَ القرونِ الثلاثةِ فلئن كان الهُدى ما أنتم عليه لقد سَبقَتموهم إليه ولئن قُلتم حدَثَ بعدَهم فما أحدَثَه إلا من ابْتَغَى غيرَ سبيلِهم ورَغِبَ بنفسِه عنهم واختارَ ما نَحَتَه فِكرُه على ما تَلَقَّوْه عن نبيِّهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتَلقَّاه عنهم من تَبِعَهم بإحسانٍ ولقد وَصَفُوا منه ما يَكفي وتَكلَّمُوا منه بما يَشفِي، فمن دونَهم مقصِّرٌ ومن فوقَهم مفرِّطٌ، لقد قَصَّرَ دونَهم أُناسٌ فَجَفَوْا وطَمَحَ آخرون فَغَلَوْا وإنهم فيما بينَ ذلك لعلى هُدًى مستقيمٍ).
وأَثَرُ حذيفةَ رواه البخاريُّ، ومعشرُ القرَّاءِ: المرادُ بهم علماءُ القرآنِ والسنَّةِ، وقولُه: (فقد سَبقْتم) قيلَ: الروايةُ الصحيحةُ بفتْحِ السينِ والباءِ والمشهورُ ضَمُّ السينِ وكسْرُ الباءِ والمعنى على الأوَّلِ اسلُكوا طريقَ الاستقامةِ لأنكم أدرَكتُم أوائلَ الإسلامِ فاستمسِكوا بالكتابِ والسنَّةِ لتَسبِقوا إلى خيرٍ، إذ من جاءَ بعدَكم وإن عمِلَ بعملِكم لا يَصلُ إلى سَبقِكم إلى الإسلامِ، وعلى الثانيةِ سَبقَكم المتَّصفون بتلك الاستقامةِ إلى اللهِ فكيفَ تَرْضَوْنَ لنفوسِكم هذا التخلُّفَ المؤدِّي إلى انحرافٍ عن سُنَنِ الاستقامة يميناً وشِمالاً الموجِبَ للهلاكِ الأبَدِيِّ.
وحذيفةُ: هو ابنُ اليَمَانِ صاحبُ سِرِّ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شهِدَ أُحُداً ورَوى عنه جماعةٌ من الصحابةِ والتابعين ماتَ بالمدائنِ سنةَ 36 هـ.
وقولُ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ - رضِيَ اللهُ عنه-: (خَطَّ لنا رسولُ اللهِ صلى اللهُ علَيه وسلَّم خطًّا) الخ. (رواه الإمامُ أحمدُ في المسنَدِ)، قالَ محمَّدُ بنُ نصْرٍ المروزيُّ في كتابِه السنَّةِ قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عِنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} فأَخبرَ اللهُ أن طريقَه واحدٌ مستقيمٌ وأن السُّبُلَ كثيرةٌ تَصُدُّ من اتَّبَعَها عن طريقِه المستقيمِ، ثم بيَّنَ لنا النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بسنَّتِه. ورَوى بسندِه عن أبي وائلٍ عنْ عبدِ اللهِ قالَ: (خَطَّ لنا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطًّا ثم قالَ: هذا سبيلُ اللهِ ثم خَطَّ خطوطاً عن يَمينِه وشِمالِه وقالَ: هذه سُبلٌ على كلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يَدعو إليه وقَرأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} الآيةُ). فحذَّرَنَا اللهُ ثم رسولُه المحدَثَاتِ والأهواءَ الصادَّةَ عن اتِّبَاعِ أمْرِ اللهِ وسنَّةِ نبيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم أَخبرَنا النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ اللهَ لا يَدعُ عبدَه المؤمنَ مع ما بيَّنَ له في كتابِه وسنَّةِ نبيِّه حتى يَعِظَه ويُنَبِّهَه بما يَخطِرُ بقلبِه ليَعتصِمَ بذلك من دعاءِ الشياطين إلى الصدِّ عن سبيلِه وعن طريقِ مرضاتِه، وروى بسندِه عن النوَّاسِ بنِ سَمعانَ - رضِيَ اللهُ عنه - عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَعَلَى جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورٌ فِيهِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أيُّها النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعاً وَلاَ تَتَعَوَّجُوا، وَدَاعٍ يَدْعو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ فَإِذَا أَرَادَ فَتْحَ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ لاَ تَفْتَحْه فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ. فَالصِّرَاطُ: الْإِسْلاَمُ, وَالسُّتُورُ: حُدُودُ اللهِ. وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللهِ وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللهِ وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِهِ وَاعِظٌ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ). وروى بسندِه عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} قالَ: البِدَعَ والشُّبُهاتِ، وروى أبو بكرٍ محمَّدُ بنُ الحسينِ الآجُرِّيُّ في كتابِه (الشريعةُ) بسندِه عن عبدِ الرحمنِ بنِ عمرٍو السُّلَمِيِّ وحُجْرٍ الكُلاَعِيِّ قالاَ: دخلنا على العِرباضِ بنِ سارِيَةَ - رضِيَ اللهُ عنه - وهو مريضٌ فقلنا له: إنا جئناك زائرين وعامِدين ومقتبسين فقالَ عِرباضٌ - رضِيَ اللهُ عنه -: (إن رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى صلاةَ الغداةِ ثم أَقبلَ علينا بوجهِه فوَعظَنا موعظةً بليغةً ذَرَفَتْ منها العيونُ، ووَجِلَتْ منها القلوبُ. فقالَ قائلٌ: يا رسولَ اللهِ إن هذه لموعظةُ مودِّعٍ فما تَعْهَدُ إلينا؟ قالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالطَّاعَةِ وَالسَّمْعِ وَإِنْ عَبْداً حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي سَيَرَى اخْتِلاَفاً كَثِيراً، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ) كما رواه أبو داودَ والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ. وحينئذٍ فالشاهِدُ من حديثِ ابنِ مسعودٍ الحثُّ على لزومِ السنَّةِ والتحذيرُ من سلوكِ سبيلِ البدعةِ وأن الخيرَ كلَّه في الاتِّباعِ والشرَّ كلَّه في الابتداعِ.
ولقد أمَرَنا اللهُ جَلَّ وعَلا أن نَسألَه أن يَهديَنا الصراطَ المستقيمَ صراطَ الذين أَنعمَ عليهم من النبيِّين والصدِّيقين والشهداءِ والصالحينِ غيرِ المغضوبِ عليهم ولا الضالِّين. فإنه إذا هدانا هذا الصراطَ أَعانَنا على طاعتِه وترْكِ معصيتِه فلم يُصبْنا شرٌّ لا في الدنيا ولا في الآخرةِ والذنوبُ من لوازمِ النفسِ، وكلُّ أحدٍ مُحتاجٌ إلى الهُدى كلَّ لحظةٍ، وهو إلى الهُدى أَحوجُ منه إلى الأكلِ والشُّربِ، ولهذا أَمَرَ به في كلِّ صلاةٍ لفرْطِ الحاجةِ إليه. قالَ الشيخُ: (وإنما يَعرفُ بعضَ قدْرِه من اعتَبرَ أحوالَ نفسِه ونفوسِ الإنسِ والجنِّ المأمورين بهذا الدعاءِ ورأى ما فيها من الجهلِ والظلْمِ اللذَيْن يَقتضيان أن يَدْعُوَ الإنسان بماُ يَحصُلُ به شفاؤُها في الدنيا والآخرةِ فيَعلمَ أن اللهَ تعالى بفضلِه ورحمتِه جَعلَ هذا الدعاءَ من أعظمِ الأسبابِ المقتضيَةِ للخيرِ المانعةِ من الشرِّ).
وقولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ) هذا الحديثُ رواه الترمذيُّ، ولفظُه عن عديِّ بنِ حاتمٍ قالَ: أَتيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو جالسٌ في المسجدِ فقالَ القومُ هذا عديُّ بنُ حاتمٍ، وجئتُ بغيرِ أمانٍ ولا كتابٍ فلما دُفِعتُ إليه أَخذَ بيدي، وقد قالَ قبلَ ذلك إني لأرجو أن يَجعلَ اللهُ يدَه في يدي قالَ: فقام بي فلَقِيَتْهُ امرأةٌ وصبيٌّ معها فقالاَ: إن لنا إليك حاجةً فقامَ معهما حتى قَضى حاجتَهما، ثم أَخذَ بيدي حتى أتى بي دارَه فأَلْقَتْ له الوليدةُ وسادةً فجَلسَ عليها وجَلَسْتُ بينَ يديه فحَمِدَ اللهَ وأَثنى عليه ثم قالَ: مَا يَضِيرُكَ أَيَضِيرُكَ أَنْ تَقُولَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إِلَهٍ سِوَى اللهِ؟ قالَ: قلتُ: لا. ثم تكلَّمَ ساعةً ثم قالَ: مَا يَضِيرُكَ أَنْ تَقُولَ اللهُ أَكْبَرُ، أَوَتَعْلَمُ شَيْئاً أَكْبَرَ مِنَ اللهِ؟ قالَ: قلتُ: لا. قالَ: فَإِنَّ الْيَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضُلاَّلٌ، قالَ: فقلت: فإني حنيفٌ مسلمٌ. قالَ: فَرَأَيْتُ وجهَه ينبسطُ فرَحاً، وكونُ اليهودِ مغضوباً عليهم هو من جِهةِ عدَمِ العملِ، فهم يَعلمون الحقَّ ولا يَتَّبعونه قوْلاً أو عملاً، وكونُ النصارى ضالِّين هو من جِهةِ عمَلِهم بلا عِلمٍ فهم يَجتهدون في أصنافٍ من العِباداتِ بلا شريعةٍ من اللهِ ويقولون على اللهِ ما لا يَعلمون. وهذا معنى قولِ الشيخِ: (وذلك أن اليهودَ عَرَفوا الحقَّ ولم يَتَّبعوه والنصارى عبَدُوا اللهَ بغيرِ علْمٍ) ومن أجْلِ وصْفِ اليهودِ والنصارى بما ذُكرَ كان السلَفُ - رحمَهم اللهُ - يقولون: (احذَروا فتنةَ العالِمِ الفاجرِ، والعابدِ الجاهلِ فإن فتنتَهما فتنةٌ لكلِّ مفتونٍ) وذلك أن الأوَّلَ يُشبهُ المغضوبَ عليهم الذين يَعلَمون الحقَّ ولا يتَّبِعونه. والثاني: يُشبِه الضالِّين الذين يَعملون بغيرِ علْمٍ. قالَ سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ: (من فَسدَ من علمائنا ففيه شَبهٌ من اليهودِ ومَن فَسدَ من عُبَّادِنا ففيه شَبهٌ من النصارى) ومع أن اللهَ قد حذَّرَنا سبيلَ اليهودِ والنصارى فلابدَّ من وقوعِ ما قدَّرَه اللهُ وقَضاه مما أَخبرَ به رسولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أَخرجاه في الصحيحَين عن أبي سعيدٍ الخدريِّ - رضِيَ اللهُ عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ. قالوا: يا رسولَ اللهِ اليهودُ والنصارى؟ قالَ: فَمَنْ). وفيما رواه البخاريُّ في صحيحِه عن أبي هريرةَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي مَأْخَذَ الْقُرُونِ قَبْلَهَا شِبْراً بِشِبْرٍ وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ. فقيلَ: يا رسولَ اللهِ كفارسَ والرومِ؟ قالَ: وَمَنِ النَّاسُ إِلاَّ أُولَئِكَ). قالَ الشيخُ - رَحِمَه اللهُ -: فأَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سيكونُ في أمَّتِه مضاهاةٌ لليهودِ والنصارى وهم أهلُ الكتابِ ومضاهاةٌ لفارسَ والرومِ وهم الأعاجمُ، وقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عن التشبُّهِ بهؤلاءِ.
وليس هذا إخباراً عن جميعِ الأُمَّةِ، بل قد تَواترَ أنه قالَ: (لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرَةً عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ). وأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَّ اللهَ لاَ يَجْمَعُ هَذِهِ الأُمَّةَ على ضَلالةٍ وأن اللهَ لا يزالُ يَغْرِسُ في هذا الدِّينِ غَرْساً يَستعملُهم فيه بطاعتِه) وإذاً فالفُرْقَةُ والاختلافُ لابدَّ من وقوعِهما في الأُمَّةِ ولكن كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحذِّرُ أمَّتَه من ذلك ليَنجوَ من الوقوعِ فيه مَن شاءَ اللهُ له السلامةَ، وهذا كلُّه خَرجَ منه مَخرجَ الخبرِ عن وقوعِ ذلك والذمِّ لمن يَفعلُه، كما كان يُخبرُ عما يَفعلُه الناسُ بينَ يَدَي الساعةِ من الأشراطِ، والأمورِ المحرَّماتِ فعُلمَ أن مشابَهةَ هذه الأُمَّةِ لليهودِ والنصارى وفارسَ والرومِ مما ذَمَّه اللهُ ورسولُه.
قالَ الشيخُ: (ولا يُقالُ: فإذا كان الكتابُ والسنَّةُ قد دَلاَّ على وقوعِ ذلك فما فائدةُ النهي عنه، لأن الكتابَ والسنَّةَ أيضاً قد دَلاَّ على أنه لا يزالُ في هذه الأُمَّةِ طائفةٌ متمسِّكةٌ بالحقِّ الذي بَعثَ اللهُ به محمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قيامِ الساعةِ وأنها لا تَجتمعُ على ضلالةٍ، ففي النهيِ عن ذلك تَكثُّرٌ لهذه الطائفةِ المنصورةِ وتثبيتُها وزيادةُ إيمانِها). والشاهِدُ من آيتَيْ طه والبقرةِ هو الحثُّ على الاعتصامِ بحبلِ اللهِ ولزومِ الصراطِ المستقيمِ إذ في ذلك سعادةُ الدنيا والآخرةِ فلا ضلالَ في الدنيا ولا شقاءَ في الآخرةِ، بل إيمانٌ ويقينٌ ولذَّةٌ واطمئنانٌ وفَوْزٌ وفلاحٌ؛ وهذا بخلافِ ما يَحصُلُ لليهودِ والنصارى ومن على شاكلتِهم في الزَّيْغِ والإلحادِ والكفْرِ والعِنادِ، مما وَصفَه اللهُ عزَّ وجلَّ بقولِه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}، وقولُه: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَّخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ وَلَنُذيِقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وأثرُ ابنِ عبَّاسٍ رواه ابنُ أبي حاتمٍ والبيهقيُّ في الشُّعَبِ ولفْظُه عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: (أَجارَ اللهُ تابعَ القرآنِ من أن يَضلَّ في الدنيا أو يَشقى في الآخرةِ، ثم قرأَ: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} قالَ: لا يَضلُّ في الدنيا ولا يَشْقى في الآخرةِ) وأَخرجَ ابنُ أبي شيبةَ والطبرانيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من اتَّبَعَ كتابَ اللهِ هداه اللهُ من الضلالةِ في الدنيا ووَقَاه سوءَ الحسابِ يومَ القيامةِ، وذلك أن اللهَ يقول: {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى}).
نسألُ اللهَ تعالى أن يَرزقَنا وإخوانَنا في النَّسَبِ والدِّينِ صحبةَ المنعَمِ عليهم من الأنبياءِ والصدِّيقين والشهداءِ والصالحين؛ فإن هؤلاءِ قد هُدُوا صراطاً مستقيماً، وحسُنَ أولئك رفيقاً، وهم المَوْعُودون في مِثلِ قولِه سبحانَه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَّيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّنْ سُنْدُسٍ وَّإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} وقولِه عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَّلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} وباللهِ ثِقتُنا وعليه اعتمادُنا، ومن يَتَوَكَّلْ على اللهِ فهو حسْبُه.
* * *
وبعدُ: فإلى هنا يَنتهي شرْحي للتَدْمريَّةِ وهو جَهْدُ المُقِلِّ، فأنا لا أدَّعِي أنه هو كلُّ ما تَستحقُّه هذه الرسالةُ العظيمةُ، غيرَ أني أُومِنُ بأن ما لا يُدرَكُ كلُّه لا يُتْرَكُ جُلُّه، ولئن قالَ الأوائلُ: (المؤلِّفُ مثل المكلَّفِ لا يَخلو من المؤاخذةِ ولا يُرفعُ عنه القلَمُ) وقالوا: (من أَلَّفَ فقد استُهدِفَ، وأَصمَّ آذناً وإن كان لغيرِها قد شَنَّفَ). لئن قالوا هذه المقالَةَ وأمثالَها، فإنهم أيضاً بلسانِ المقالِ أو بلسانِ الحالِ يقولون: (من تَخوَّفَ ما ألَّفَ، ومن طَلبَ الكمالَ فإنما طَلبَ المُحَالَ) غير أنني أرجو أن يكونَ شرحي هذا فاتحةَ خيرٍ لشروحٍ أخرى، يَتعرَّضُ أصحابُها لجوانبَ قد أكونُ قصَّرْتُ فيها، ويَكفيني ممن يأتي بعدي: أن يَعترفَ ويدعوَ بمثلِ ما اعْتَرَفَ ودعا به ابنُ مالكٍ لسلفِه ابنِ مُعْطي حيث يقولُ:
وهو بسبْقٍ حائزٌ تفضيلا = مستوجِبٌ ثنائيَ الجميلا
(والله يَقضي بِهِبَاتٍ وافره = لي وله في درجاتِ الآخِرَهْ)
هذا والحمدُ للهِ الذي بنعمتِه تَتِمُّ الصالحاتُ.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ، وآلِه الطاهرين صلاةً وسلاماً دائمَيْن متعاقبَيْن ما دامت الأرضُ والسمواتُ.
المراجع
مجموع الفتاوى.
مجموع الرسائل.
منهاج السنَّة.
موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول.
الرد على المنطقيين.
شرح حديث النزول.
التوسل والوسيلة.
جواب أهل العلْم والإيمان.
اقتضاء الصراط المستقيم: لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية.
مناقب ابن تيمية لابن عبد الهادي.
شرح الطحاوية، لعلي بن علي بن محمَّد ابن أبي العز الأذرعي الدمشقي.
مدارج السالكين.
مختصر الصواعق.
اجتماع الجيوش الإسلامية: للعلامة ابن قيم الجوزية.
المِللُ والنِّحَلُ للشهرستاني.
الفرْق بين الفرْق لعبد القاهر البغدادي.
مقالاَت الإسلاميين لأبي الحسْن الأشعري.
نقض عثمان بن سعيد الدارمي على بشر المريسي.
الرد على الجهمية له أيضاً.
تذكرة الحفاظ للذهبي.
وفيات الأعيان لابن خلكان.
مقدمة ابن خلدون.
الإتقان في علوم القرآن لجلال الدِّين السيوطي.
فتح القدير للشيخ محمَّد بن علي الشوكاني.
فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن.
معارج القَبولِ للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي.
الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية، للشيخ زيد بن فياض.
التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية، للشيخ عبد العزيز بن رشيد.
فتح رب البرية ملخص الفتوى الحموية، للشيخ محمَّد بن عثيمين.