فصلٌ
(ولا تَصِحُّ الدَّعْوَى إلاَّ مُحَرَّرَةً)؛ لأنَّ الحُكْمَ مُرَتَّبٌ عليها؛ ولذلكَ قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَإِنَّمَا أَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ)). ولا تَصِحُّ أيضاًً إلاَّ (معلومةَ المُدَّعَى بهِ)؛ أي: تَكونُ بشيءٍ معلومٍ؛ لِيَتَأَتَّى الإلزامُ، (إلاَّ) الدَّعْوَى بـ (ما تُصَحِّحُهُ مَجْهولاً؛ كالوَصِيَّةِ) بشيءٍ مِن مالِهِ، (و) الدَّعْوَى بـ (عبدٍ مِن عَبِيدِهِ) جَعَلَه (مَهْراً ونحوَه)؛ كعِوَضِ خُلْعٍ، أو أَقَرَّ به، فيُطَالِبُه بما وَجَبَ له، ويُعْتَبَرُ أنْ يُصَرِّحَ بالدَّعْوَى، فلا يَكْفِي: لي عندَه كذا. حتَّى يقولَ: وأنا مُطَالِبٌ به. ولا تُسْمَعُ بِمُؤَجَّلٍ لإثباتِهِ, غيرَ تدبيرٍ واستيلادٍ وكتابةٍ، ولا بُدَّ أنْ تَنْفَكَّ عَمَّا يُكَذِّبُها، فلا تَصِحُّ على إنسانٍ أنه قَتَلَ أو سَرَقَ مِن عِشْرِينَ سَنَةً, وسِنُّه دُونَها، ولا يُعْتَبَرُ فيها ذِكْرُ سببِ الاستحقاقِ.
(وإنِ ادَّعَى عقدَ نِكاحٍ, أو) عقدَ (بيعٍ أو غيرَهما)؛ كإجارةٍ, (فلا بُدَّ مِن ذِكْرِ شُرُوطِهِ)؛ لأنَّ الناسَ مُخْتَلِفُونَ في الشروطِ؛ فقد لا يَكُونُ العقدُ صحيحاً عندَ القاضِي، وإنِ ادَّعَى استدامةَ الزوجيَّةِ, لم يُشْتَرَطْ ذِكْرُ شروطِ العقدِ، (وإنِ ادَّعَتِ امرأةٌ نِكاحَ رَجُلٍ لِطَلَبِ نَفَقَةٍ أو مَهْرٍ أو نَحْوِهما, سُمِعَتْ دَعْوَاها)؛ لأنَّها تَدَّعِي حَقًّا لها تُضِيفُه إلى سَبَبِهِ، (وإنْ لم تَدَّعِ سِوَى النِّكَاحِ) مِن نَفَقَةٍ ومَهْرٍ وغيرِهما, (لم تُقْبَلْ) دَعْوَاها؛ لأنَّ النِّكَاحَ حقُّ الزوجِ عليها، فلا تُسْمَعُ دَعْوَاها بحقٍّ لِغَيْرِها، (وإنِ ادَّعَى) إنسانٌ (الإرثَ, ذَكَرَ سَبَبَه)؛ لأنَّ أسبابَ الإرثِ تَخْتَلِفُ، فلا بُدَّ مِن تَعْيِينِهِ، ويُعْتَبَرُ تَعْيِينُ مُدَّعًى به إنْ كانَ حاضراً بالمجلِسِ، وإحضارُ عينٍ بالبلدِ لِيَتَعَيَّنَ، وإنْ كانَتْ غائبةً, وَصَفَها؛ كسَلَمٍ، والأَوْلَى ذِكْرُ قِيمَتِها أيضاًً.
(وتُعْتَبَرُ عَدَالَةُ البَيِّنَةِ ظَاهِراً وبَاطِناً)؛ لقولِهِ تعالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ}. إلاَّ في عَقْدِ نِكَاحٍ، فتَكْفِي العَدَالَةُ ظَاهِراً, كما تَقَدَّمَ، (ومَن جُهِلَتْ عَدَالَتُه سَأَلَ) القاضِي (عنه) مِمَّن له به خِبْرَةٌ باطنةٌ بصُحْبَةٍ أو معاملةٍ ونحوِهما، وتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ جَرْحٍ على تعديلٍ، وتعديلُ الخَصْمِ وحدَه - أي: تصديقُه للشاهدِ - تعديلٌ له. (وإنْ عَلِمَ) القَاضِي (عَدَالَتَه)؛ أي: عدالةَ الشاهدِ, (عَمِلَ بها), ولم يَحْتَجْ إلى التزكِيَةِ، وكذا لو عَلِمَ فِسْقَه، (وإنْ جَرَّحَ الخَصْمُ الشُّهُودَ كُلِّفَ البَيِّنَةَ به)؛ أي: بالجَرْحِ، ولا بُدَّ مِن بَيَانِ سَبَبِهِ عن رُؤْيَةٍ أو استفاضةٍ. (وأَنْظَرَ) مَنِ ادَّعَى الجَرْحَ (له ثلاثةً, إنْ طَلَبَه، وللمُدَّعِي مُلازَمَتُه)؛ أي: ملازمةُ خَصْمِهِ في مُدَّةِ الانتظارِ؛ لِئَلاَّ يَهْرُبَ، (فإنْ لم يَأْتِ) مُدَّعِي الجَرْحِ (بِبَيِّنَةٍ, حُكِمَ عليه)؛ لأنَّ عَجْزَهُ عن إِقامةِ البَيِّنَةِ على الجَرْحِ في المدَّةِ المذكورةِ دليلٌ على عدمِ ما ادَّعَاهُ. (وإنْ جَهِلَ) القَاضِي (حالَ البيِّنَةِ, طَلَبَ مِن المُدَّعِي تَزْكِيَتَهُمْ)؛ لِتَثْبُتَ عَدَالَتُهم, فيَحْكُمَ له. (ويَكْفِي فيها)؛ أي: في التزكيَةِ (عَدْلاَنِ يَشْهَدَانِ بِعَدَالَتِهِ)؛ أي: بعدالةِ الشاهدِ، (ولا يُقْبَلُ في الترجمةِ وفي التزكيةِ, و) في (الجَرْحِ والتعريفِ) عندَ حاكمٍ, (والرِّسالةِ) إلى قاضٍ آخرَ بكتابةٍ, (إلاَّ قولُ عَدْلَيْنِ) إنْ كانَ ذلكَ فيما يُعْتَبَرُ فيهِ شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ، وإلاَّ فحُكْمُ ذلكَ حُكْمُ الشهادةِ؛ على ما يأتِي تفصيلُه.
وإن قالَ المُدَّعِي: لي بَيِّنَةٌ وأُرِيدُ يَمِينَه. فإنْ كانَتْ بِالمَجْلِسِ, فليسَ له إلاَّ إحداهما، وإلاَّ فله ذلك، وإنْ سَأَلَ مُلازَمَتَه حتَّى يُقِيمَهَا, أُجِيبَ في المجلِسِ، فإنْ لم يُحْضِرْهَا فيه, صَرَفَه؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ له قبلَه حقٌّ حتَّى يُحْبَسَ به.