قوله: (وإذا قال بعض المجتهدين قولاً وانتشر في الباقين وسكتوا، فَعَنْهُ إجماع في التكاليف) تقدم أن الإجماع إمَّا صريح وإما سكوتي، فالصريح أن يبدي كل واحد من المجتهدين رأيه في المسألة، وأمَّا السكوتي فهو أن يقول بعض المجتهدين قولاً، ويسكت الباقون مع اشتهار ذلك القول فيهم، وقدرتهم على إظهار الموافقة أو الإنكار.
وقد اختلف في ذلك هل يكون إجماعاً؟ على أقوال كثيرة...
فالأول: أنه إجماع؛ أي: حجة في الأحكام المتعلقة بالتكليف، وإذا لم يكن الحكم تكليفياً لم يكن إجماعاً ولا حجة، لأن الإجماع أمر ديني، وما ليس تكليفياً ليس دينياً بل دنيوياً، وهذا رواية عن الإمام أحمد، وبه قال بعض المالكية؛ تنزيلاً للسكوت منزلة الرضا والموافقة.
وقول المصنف: (في التكاليف) هذا قيد في الإجماع السكوتي، وليس قيداً لهذا القول كما يظهر، فالإجماع السكوتي لا بُدَّ أن يكون في مسائل التكليف، فقول القائل: عمار أفضل من حذيفة، لا يدل السكوت فيه على شيء؛ إذ لا تكليف على الناس فيه.
قوله: (وقيل: حجة لا إجماع) هذا القول الثاني: وهو أنه حجة ظنية، وليس بإجماع تمتنع مخالفته.
وحجتهم أن حقيقة الإجماع: الاتفاق من الجميع، وهذا لم يتحقق في الإجماع السكوتي؛ لأن السكوت ليس صريحاً في الدلالة على الموافقة، فلا يعتبر إجماعاً، لكن لرجحان دلالته على الموافقة اعتبر حجة ظنية[(780)].
قوله: (وقيل: لا إجماع ولا حجة) هذا القول الثالث: وهو قول الشافعي في الجديد، وقول المالكية وبعض الحنفية والحنابلة، لأنه لا ينسب لساكت قول، ثم إنه لا يجزم بأن هذا الساكت بلغه ذلك القول، أو يكون بلغه وقام مانع من الاعتراض، إمَّا لهيبة القائل، أو لأنه لا يرى الإنكار في مسائل الاجتهاد، أو لكونه يخاف على نفسه، أو أنه أنكر ولم يبلغنا إنكاره، إلى غير ذلك من الاحتمالات الواردة في مثل هذه الحال.
وقد جعل المصنف المسألة عامة في مجتهدي الأعصار، وبعض الأصوليين يخص ذلك بالصحابة رضي الله عنهم دون من بعدهم؛ لأن منصبهم الشريف لا يقتضي السكوت في موضع المخالفة.
وأظهر الأقوال في هذه المسألة: التفصيل. وهو أنه إن علم من قرينة حال الساكت أنه راضٍ بذلك فهو إجماع قولاً واحداً، وإن علم أنه ساخط فليس بإجماع قولاً واحداً، وإن لم يعلم رضا ولا سُخْط فالأظهر أنه إجماع سكوتي ظني[(781)]. لأن غالب هذا النوع مبني على التتبع والاستقراء لأقوال الصحابة والتابعين ـ مثلاً ـ فإذا لم يجد خلافاً من أهل زمانهم أجرى ذلك على أنه إجماع[(782)]. وهو في حقيقته رأي لجماعة من الفقهاء، وقد يظهر مخالف لم يطلع عليه مدعي الإجماع، فيكون ظنياً لا قطعياً، والله أعلم.