تحرير القول في المراد بالعذاب الأدنى في قوله :(ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر).
اختلف العلماء في المراد بالعذاب الأدنى على أقوال:
الأول: أن المراد به عذاب الله للمشركين يوم بدر, وهو قول لأبي بن كعب وروي عنه, وعبدالله.
وبعضهم عمم في أن المراد بذلك القتل بالسيف صبرا بوجه عام, وهو قول الحسن بن علي, وعبدالله بن الحارث بن نوفل.
التخريج:
-أما قول أبي بن كعب فرواه الصنعاني في تفسيره عن معمر عن قتادة عنه, ورواه الطبري في تفسيره قال: حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: كان مجاهدٌ يحدّث عنه أنه كان يقول يذلك.
-أما قول عبدالله فرواه الثوري في تفسيره عن السدي عن أبي لضحى عن مسروق عنه, ورواه الطبري في تفسيره قال: حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا سفيان، عن السّدّيّ، عن أبي الضّحى، عن مسروقٍ، عنه, وذكره كذلك من طرق أخر.
-أما قول الحسن بن علي فرواه الطبري في تفسيره قال: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا عوفٌ، عمّن حدّثه عنه.
-وأما قول عبدالله بن الحارث بن نوفل فرواه الطبري في تفسيره قال: حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا عبد الأعلى، عن عوفٍ، عنه.
القول الثاني: قيل: المصائب في الأموال والأولاد, وقيل: عقوبات الدنيا, وقد يدخل الأول تحت الثاني لسعته, وهذا قول الحسن, وإبراهيم, وروي عن أبي بن كعب, وابن عباس, وأبو العالية, والضحاك, والحسن, وابن زيد.
التخريج:
-أما قول الحسن فرواه الصنعاني في تفسيره عن معمر عنه.
-وأما قول إبراهيم فرواه النهدي عن الثوري عن عن منصور عنه, ورواه الطبري في تفسيره قال: حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عنه.
-وأما قول أبي بن كعب فرواه أحمد بن حنبل في مسنده عن عَبْد اللَّهِ عن عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ عن يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَزْرَةَ عَنْ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عنه, ورواه مسلم في صحيحه عن مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ عن مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عن شُعْبَةُ عن أَبُي بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عن غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَزْرَةَ عَنْ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عنه, ورواه الطبري في تفسيره عن ابن المثنّى، قال: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، عن شعبة، عن قتادة، عن عزرة، عن الحسن العرنيّ، عن ابن أبي ليلى، عن أبيّ بن كعبٍ, عنه (قال أبو موسى: ترك يحيى بن سعيدٍ يحيى بن الجزّار، نقصان رجلٍ), ورواه كذلك عن طريق يحيى بن سعيد كما جاء في مسند الإمام أحمد عنه, ورواه كذلك بطرق مختلفة عنه.
-وأما قول ابن عباس فرواه الطبري في تفسيره عن عليٌّ عن أبي صالحٍ عن معاوية عن عليٍّ عنه, وعن محمّد بن سعدٍ عن أبيه عن عمّه عن أبيه عن أبيه عنه.
-وأما قول أبي العالية فرواه الطبري في تفسيره قال: حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن أبي جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع، عنه.
-وأما قول الضحاك فرواه الطبري في تفسيره قال: حدّثنا أبو خالدٍ الأحمر، عن جويبرٍ، عنه.
-وأما قول الحسن فرواه الطبري في تفسيره قال: حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، حدّثه عنه.
-وأما قول ابن زيد غرواه الطبري في تفسيره قال: حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: وذكر قوله.
القول الثالث: سنون أصابتهم, وهو قول عبدالله, وإبراهيم, وابن مسعود.
التخريج:
-أما قول عبدالله فرواه النسائي في سننه عن عمرو بن عليٍّ عن عبد الرّحمن بن مهديٍّ عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص وأبي عبيدة عنه.
-وأما قول إبراهيم فرواه الطبري في تفسيره قال: حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا سفيان، عن منصورٍ، عنه, ورواه كذلك بطريق آخر.
-وأما قول ابن مسعود فرواه الهمذاني في (تفسير مجاهد) فقال: نا إبراهيمنا آدم نا إسرائيل عن أبي إسحق الهمذاني عن أبي الأحوص عنه, والحاكم في مستدركه قال: أخبرنا أبو العبّاس محمّد بن أحمد المحبوبيّ، ثنا أحمد بن سيّارٍ، ثنا محمّد بن كثيرٍ، ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضّحى، عن مسروقٍ، عنه, وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
القول الرابع: الحدود, وهو قول مروي عن ابن عباس.
التخريج:
-أما قول ابن عباس فرواه الطبري في تفسيره قال: حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، عن شبيبٍ، عن عكرمة، عنه.
القول الخامس: أن الآية مخصوصة بقريش وأن المراد القتل والجوع لهم في الدنيا, وهو قول مجاهد.
التخريج:
-أما قول مجاهد فرواه الطبري في تفسيره قال: حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا، عن ابن أبي نجيحٍ، عنه.
القول السادس: عذاب القبر, وهو قول مجاهد.
التخريج:
-أما قول مجاهد فرواه الطبري في تفسيره قال:حدّثني محمّد بن عمارة، قال: حدّثنا عبيد اللّه، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عنه.
الدراسة:
-أما القول الأول: فمبناه على أن الخطاب في الآيات لمشركي مكّة، وأنّ المراد بالعذاب الأدنى هو ما رأوه من عذاب وبطش يوم بدر, وهو قول صحيح, زاد من قوته قول كثير من السلف به, ويدخل تحته من قال بأن المراد بذلك هو القتل صبرا ولم يحدد يوما بعينه.
-وأما القول الثاني: وهو القول بأنه مصائب الدنيا عامة, فهو قول صحيح, تؤكده عمومية ألفاظ القرآن والذي يعتبر موجها للبشرية جمعاء, وأميل إليه وذلك لورود كثير من أقوال السلف به, ولعموميته واندراج كل معنى من المعاني غيره تحته, كما ذكر السيوطي حديثا إن صح كان الحجة في صحة هذا القول بلا شك, ذكره عن ابن مردويه, لكنني مع الأسف لم أستطع العثور على الحديث من مصدره, ولست ذات معرفة بعلم التخريج لأعرف صحة الحديث من عدم صحته, وقد بحثت عنه في موقع الدرر السنية فلم أجد له أثرا, لكني سأذكره تقوية لهذا القول ودعما له, قال السيوطي: (أخرج ابن مردويه عن أبي ادريس الخولاني رضي الله عنه قال: سألت عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن قول الله {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال هي المصائب والاسقام والانصاب عذاب للمسرف في الدنيا دون عذاب الآخرة قلت: يا رسول الله فما هي لنا قال: زكاة وطهور).
-وأما القول الثالث: وهو القول بأنها سنون أصابتهم, فهو كذلك صحيح ولا يمكن معارضته لا سيما وقد روي عن أحد الصحابة صحيحا.
-وأما القول الرابع: وهو القول بأنها الحدود, لا أعلم لكن أجدها بعيدة في الإصابة أو في وصف المعنى المراد بدقة, فالقول بأن إقامة الحد عليهم فيه نوع من الغرابة, أعني أن الحد فيما أعلم المراد به التطهير, وبالتالي فهو خاص بالمؤمنين, أما ما حدث لكفار قريش فهو عذاب المراد به الانتقام ونصرة المؤمنين, لا سيما أن سياق الآيات كان في الحديث عن الكفار, كما يتضح ذلك في الآية التي قبلها, ولعل مما يقوي رأيي هو أن راوي هذا القول تفرد به وهو ابن عباس, ناهيك عن أنه روى غيره من الأقوال التي نالت حظا وتأييدا من السلف وتعد أقوى, ولا أعني هنا أن هذا القول مناقض لغيره, لكني أجده بعيدا في إصابته للمعنى المقصود في الآية, والله أعلم إن كنت أصبت, فلست ممن يستحقون هذه المرحلة من النقد لروايات السلف رضي الله عنهم, لكنها محاولات للنبوغ والترقي في درجات العلم, فنسأل الله التوفيق والسداد.
-وأما القول الخامس: وهو القول بأن المراد هو القتل والجوع لقريش في الدنيا, فهو كذلك قابل لدخوله تحت معنى الآية, وقد يدخل كذلك في أنه هو السنون التي أصابت قريش, وقد يكون أعم من تلك السنين لذا ذكرته كقول لوحده, لأنه قد يكون عاما من حيث الوقوع, وخاصا في القوم الذين نزلت فيهم الآية وهم قريش بناء على هذا القول.
-وأما القول السادس: وهو القول بأنه عذاب القبر, فلست أرى له وجاهة وذلك لأن ختام الآية بقوله :(لعلهم يرجعون) يوحي بأن المراد من هذا العذاب التحذير والتخويف للتوبة والإنابة, وهذا ما لا يمكن أن يكون بعد الموت وفي القبر, حيث أن العذاب هناك عذاب من باب العقوبة, ولا مجال للتوبة والإنابة, وقد روى القرطبي عن القشيري قوله بذلك, ثم عقب بأنه فيه نظر, نظرا لختام الآية.
أقوال أخرى ذكرت في مصادر ناقلة من غير ذكر الأسانيد:
-قيل: المراد به: غلاء السعر. ذكره الماوردي والقرطبي نقلا عن جعفر الصادق, وهذا القول يدخل تحت القول بأن المراد به (مصائب الدنيا عامة).
-وقيل: أن العذاب الأدنى يكون في المال. قال به الماوردي, وهذا القول كذلك يدخل تحت القول بأن المراد به (مصائب الدنيا عامة).
القول الراجح: هو القول بالجمع بين الأقوال _ما عدا القول بأنه عذاب القبر لوضوح تعارضه مع سياق الآية_ لا سيما أن اختلافها اختلاف تنوع لا تعارض, وقد يكون القول بأنه مصائب الدنيا عامة هو القول الأكثر شمولا والذي يدخل تحته بقية الأقوال, فأما الأقوال التي خصت قريشا بالآية إما بأن المراد يوم بدر أو السنون التي أصابتهم أو الجوع الذي أصابهم فلا يتنافى من أنه كان خطابا موجها إليهم بالدرجة الأولى, ولكنه كذلك موجه لعامة الناس بالدرجة الثانية كما عودنا على ذلك الخطاب القرآني العمومي, فما دام ليس هنالك قرينة تمنع من عموم المعنى فلا يمنع ذلك من أن المعنى يشمل كل من عاند وضل, وذلك ابتداء بكفار قريش, وانتهاء بكل من سلك مسلكهم.
وقد أشار إلى مثل ذلك ابن جرير فقال: وأولى الأقوال في ذلك أن يقال: إنّ اللّه وعد هؤلاء الفسقة المكذّبين بوعيده في الدّنيا العذاب الأدنى، أن يذيقهموه دون العذاب الأكبر، والعذاب: هو ما كان في الدّنيا من بلاءٍ أصابهم، إمّا شدّةٌ من مجاعةٍ أو قتلٍ، أو مصائب يصابون بها، فكلّ ذلك من العذاب الأدنى، ولم يخصّص اللّه تعالى ذكره، إذ وعدهم ذلك أن يعذّبهم بنوعٍ من ذلك دون نوعٍ، وقد عذّبهم بكلّ ذلك في الدّنيا بالقتل والجوع والشّدائد والمصائب في الأموال، فأوفى لهم بما وعدهم.