فَصلٌ: مِن هذهِ الحُرُوفِ ما لَفظُهُ مُشتَرَكٌ بينَ الحَرفِيَّةِ والاسمِيَّةِ، وهو خَمسَةٌ:
أَحَدُهَا: الكَافُ، والأصَحُّ أَنَّ اسمِيَّتَهَا مَخصُوصَةٌ بالشِّعرِ([1]) كقولِه:
303- يَضْحَكْنَ عَنْ كَالبَرَدِ المُنْهَمِّ([2]) والثَّانِي والثَّالِثُ: عَنْ وعَلَى، وذلك([3]) إذا دَخَلَت عليهِمَا (مِنْ) كقولِهِ:
304- مِنْ عَنْ يَمِينِي مَرَّةً وَأَمَامِي([4]) وقَولِه:
305- غَدَت مِنْ عَلَيهِ بَعدَمَا تَمَّ ظِمْؤُهَا([5])
([1])ذَكَرَ المُؤَلِّفُ في (المُغْنِي) أنَّ القَولَ بأنَّ اسمِيَّةَ الكَافِ مَخصُوصَةٌ بالشِّعرِ هو قَولُ المُحَقِّقِينَ وسِيبَوَيْهِ، وقد قَالَ كَثِيرٌ؛ مِنهُم الفَارِسِيُّ والأَخْفَشُ: يَجُوزُ أن تَجعَلَ الكَافَ اسماً بمَعنَى (مِثلَ) في سَعَةِ الكَلامِ. وعندَ هؤلاءِ إذا قُلْتَ: (مُحَمَّدٌ كَالأَسَدِ) يَجُوزُ أَن تُعرِبَ الكَافَ اسماً بمَعنَى (مِثلَ) خَبَراً عن المُبتَدَأِ مَبْنيًّا على الفَتحِ في مَحَلِّ رَفعٍ، و(الأَسَدِ) مُضَافٌ إِلَيهِ، كما لو قُلْتَ: (مُحَمَّدٌ مِثلُ الأَسَدِ).
وجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الضَّمِيرَ المَجرُورَ بفِي مِن قَولِهِ تَعَالَى: {أَنِّي أَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ} رَاجِعاً إِلَى الكَافِ التي في (كَهَيْئَةِ)، وقَد عَلِمْنَا أنَّ الضَّمِيرَ لا يَرجِعُ إلى الأَسْمَاءِ.
وقَد رَدَّ ابنُ هِشَامٍ ذلكَ علَى الزَّمَخْشَرِيِّ بما حَاصِلُهُ أنَّهُ لو صَحَّ أن تَكُونَ الكَافُ اسماً لسُمِعَ نَحوُ (مَرَرْتُ بِكَالأَسَدِ) يعنِي: لدَخَلَ علَيهِ حَرفُ الجَرِّ؛ لأنَّهُ عَلامَةٌ مِن عَلامَاتِ اسمِيَّةِ الكَلِمَةِ، ونَستَبْعِدُ أن يُريدَ البَاءَ بِخُصُوصِهَا مِن بَينِ حُرُوفِ الجَرِّ، وإِن كَانَت البَاءُ نَفسُهَا قد دَخَلَت على الكَافِ، كما سَتَسْمَعُ فيمَا نَرْوِيهِ لكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ.
قالَ أَبُو رَجَاءٍ عَفَا اللَّهُ تَعَالَى عَنهُ: وهذَا الرَّدُّ في غَايَةِ الضَّعفِ؛ لِوَجْهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن تَخَلُّفِ عَلامَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِن عَلامَاتِ الاسمِيَّةِ عَدَمُ اسمِيَّةِ الكَلِمَةِ، لِجَوَازِ أن تَكُونَ عَلامَةُ اسمِيَّتِهَا غَيرَ هذِه العَلامَةِ، كَعَودِ الضَّمِيرِ إليهَا.
والوَجهُ الثَّانِي: أنَّهُ سُمِعَ فِعلاً دُخُولُ حَرفِ الجَرِّ على الكَافِ، ومنهُ ما استَشْهَدَ بهِ ابنُ هِشَامٍ نَفسُهُ مِن قَولِ العَجَّاجِ:
*يَضْحَكْنَ عَنْ كَالبَرَدِ المُنْهَمِّ*
ومَا سَنَذْكُرُه مِنَ الشَّوَاهِدِ في شَرحِ الشَّاهِدِ رَقْمِ 303 الآتِي بَعدَ هذِه الكَلِمَةِ.
([2])303-هَذا الشَّاهِدُ مِن كلامِ العَجَّاجِ بنِ رُؤبَةَ الرَّاجِزِ المَشهُورِ، وهو يَصِفُ فيهِ نِسْوَةً، وقبلَ هذا البَيتِ قَولُه:
وَلاَ تَلُمْنِي اليَوْمَ يَابْنَ عَمِّي = عِندَ أَبِي الصَّهْبَاءِ أَقْصَى هَمِّي
بِيضٌ ثَلاثٌ كَنِعَاجِ جُمِّ = يَضْحَكْنَ عَنْ كَالبَرَدِ المُنْهَمِّ
*تَحتَ عَرَانِينِ أُنُوفٍ شُمِّ*
اللُّغَةُ: (أَبُو الصَّهبَاءِ) كُنيَةُ رَجُلٍ، و(أَقْصَى هَمِّي بِيضٌ) جُملَةٌ مِن مُبتَدَأٍ وخَبَرٍ، ومنهُ تَعْلَمُ فَسَادَ إِعرَابِ الشَّيخِ خَالِدٍ، و(نِعَاجٍ) جَمعُ نَعجَةٍ، وبهَا تُكَنِّي العَرَبُ عَن المَرْأَةِ، وبهَا فُسِّرَ قَولُه تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} و(جُمِّ) بضَمِّ الجِيمِ – جَمعُ جَمَّاءَ، وهي التي لا قَرْنَ لَهَا، و(يَضْحَكْنَ عَن كَالبَرَدِ)– البَيتَ، البَرَدُ – بفَتحِ البَاءِ والرَّاءِ جَمِيعاً – حَبُّ الغَمَامِ، وهو ما يَنزِلُ مِن السَّحَابِ شِبهُ الحَصَى الصِّغَارِ، ويُقَالُ لهُ: (حَبُّ المُزْنِ) أَيضاً، (المُنْهَمِّ) الذَّائِبُ، قالَ الجَوْهَرِيُّ (انْهَمَّ البَرَدُ والشَّحمُ: ذَابَ) شَبَّهَ ثَغْرَ النِّسَاءِ بِالبَرَدِ الذَّائِبِ في الجَلاءِ واللَّطَافَةِ (تَحتَ عَرَانِينِ أُنُوفٍ شُمِّ) العَرَانِينِ: جَمعُ عِرْنِينٍ، وهو ما تَحتَ مُجتَمَعِ الحَاجِبَينِ مِن الأَنفِ، والشُّمِّ – بضَمِّ الشِّينِ وتَشدِيدِ المِيمِ – جَمعُ أَشَمَّ، وهو وَصفٌ مِن الشَّمَمِ، والشَّمَمُ – بفَتحِ الشِّينِ والمِيمِ الأُولَى جَمِيعاً – ارتِفَاعُ قَصَبَةِ الأَنْفِ معَ استِوَاءِ أَعلاهُ, فإِن كانَ ثَمَّةَ احدِيدَابٌ فهو القَنَا، والأَنفُ أَقْنَى.
الإِعرَابُ: (يَضْحَكْنَ) يَضْحَكُ: فِعلٌ مُضَارِعٌ مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ لاتِّصَالِهِ بنُونِ النِّسْوَةِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، ونُونُ النِّسْوَةِ العَائِدُ علَى النِّعَاجِ فَاعِلُهُ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ في مَحَلِّ رَفعٍ، والجُملَةُ مِن الفِعلِ المُضَارِعِ وفَاعِلِه في مَحَلِّ رَفعٍ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لـ(بِيضٌ ثَلاثٌ)، والصِّفَةُ الأُولَى هي مُتَعَلِّقُ الجَارِّ والمَجرُورِ في قَولِه: (كَنِعَاجٍ جُمِّ) وقَولِه: (عن) حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، (كَالبَرَدِ) الكَافُ اسمٌ بمَعنَى مِثلَ مَبنِيٌّ على الفَتحِ في مَحَلِّ جَرٍّ بِعَن، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِيضْحَكُ، والكَافُ الاسمِيَّةُ مُضَافٌ، والبَرَدُ مُضَافٌ إِلَيهِ مَجرُورٌ بِالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ، (المُنْهَمِّ) صِفَةٌ لِلبَرَدِ مَجرُورَةٌ بِالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَولُهُ: (عَن كَالبَرَدِ) فَإِنَّ الكَافَ في هذه العِبَارَةِ اسمٌ بِمَعنَى مِثلَ، بدَلِيلِ دُخُولِ حَرفِ الجَرِّ الذي هو (عن) علَيها، وقَد عَلِمْنَا أنَّ حَرفَ الجَرِّ لا يَدخُلُ إلا على الاسمِ.
وهُنا أَمرَانِ لا بُدَّ أن نُشِيرَ إلَيهِمَا بِكَلِمَةٍ لمَا ذَكَرْنَاهُ قَبلَ شَرحِ هذا الشَّاهِدِ مُبَاشَرَةً:
الأَمرُ الأَوَّلُ: أنَّ العُلَمَاءَ أَجْمَعُوا علَى أنَّ الكَافَ تَأتِي اسماً بِمَعنَى مِثلَ.
الأَمْرُ الثَّانِي: بعدَ اتِّفَاقِهِم على مَجِيءِ الكَافِ اسماً بمَعنَى (مِثلَ) اختَلَفُوا: هَل يَختَصُّ ذلك بِضَرُورَةِ الشِّعرِ أَو لا؟ فذَهَبَ الأَخْفَشُ والفَارِسِيُّ وابنُ مَالِكٍ إلى أنَّهُ لا يَخْتَصُّ ذلك بِضَرُورَةِ الشِّعرِ، وهؤُلاءِ جَوَّزُوا في نَحوِ قَولِكَ: (زَيدٌ كَالأَسَدِ) أن تَكُونَ الكَافُ حَرفَ جَرٍّ، وأن تَكُونَ اسماً بِمَعنَى (مِثلَ) أُضِيفَ إلى الأَسَدِ، قالُوا: والدَّلِيلُ علَى صِحَّةِ ما ذَهَبَ هؤلاءِ إليه كَثرَةُ مَجِيئِهِ في كلامِ الفُحُولِ مِن الشُّعَرَاءِ، مِثلَ قَولِ ذِي الرُّمَّةِ:
أَبِيتُ عَلَى مَيٍّ كَئِيباً وَبَعْلُهَا = عَلَى كَالنَّقَا مِنْ عَالِجٍ يَتَبَطَّحُ
فإنَّ الكَافَ في قَولِهِ: (كَالنَّقَا) اسمٌ بِمَعنَى مِثلَ، بدَلِيلِ دُخُولِ حَرفِ الجَرِّ الذي هو على علَيها؛ لأنَّكَ تَعلَمُ أنَّ حَرفَ الجَرِّ لا يَدخُلُ إلا على الاسمِ.
ونَظِيرُهُ قَولُ امْرِئِ القَيْسِ يَصِفُ فَرَساً:
وَرُحْنَا بِكَابْنِ المَاءِ يُجْنَبُ وَسْطَنَا = تَصَوَّبُ فِيهِ العَينُ طَوْراً وَتَرْتَقِي
الشَّاهِدُ فيهِ: قَولُهُ: (بِكَابْنِ المَاءِ) ووَجهُ الاستِشهَادِ دُخُولُ البَاءِ علَى الكَافِ.
وقَولُ الكُمَيْتِ بنِ زَيدٍ الأَسْدِيِّ:
عَلَينَا كَالنِّهَاءِ مُضَاعَفَاتٌ = مِنَ المَاذِيِّ لَمْ تُوذِ المُتُونَا
وقَولُ الأَعْشَى مَيمُونِ بنِ قَيسٍ:
أَتَنْتَهُونَ وَلَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ = كَالطَّعْنِ يَهْلِكُ فِيهِ الزَّيتُ والفُتُلُ
وقَولُ امرِئِ القَيسِ بنِ حُجْرٍ أَيضاً:
وَإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ علَيكَ كَفَاخِرٍ = ضَعِيفٍ وَلَمْ يَغْلِبْكَ مِثلُ المُغَلَّبِ
وقَولُ الشَّاعِرِ:
تَيَّمَ القَلْبَ حُبُّ كَالبَدْرِ لا بَلْ = فَاقَ حُسْناً مَنْ تَيَّمَ القَلْبَ حُبَّا
ومعَ كَثرَةِ هذه الشَّوَاهِدِ لا يَجُوزُ أن يُقَالَ: إنَّ سَبِيلَ ذلك ضَرُورَةُ الشِّعرِ، وتَأوِيلُ هذه الأَبْيَاتِ بحَملِ الكَافِ وما بَعدَهَا علَى أنَّهُمَا جَارٌّ ومَجرُورٌ في مَحَلِّ صِفَةٍ لمَوصُوفٍ مَحذُوفٍ يَقَعُ مُبتَدَأً أو فَاعِلاً أَو مُضَافاً إِلَيهِ أو نَحوَ ذلك، مِمَّا يُبعِدُ الثِّقَةَ بِدِلالَةِ الكَلامِ على ما يُستَدَلُّ به عَلَيهِ، فإنَّهُ ما مِن كَلامٍ إلا ويُمكِنُ التَّأْوِيلُ فِيهِ، وسَبِيلُ الشَّوَاهِدِ العَرَبِيَّةِ أن تُحمَلَ على ظَاهِرِهَا، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ علَى أنَّ هذا الظَّاهِرَ غيرُ صَحِيحٍ، فحِينَئِذٍ يَصِحُّ أن يُذْهَبَ إلى التَّأْوِيلِ، فاعرِفْ هذا، وكُنْ مِنهُ علَى ثَبْتٍ، واللَّهُ تَعَالَى المَسؤُولُ أن يَنْفَعَكَ بِهِ.
([3])قد تَبِعَ المُؤَلِّفُ – في تَحدِيدِ المَوضِعِ الذي تَكُونُ على وعن فيه اسمَينِ بدُخُولِ (مِن) علَيهِمَا– ظَاهِرَ عِبَارَةِ ابنِ مَالِكٍ، معَ أنَّها عندَ التَّحقِيقِ لا تَدُلُّ على اختِصَاصِ اسمِيَّتِهِمَا بدُخُولِ (مِن)، والحَقُّ أنَّ قَولَهُ: (مِن أَجْلِ ذَا عَلَيهِمَا مِن دَخَلا) ليسَ ضَابِطاً بل هو دَلِيلُ اسمِيَّتِهِمَا؛ لأنَّ حَرفَ الجَرِّ لا يَدخُلُ على الحَرفِ، ألا تَرَى أنَّ (على) قَد دَخَلَت على (عن) في قَولِهِ:
*علَى عَنْ يَمِينِي مَرَّتِ الطَّيْرُ سُنَّحاً*
وسَنَذْكُرُه كَامِلاً في آخِرِ شَرْحِ الشَّاهِدِ رَقْمِ 304 الآتِي.
([4])304-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ قَطَرِيِّ بنِ الفُجَاءَةِ التَّمِيمِيِّ الخَارِجِيِّ، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ عَجُزُ بَيتٍ مِن الكَامِلِ، وصَدرُهُ قَولُهُ:
*فَلَقَدْ أَرَانِي لِلرِّمَاحِ دَريئَةً*
اللُّغَةُ: (دَرِيئَةً) الدَّرِيئَةُ – بفَتحِ الدَّالِ – الغَرَضُ الذي يُنصَبُ لِيُتَعَلَّّمَ عليه الرَّمْيُ, وتَحتَمِلُ جُملَةُ (أَرَانِي لِلرِّمَاحِ دَرِيئَةً) مَعنَيَينِ، أَحَدُهُمَا: أنَّهُ وَصَفَ نَفسَهُ بِكَونِهِ فَارِساً شُجَاعاً، وأنَّهُ يَصْبِرُ على الجِلادِ ويُقِيمُ في مَعْمَعَةِ الحَربِ حينَ يَفِرُّ الأَبطالُ ويَنهَزِمُ الكُمَاةُ، فتَتَقَاذَفُ نَحوَهُ رِمَاحُ الأَعدَاءِ، وتَتَرامَى علَيهِ نِبَالُهُم، فتَارَةً تَأتِيهِ مِن هَهُنَا، وتَارَةً تَأتِيهِ مِن ههُناكَ، والمَعنَى الثَّانِي: أنَّ أَصحَابَهُ المُحَارِبِينَ معَهُ يَتَّخِذُونَهُ جُنَّةً لَهُم ووِقَايَةً يَتَّقُونَ به رَمَايَا الأَعدَاءِ، فيُقَدِّمُونَهُ علَيهِم ثِقَةً برَبَاطَةِ جَأْشِهِ واجتِمَاعِ خِصَالِ الصَّبرِ والإقدَامِ والمَهَارَةِ فيه، (مِن عَن يَمِينِي) أَرَادَ:مِن جِهَةِ يَمِينِي.
الإعرابُ: (وَلَقَد) الوَاوُ حَرفُ قَسَمٍ وجَرٍّ، والمُقْسَمُ بهِ مَحذُوفٌ، وكأنَّهُ قد قَالَ: واللَّهِ لَقَدْ أَرَانِي – إِلَخّ، واللاَّمُ واقِعَةٌ في جَوَابِ القَسَمِ المُقَدَّرِ، وقَدْ: حَرفُ تَحقِيقٍ مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، (أَرَانِي) أَرَى: فِعلٌ مُضَارِعٌ مَرفُوعٌ بِضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ على الألِفِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا التَّعَذُّرُ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجُوباً تقدِيرُهُ (أنا)، والنُّونُ لِلوِقَايَةِ، ويَاءُ المُتَكَلِّمِ مَفعُولٌ به أَوَّلُ لأرَى، وهذِه الأَفعَالُ القَلْبِيَّةُ تَختَصُّ مِن بَينِ سَائِرِ الأَفْعَالِ بأَن يَكُونَ فَاعِلُهَا ومَفعُولُها ضَمِيرَينِ لِشَيءٍ وَاحِدٍ كما هنا؛ فإنَّ الفَاعِلَ والمَفعُولَ ضَمِيرَانِ لِلمُتَكَلِّمِ، وغَيرَها مِن الأفعَالِ لا يَجُوزُ فيه ذلك؛ فلا تَقُولُ: ضَرَبْتُنِي، ولا: أَكْرَمْتُنِي – بتَاءِ المُتَكَلِّمِ – وإِن أَرَدْتَ هذا المَعنَى قُلتَ: ضَرَبْتُ نَفْسِي وأَكْرَمْتُ نَفْسِي، كما قالَ أَبُو الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي:
وَأُكْرِمُ نَفْسِي إِنَّنِي إِنْ أَهَنْتُهَا = وَحَقِّكَ لَمْ تَكْرُمْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدِي
(للرِّمَاحِ) جَارٌّ ومَجرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ حَالٌ مِن (دَرِيئَةً) الآتِي، وكانَ أَصلُهُ وَصفاً، فلمَّا تَقَدَّمَ أُعرِبَ حَالاً، (دَرِيئَةً) مَفعُولٌ ثَانٍ لأرى مَنصُوبٌ بالفَتحَةِ الظَّاهِرَةِ، (مِن) حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، (عَن) اسمٌ بمَعنَى جِهَةٍ أو جَانِبٍ أو نَحوِ ذَلك مَبنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ بمِن، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بفِعْلٍ دَلَّ علَيهِ قَولُهُ: (أَرَانِي للرِّمَاحِ دَرِيئَةً)، وكَأَنَّهُ قد قالَ: تَجِيئُنِي هذِه الرِّمَاحُ مِن جِهَةِ يَمِينِي تَارَةً، وعَن؛ مُضَافٌ، ويَمِينٌ مِن (يَمِينِي) مُضَافٌ إليهِ مَجرُورٌ بِكَسرَةٍ مُقَدَّرَةٍ على آخِرِهِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا اشتِغَالُ المَحَلِّ بِحَرَكَةِ المُنَاسَبَةِ ليَاءِ المُتَكَلِّمِ، ويَمِين مُضَافٌ ويَاءُ المُتَكَلِّمِ مُضَافٌ إليه مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ، (تَارَةً) ظَرفٌ مُتَعَلِّقٌ بذلك الفِعلِ المَحذُوفِ المَدْلُولِ علَيهِ بمَا تَقَدَّمَ، (وأَمَامِي) الواوُ حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ، أَمَامَ: مَعطُوفٌ على يَمِينِي، والمَعطُوفُ على المَجرُورِ مَجرُورٌ، وعَلامَةُ جَرِّهِ كَسرَةٌ مُقَدَّرَةٌ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا اشتِغَالُ المَحَلِّ بالحَرَكَةِ المَأتِيِّ بِها لأجلِ مُنَاسَبَةِ يَاءِ المُتَكَلِّمِ، وهو مُضَافٌ ويَاءُ المُتَكَلِّمِ مُضَافٌ إِلَيهِ مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَولُه: (مِن عَنْ يَمِينِي) فإنَّ (عَن) في هذه العِبَارَةِ اسمٌ بمَعنَى جَانِبٍ أو جِهَةٍ، بدَلِيلِ دُخُولِ حَرفِ الجَرِّ علَيهِ وهو (مِن)، وقَد عُلِمَ أنَّ حَرفَ الجَرِّ لا يَتَّصِلُ إلا بِالأَسْمَاءِ.
ومِثلُ هذا البَيتِ في دُخُولِ (مِن) على (عَن) قَولُ مُزَاحِمٍ العُقَيْلِيِّ يَصِفُ قَطَاةً، وهُو الشَّاهِدُ الآتِي رَقمُ 305، وقد تَدْخُلُ (على) علَيهَا كما في قَولِ الشَّاعِرِ الذي سَبَقَت الإشَارَةُ إليه في ص51.
عَلَى عَنْ يَمِينِي مَرَّتِ الطَّيْرُ سُنَّحاً = وَكَيفَ سُنُوحٌ وَاليَمِينُ قَطِيعُ
([5])305-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ مُزَاحِمِ بنِ الحَارِثِ العُقَيْلِيِّ، يَصِفُ قَطَاةً، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ صَدْرُ بيتٍ مِن الطَّوِيلِ، وعَجُزُهُ قَولُهُ:
*تَصِلُّ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَيْزَاءَ مَجْهَلِ*
اللُّغَةُ: (غَدَتْ) بِمَعْنَى صَارَتْ، ولَيسَ مَقصُوداً به الغُدْوَةُ، والضَّمِيرُ المُستَتِرُ فيه عَائِدٌ إلى القَطَاةِ، و(تَمَّ)؛ أي: كَمُلَ، وقَولُهُ: (ظِمْؤُهَا) هو بِكَسْرِ الظَّاءِ وسُكُونِ المِيمِ بعدَهَا هَمزَةٌ – مُدَّةُ صَبْرِهَا عَن المَاءِ ما بينَ الشِّربِ والشِّرْبِ، و(تَصِلُّ)؛ أي: تُصَوِّتُ، و(قَيْضٍ) بفَتحِ القَافِ وسُكُونِ اليَاءِ وآخِرُهُ ضَادٌ مُعجَمَةٌ – هو القِشْرُ الأَعْلَى لِلبَيضِ، و(بِزَيْزَاءَ) بِزَاءَينِ بينَهُمَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ – بمَعنَى بَيدَاءَ، ويُروَى في مَكَانِهِ (بِبَيدَاءَ)، وقَولُهُ: (مَجْهَلِ)؛ أي: قَفْرٍ ليسَ فيها أَعلامٌ يُهتَدَى بها.
المَعْنَى: يَذْكُرُ أنَّ هذه القَطَاةَ ذَهَبَت مِن فَوقِ أَفرَاخِها بعدَ أن تَمَّ صَبرُها على المَاءِ، وذَهَبَت عَن قِشرِ بَيضِها الذي أَفْرَخَ تَارِكَةً إيَّاهُ بِبَيدَاءَ لا يُهتَدَى فيها بِعَلَمٍ.
الإِعرَابُ: (غَدَتْ) غَدَا: فِعلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ بمَعنَى صارَ مَبنِيٌّ على فَتحٍ مُقَدَّرٍ علَى الأَلِفِ المَحذُوفَةِ للتَّخَلُّصِ مِن التِقَاءِ السَّاكِنَينِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، والتَّاءُ حَرفٌ دَالٌّ علَى تَأْنِيثِ المُسنَدِ إِلَيهِ مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ، واسمُ غَدَت ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقدِيرُهُ (هي) يَعُودُ إلى القَطَاةِ المَوصُوفَةِ بهذا البَيتِ وما قَبْلَهُ مِن الأَبْيَاتِ، (مِن) حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، (عَلَيهِ) علَى: اسمٌ بمَعنَى (فَوقَ) أو (عندَ) مَبنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ بمِن، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ خَبَرُ (غَدَا) الذي بمَعنَى صَارَ، وعلَى مُضَافٌ وضَمِيرُ الغَائِبِ العَائِدِ إلى بَيضِ القَطَاةِ مُضَافٌ إِلَيهِ مَبنِيٌّ على الكَسْرِ في مَحَلِّ جَرٍّ، (بَعْدَ) ظَرفُ زَمَانٍ مَنصُوبٌ بِغَدَت، وعَلامَةُ نَصبِهِ الفَتحَةُ الظَّاهِرَةُ، (ما) حَرفٌ مَصدَرِيٌّ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ، (تَمَّ) فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، (ظِمْؤُهَا) ظِمْءُ: فَاعِلُ تَمَّ مَرفُوعٌ بِالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وهو مُضَافٌ وضَمِيرُ الغَائِبَةِ العَائِدُ إلى القَطَاةِ مُضَافٌ إليه مَبنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ، ومَا المصْدَرِيَّةُ معَ ما دَخَلَت عليه في تَأْوِيلِ مَصدَرٍ مَجرُورٍ بِإِضَافَةِ (بعدَ) إليه، وتَقدِيرُ الكلامِ: بَعدَ تَمَامِ ظِمْئِهَا، (تَصِلُّ) فِعلٌ مُضَارِعٌ مَرفُوعٌ لِتَجَرُّدِه مِن النَّاصِبِ والجَازِمِ، وعلامَةُ رَفعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ، وفَاعِلُه ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوازاً تَقدِيرُهُ (هي) يعودُ إلى القَطَاةِ، والجُملَةُ مِن الفِعلِ المُضَارِعِ وفَاعِلِه في مَحَلِّ نَصبٍ حَالٌ مِن القَطَاةِ، (وعَنْ) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرَابِ، عن: حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ، (قَيْضٍ) مَجرُورٌ بعن وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، والجَارُّ والمَجرُورُ مَعطُوفٌ بالواوِ على قَولِهِ: (مِن عَلَيهِ) السَّابِقِ، (بِزَيْزَاءَ) البَاءُ حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على الكَسرِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرَابِ، وزَيْزَاءَ: مَجرُورٌ بالبَاءِ وعَلامَةُ جَرِّهِ الفَتحَةُ نِيَابةً عَن الكَسرَةِ؛ لأنَّهُ لا يَنصَرِفُ لاختِتَامِهِ بأَلِفِ التَّأنِيثِ المَمدُودَةِ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بمَحذُوفٍ صِفَةٌ لِقَيْضٍ، (مَجْهَلِ) صِفَةٌ لِزَيْزَاءَ مَجرُورَةٌ بالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ.
الشَّاهِدُ فيه: قَولُهُ: (مِن عَلَيهِ) فإِنَّ (علَى) فيه اسمٌ؛ بدَليلِ دُخُولِ حَرفِ الجَرِّ عليهِ، ثُمَّ قِيلَ: إنَّ مَعنَى (على) هُنَا فَوقَ، وهو قَولُ الأَصْمَعِيِّ، وقِيلَ: مَعنَاهُ عِندَ، وهو قَولُ جَمَاعَةٍ مِنهُم أَبُو عُبَيدَةَ.