تَرْفَعُ كَانَ المُبْتَدَا اسْماً وَالْخَبَرْ = تَنْصِبُهُ كَكَانَ سَيِّداً عُمَرْ ([1])
ككَانَ ظَلَّ بَاتَ أَضْحَى أَصْبَحَا = أَمْسَى وَصَارَ لَيْسَ زَالَ بَرِحَا ([2])
فَتِئَ وَانْفَكَّ وَهَذِي الأَرْبَعَهْ = لِشِبْهِ نَفْيٍ أَوْ لِنَفْيٍ مُتْبَعَهْ ([3])
ومثلُ كَانَ دَامَ مَسْبُوقاً بِـ(مَا) = كَأَعْطِ مَا دُمْتَ مُصِيبًا دِرْهَمَا ([4])
لَمَّا فَرَغَ مِن الكلامِ على المبتدأِ والخبرِ شَرَعَ في ذِكْرِ نواسِخِ الابتداءِ، وهي قِسمانِ: أفعالٌ وحروفٌ؛ فالأفعالُ كانَ وأَخَوَاتُها، وأفعالُ المُقارَبَةِ، وظَنَّ وأَخَوَاتُها، والحروفُ ما وأَخَوَاتُها، ولا التي لِنَفْيِ الجِنْسِ، وإنَّ وأَخَوَاتُها.
فبَدَأَ المُصَنِّفُ بذِكْرِ كانَ وأَخَوَاتِها، وكلُّها أفعالٌ اتِّفَاقاً إلاَّ ليسَ؛ فذَهَبَ الجمهورُ إلى أنها فِعْلٌ، وذَهَبَ الفَارِسِيُّ في أحدِ قَوْلَيْهِ وأبو بَكْرِ بنُ شُقَيْرٍ- في أحدِ قَوْلَيْهِ- إلى أنها حرفٌ ([5]).
وهي تَرْفَعُ المبتدأَ وتَنْصِبُ خبرَه ويُسَمَّى المرفوعُ بها اسماً لها، والمنصوبُ بها خبراً لها.
وهذه الأفعالُ قِسمانِ: منها ما يَعْمَلُ هذا العملَ بلا شرطٍ، وهي كانَ وظَلَّ وباتَ وأَضْحَى وأَصْبَحَ وأَمْسَى وصارَ وليسَ، ومنها ما لا يَعْمَلُ هذا العملَ إلاَّ بشرطٍ، وهو قِسمانِ:
أحدُهما: ما يُشْتَرَطُ في عملِه أنْ يَسْبِقَه نفيٌ لفظاً أو تقديراً أو شِبْهُ نَفْيٍ، وهو أربعةٌ: زَالَ وبَرِحَ وفَتِئَ وانْفَكَّ، فمثالُ النفيِ لفظاً: (ما زالَ زَيْدٌ قَائماً)، ومثالُه تقديراً قولُه تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ}؛ أي: لا تَفْتَأُ، ولا يُحْذَفُ النافي معَها إلاَّ بعدَ القَسَمِ؛ كالآيةِ الكريمةِ، وقد شَذَّ الحذفُ بدونِ القَسَمِ؛ كقولِ الشاعِرِ:
60- وَأَبْرَحُ مَا أَدَامَ اللهُ قَوْمِي = بِحَمْدِ اللَّهِ مُنْتَطِقاً مُجِيداً ([6])
أي: لا أَبْرَحُ مُنْتَطِقاً مُجِيداً؛ أي: صاحبَ نِطاقٍ وجَوَادٍ ما أدامَ اللهُ قَوْمِي، وعَنَى بذلكَ أنه لا يَزَالُ مُسْتَغْنِياً ما بَقِيَ له قومُه، وهذا أحسنُ ما حُمِلَ عليه البيتُ.
ومثالُ شِبْهِ النفيِ، والمرادُ به النهيُ؛ كقولِكَ: (لا تَزَلْ قَائِماً)، ومنه قولُه:
61- صاحِ شَمِّرْ وَلاَ تَزَلْ ذَاكِرَ الْمَوْ = تِ فَنِسْيَانُهُ ضَلاَلٌ مُبِينُ ([7])
والدعاءُ كقَوْلِكَ: (لاَ يَزَالُ اللهُ مُحْسِناً إليكَ)، وقولِ الشاعِرِ:
62- أَلاَ يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيَّ على الْبِلَى = ولا زالَ مُنْهَلاًّ بِجَرْعَائِكِ الْقَطْرُ ([8])
وهذا هو الذي أَشارَ إليه المصنِّفُ بقولِهِ: (وهَذِي الأَرْبَعَة... إلى آخِرِ البيتِ).
القِسْمُ الثاني: ما يُشْتَرَطُ في عَمَلِهِ أنْ يَسْبِقَهُ (ما) المصدريَّةُ الظرفيَّةُ، وهو (دامَ)؛ كقولِكَ: (أَعْطِ ما دُمْتَ مُصِيباً دِرْهَماً)؛ أي: أَعْطِ مُدَّةَ دَوَامِكَ مُصِيباً دِرْهَماً، ومنه قولُه تعالى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}؛ أي: مُدَّةَ دَوَامِي حيًّا، ومعنى (ظَلَّ) اتِّصَافُ المخبَرِ عنه بالخبَرِ نهاراً، ومعنى (باتَ) اتِّصَافُه به ليلاً، و(أَضْحَى) اتصافُه به في الضُّحَى، و(أَصْبَحَ) اتِّصَافُه به في الصباحِ (وأَمْسَى) اتصافُه به في المساءِ.
ومعنى (صارَ) التحوُّلُ من صفةٍ إلى صفةٍ أُخْرَى، ومَعْنَى (ليسَ) النفيُ، وهي عندَ الإطلاقِ لنفيِ الحالِ، نحوُ: (ليسَ زيدٌ قائماً)؛ أي: الآنَ، وعندَ التقييدِ بزمنٍ على حَسَبِهِ، نحوُ: (ليسَ زيدٌ قائماً غداً).
ومعنى زالَ وأَخَوَاتِها ملازمةُ الخبرِ المخبَرَ عنه على حسَبِ ما يَقْتَضِيهِ الحالُ، نحوُ: (ما زالَ زيدٌ ضاحكاً، وما زالَ عمرٌو أَزْرَقَ العَيْنَيْنِ).
ومعنى (دامَ) بَقِيَ واسْتَمَرَّ.
وغيرُ ماضٍ مِثْلَهُ قَدْ عَمِلاَ = إنْ كانَ غيرُ الماضِ منهُ اسْتُعْمِلاَ ([9])
هذه الأفعالُ على قِسميْنِ ([10]):
أَحَدُهما: ما يَتَصَرَّفُ، وهو ما عدا ليسَ ودامَ.
والثاني: ما لا يَتَصَرَّفُ، وهو ليسَ ودامَ، فنَبَّهَ المصنِّفُ بهذا البيتِ على أنَّ ما يَتَصَرَّفُ مِن هذه الأفعالِ يَعْمَلُ غيرُ الماضي مِنه عَمَلَ الماضِي، وذلك هو المضارِعُ، نحوُ: (يكونُ زيدٌ قائماً)، قالَ اللهُ تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}، والأمرُ نحوُ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}، وقالَ اللهُ تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً}، واسمُ الفاعلِ نحوُ: (زَيْدٌ كائنٌ أخاكَ)، وقالَ الشاعِرُ:
63- وما كُلُّ مَنْ يُبْدِي البَشَاشَةَ كَائِناً = أَخَاكَ إِذَا لَمْ تُلْفِهِ لَكَ مُنْجِدَا ([11])
والمصدَرُ كذلكَ.
واخْتَلَفَ الناسُ في كانَ الناقصةِ: هل لها مصدرٌ أم لا ؟ والصحيحُ أنَّ لها مصدراً، ومنه قولُه:
64- بِبَذْلٍ وحِلْمٍ سَادَ فِي قَوْمِهِ الْفَتَى = وكَوْنُكَ إِيَّاهُ عَلَيْكَ يَسِيرُ ([12])
وما لا يَتَصَرَّفُ منها وهو دامَ وليسَ ([13])، وما كانَ النفيُ أو شِبْهُه شرطاً فيه، وهو زالَ وأَخَوَاتُها لا يُسْتَعْمَلُ منه أمرٌ ولا مصدرٌ.
([1]) (تَرْفَعُ) فعلٌ مضارعٌ، (كَانَ) قُصِدَ لفظُه: فاعلُ تَرْفَعُ، (المُبْتَدَا) مفعولٌ به لِتَرْفَعُ، (اسْماً) حالٌ مِن قولِهِ: المُبْتَدَأَ، (وَالْخَبَرِ) الواوُ عاطفةٌ، الخَبَرْ: مفعولٌ به لفعلٍ محذوفٍ يُفَسِّرُهُ المذكورُ بعدَه، والتقديرُ: وتَنْصِبُ الخبرَ، (تَنْصِبُهُ) تَنْصِبُ: فعلٌ مضارعٌ، وفاعلُه ضميرٌ مستتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هي يعودُ على (كانَ)، والضميرُ البارِزُ المتَّصِلُ مفعولٌ به، والجملةُ مِن تَنْصِبُ وفاعلِهِ ومفعولِه لا مَحَلَّ لها؛ تفسيريَّةٌ، (كَكَانَ) الكافُ جارَّةٌ لقولٍ محذوفٍ، والجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ؛ أي: وذلك كائنٌ كقولِكَ، كانَ: فعلٌ ماضٍ ناقصٌ، (سَيِّداً) خبرُ كانَ مقدَّمٌ، (عُمَر) اسمُها مؤخَّرٌ، مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وسُكِّنَ للوقفِ.
([2]) (ككانَ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٌ مُقَدَّمٌ، و(كانَ) هنا قُصِدَ لَفْظُه، (ظَلَّ) قُصِدَ لفظُه أيضاً: مبتدأٌ مُؤَخَّرٌ، (باتَ، أَضْحَى، أَصْبَحَا، أَمْسَى، وصارَ، ليسَ، زالَ، بَرِحَا) كلُّهُنَّ معطوفاتٌ على ظَلَّ بإسقاطِ حرفِ العطفِ ما عدا الخامِسَ.
([3]) (فَتِئَ وانْفَكَّ) معطوفان أيضاًً على (ظَلَّ) بإسقاطِ حرفِ العطفِ في الأوَّلِ، (وَهَذِي) الواوُ للاستئنافِ، ها: حرفُ تنبيهٍ مبنيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، وذي: اسمُ إشارةٍ مبتدأٌ، (الأربعة) بَدَلٌ من اسمِ الإشارةِ، أو عطفُ بيانٍ عليه، أو نَعْتٌ له، (لِشِبْهِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بقَوْلِهِ: (مُتْبَعَه) الآتِي، وشِبْهِ مضافٌ و(نَفْيٍ) مضافٌ إليه، (أوْ) حرفُ عطفٍ، (لنفيٍ) جارٌّ ومجرورٌ معطوفٌ على الجارِّ والمجرورِ السابقِ، (مُتْبَعَهْ) خبرُ المبتدأِ الذي هو اسمُ الإشارةِ.
([4]) (ومثلُ) خبرٌ مُقَدَّمٌ، ومثلُ مضافٌ و(كانَ) قُصِدَ لفظُه: مضافٌ إليه، (دامَ) قُصِدَ لفظُه أيضاًً: مبتدأٌ مُؤَخَّرٌ، (مَسْبُوقاً) حالٌ من دامَ، (بِمَا) الباءُ حرفُ جرٍّ، و(ما) قُصِدَ لفظُه مجرورٌ مَحَلاًّ بالباءِ، والجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بمَسْبُوقاً، (كَأَعْطِ) الكافُ جارَّةٌ لقولٍ محذوفٍ كما سَبَقَ مِراراً، أَعْطِ: فعلُ أمرٍ، وفاعِلُه ضميرٌ مستَتِرٌ فيه وُجُوباَ تقديرُه أنتَ، ومفعولُه الأوَّلُ محذوفٌ، والتقديرُ: (أَعْطِ المُحْتَاجَ) مثلاً، (مَا) مصدريَّةٌ ظرفيَّةٌ، (دُمْتَ) دامَ: فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ، والتاءُ ضميرُ المخاطَبِ اسمُ دامَ، (مُصِيباً) خبرُ دامَ، (دِرْهَمَا) مفعولٌ ثانٍ لأَعْطِ.
وتلخيصُ البيتِ: ودامَ مثلُ كانَ ـ في العملِ الذي هو رفعُ الاسمِ ونصبُ الخبرِ ـ لكِن في حالةٍ معيَّنَةٍ، وهي حالةُ ما إذا سُبِقَتْ دامَ بما المصدريَّةِ الظرفيَّةِ الواقعةِ في نحوِ قولِكَ: (أَعْطِ المحتاجَ دِرهماً ما دُمْتَ مُصيباً)؛ أي: مُدَّةَ دَوَامِكَ مُصِيباً، والمرادُ: ما دُمْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكونَ مُصِيباً.
([5]) أَوَّلُ مَن ذَهَبَ مِن النُّحاةِ إلى أنَّ (ليسَ) حرفٌ، هو ابنُ السَّرَّاجِ، وتَابَعَه على ذلكَ أبو عليٍّ الفارِسِيُّ في (الحَلَبِيَّاتِ)، وأبو بَكْرِ بنُ شقيرٍ، وجماعةٌ.
واسْتَدَلُّوا على ذلك بدليليْنِ:
الدليلُ الأوَّلُ: أنَّ (ليسَ) أَشْبَهَ الحرفَ مِن وجهيْنِ:
- الوجهُ الأوَّلُ: أنه يَدُلُّ على معنَى يَدُلُّ عليه الحرفُ؛ وذلك لأنَّه يَدُلُّ على النفيِ الذي يَدُلُّ عليه (ما) وغيرُها من حروفِ النفيِ.
- الوجهُ الثاني: أنه جامدٌ لا يَتَصَرَّفُ كما أنَّ الحرفَ جامدٌ لا يَتَصَرَّفُ.
والدليلُ الثاني: أنه خالَفَ سُنَنَ الأفعالِ عامَّةً، وبيانُ ذلك أنَّ الأفعالَ بوجهٍ عامٍّ مُشْتَقَّةٌ مِن المصدرِ للدَّلالةِ على الحَدَثِ دائماً والزمانِ بحَسَبِ الصِّيَغِ المختلِفَةِ، وهذه الكَلِمَةُ لا تَدُلُّ على الحَدَثِ أَصْلاً، وما فيها مِن الدَّلالةِ على الزمانِ مُخَالِفٌ لِمَا في عامَّةِ الأفعالِ؛ فإنَّ عامَّةَ الأفعالِ الماضيةِ تَدُلُّ على الزمانِ الذي انْقَضَى، وهذه الكَلِمَةُ تَدُلُّ على نفيِ الحَدَثِ الذي دَلَّ عليه خَبَرُها في الزمانِ الحاضِرِ، إلى أنْ تقومَ قَرينةٌ تَصْرِفُه إلى الماضي أو المستقبَلِ، فإذا قلتَ: (ليسَ خَلَقَ اللهُ مِثْلَه) فليسَ أداةُ نفيٍ، واسمُها ضميرُ شأنٍ محذوفٌ، وجملةُ الفعلِ الماضِي - وهو خَلَقَ - وفاعلِه في محَلِّ نصبِ خبرِها، وفي هذا المثالِ قرينةٌ ـ وهي كونُ الخبرِ ماضياً ـ على أن المرادَ نفيُ الخلقِ في الماضي، وقولُه تعالى: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} يَشْتَمِلُ على قرينةٍ تَدُلُّ على أنَّ المرادَ نفيُ صرفِه عنهم فيما يُسْتَقْبَلُ من الزمانِ؛ مِن أجلِ ذلكَ كلِّه قالُوا: هي حرفٌ.
ويَرُدُّ ذلك عليهم قَبُولُها علاماتِ الفعلِ، ألا تَرَى أن تاءَ التأنيثِ الساكنةَ تَدْخُلُ عليها، فتقولُ: ليسَتْ هندٌ مُفْلِحَةً، وأنَّ تاءَ الفاعلِ تَدْخُلُ عليها، فتقولُ: لَسْتَ، ولَسْتِ، ولَسْتُمَا، ولَسْتُمْ، ولَسْتُنَّ.
وأمَّا عدمُ دَلالتِها على الحَدَثِ كسائرِ الأفعالِ فإنَّه منازَعٌ فيه؛ لأنَّ المُحَقِّقَ الرَّضِيَّ ذهَبَ إلى أنَّ (ليسَ) دالَّةٌ على حَدَثٍ ـ وهو الانتفاءُ ـ ولَئِنْ سَلَّمْنَا أنها لا تَدُلُّ على حَدَثٍ - كما هو الراجِحُ، بل الصحيحُ عندَ الجمهورِ - فإنا نقولُ: إنَّ عدمَ دَلالتِها على حَدَثٍ ليسَ هو بأصلِ الوضعِ، ولكنَّه طارِئٌ عليها، وعارِضٌ لها بسببِ دَلالتِها على النفيِ، والمعتبَرُ إنما هو الدَّلالةُ بحَسَبِ الوضع وأصلِ اللغةِ، وهي من هذه الجهةِ دالَّةٌ عليه، فلا يَضُرُّها أنْ يَطْرَأَ عليها ذلكَ الطارِئُ فيَمْنَعَها.
([6]) البيتُ لخِدَاشِ بنِ زُهَيْرٍ:
اللغةُ: (مُنْتَطِقاً) قدْ فَسَّرَهُ الشارِحُ العلاَّمَةُ تفسيراً، ويقالُ: جَاء فلانٌ مُنْتَطِقاً فَرَسَه، إذا جَنَّبَهُ؛ أي: جَعَلَه إلى جانبِه ولم يَرْكَبْهُ، وقالَ ابنُ فارسٍ: هذا البيتُ يَحْتَمِلُ أنه أرادَ أنه لا يَزَالُ بجَنْبُ فرساً جَوَاداً. ويَحْتَمِلُ أنه أرادَ أنه يقولُ قولاً مُسْتَجَاداً في الثناءِ على قومِه؛ أي: ناطِقاً، (مُجِيداً) بضمِّ الميمِ: يَجْرِي على المعنييْنِ اللذين ذكَرْناهما في قَوْلِهِ: (مُنْتَطِقاً)، وهو وصفٌ للفرسِ على الأوَّلِ، ووصفٌ لنفسِه على الثاني.
المعنى: يُرِيدُ أنه سَيَبْقَى مَدَى حياتِه فارِساً، أو ناطقاً بمآثِرِ قومِه ذاكراً مَمَادِحَهم؛ لأنَّها كثيرةٌ لا تَفْنَى، وسيكونُ جَيِّدَ الحديثِ عنهم، بارِعَ الثناءِ عليهم؛ لأنَّ صفاتِهم الكريمةَ تُنْطِقُ الألسنةَ بذِكْرِهم.
الإعرابُ: (أَبْرَحُ) فعلٌ مضارعٌ ناقصٌ، واسمُه ضميرٌ مستترٌ فيه وجوباً تقديرُه أنا، (ما) مصدريَّةٌ ظرفيَّةٌ، (أَدَامَ) فعلٌ ماضٍ، (اللهُ) فاعلُ أَدَامَ، (قَوْمِي) قوم: مفعولٌ به لأَدَامَ، وقوم مضافٌ وياءُ المتكلِّمِ مضافٌ إليه، (بِحَمْدِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بقَوْلِهِ: (أَبْرَحُ)، أو هو متعلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ، والتقديرُ: (أَحْمَدُ بحَمْدِ)، وحمدِ مضافٌ و(اللهِ) مضافٌ إليه، (مُنْتَطِقاً) اسمُ فاعلٍ فِعْلُه انْتَطَقَ، وهو خبرُ (أَبْرَحُ) السابقِ، وفاعلُه ضميرٌ مستترٌ فيه، (مُجِيداً) مفعولٌ به لمنتطِقٍ على المعنَى الأوَّلِ، وأصلُه صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ، فلَمَّا حُذِفَ الموصوفُ أُقِيمَتِ الصفةُ مُقامَه، وأصلُ الكلامِ: لا أَبْرَحُ جانباً فَرَساً مُجيداً، وهو خبرٌ بعدَ خبرٍ على المعنى الثاني، وكأنه قالَ: لا أبْرَحُ ناطقاً بمحامدِ قومي مُجيداً في ذلك؛ لأنَّ محامِدَهم تُنْطِقُ الألسنةَ بجَيِّدِ المَدْحِ.
الشاهدُ فيه: قولُه: (أَبْرَحُ) حيثُ اسْتَعْمَلَهُ بدونِ نفيٍ أو شِبْهِ نفيٍ، معَ كونِهِ غيرَ مسبوقٍ بالقَسَمِ.
قالَ ابنُ عُصْفُورٍ: وهذا البيتُ فيه خلافٌ بينَ النحْويِّينَ؛ فمِنهم مَن قالَ: إنَّ أداةَ النفيِ مُرَادَةٌ، فكأنه قالَ: (لا أَبْرَحُ). ومنهم مَن قالَ: إن (أَبْرَحُ) غيرُ منفيٍّ، لا في اللفظِ ولا في التقديرِ، والمعنى عندَه: أَزُولُ بحمدِ اللهِ عن أنْ أكونَ مُنْتَطِقاً مُجِيداً؛ أي: صاحِبَ نِطاقٍ وجَوَادٍ؛ لأنَّ قومِي يَكْفُونَنِي هذا. فعلى هذا الوجهِ الأخيرِ في كلامِ ابنِ عُصْفُورٍ لا استشهادَ فيه.
ومثلُ هذا البيتِ قولُ خَلِيفَةَ بنِ برازٍ:
تَنْفَكُّ تَسْمَعُ مَا حَيِيـ = ـتَ بهالِكٍ حتَّى تَكُونَهْ
واعْلَمْ أنَّ شروطَ جوازِ حذفِ حرفِ النفيِ مُطلقاً ثلاثةٌ:
الأوَّلُ: أنْ يكونَ هذا الحرفُ (لا) دونَ سائرِ إخوانِه من حروفِ النفيِ.
الثاني: أنْ يكونَ المنفيُّ به مضارعاً؛ كما في الآيةِ، وكما في قولِ امْرِئِ القيْسِ:
فقُلْتُ يَمِينُ اللهِ أَبْرَحُ قَاعِداً = ولوْ قَطَّعُوا رأسِي لَدَيْكِ وأَوْصَالِي
وقولِ عبدِ اللهِ بنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ:
واللهِ أَبْرَحُ في مُقَدِّمَةٍ = أُهْدِي الجيوشَ عَلَيَّ شِكَّتِيَهْ
حتَّى أُفَجِّعَهُمْ بِإِخْوَتِهِمْ = وأَسُوقَ نِسْوَتَهُمْ بِنِسْوَتِيَهْ
وقولِ عمرَ بنِ أبي رَبِيعَةَ المَخْزُومِيِّ:
تاللهِ أَنْسَى حُبَّهَا = حَيَاتَنَا أو أُقْبَرَا
وقولِ نُصَيْبٍ مِن مَرْثِيَّةٍ له في أبي بكرِ بنِ عبدِ العزيزِ بنِ مَرْوَانَ:
تاللهِ أَنْسَى مُصِيبَتِي أبداً = مَا أَسْمَعَتْنِي حَنِينَهَا الإِبِلُ
الثالثُ: أنْ يكونَ ذلك في القَسَمِ؛ كما في الآيةِ الكريمةِ مِن سورةِ يُوسُفَ، وبيتِ امرِئِ القيسِ، وبيتِ عبدِ اللهِ بنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ، وبيتِ عُمَرَ، وبيتِ نُصَيْبٍ، وشَذَّ الحذفُ بدونِ القَسَمِ؛ كما في بيتِ خِدَاشٍ، وبيتِ خَليفةَ بنِ برازٍ.
([7]) البيتُ مِن الشواهدِ التي لا يُعْرَفُ قَائِلُها.
المعنى: يا صَاحِبِي اجْتَهِدْ واسْتَعِدَّ للموتِ، ولا تَنْسَ ذِكْرَهُ؛ فإنَّ نِسْيَانَه ضلالٌ ظاهِرٌ.
الإعرابُ: (صاحِ) مُنَادًى حُذِفَتْ منه ياءُ النداءِ، وهو مُرَخَّمٌ تَرْخِيماً غيرَ قِيَاسِيٍّ؛ لأنَّه نَكِرَةٌ، والقياسُ ألاَّ يُرَخَّمَ مما ليسَ آخِرُه تاءً إلاَّ العَلَمُ، (شَمِّرْ) فعلُ أمرٍ، وفاعلُه ضميرٌ مستترٌ فيه وجوباً تقديرُه أنتَ، (ولا) الواوُ عاطفةٌ، لا: ناهيةٌ، (تَزَلْ) فعلٌ مضارعٌ ناقصٌ مجزومٌ بحرفِ النهيِ، واسمُه ضميرٌ مستترٌ فيه وجوباً تقديرُه أنتَ، (ذَاكِرَ) خبرُ تَزَلْ، وذاكِرَ مضافٌ و(الموتِ) مضافٌ إليه، (فَنِسْيَانُهُ) الفاءُ: حرفٌ دالٌّ على التعليلِ، نِسيانُ: مبتدأٌ، ونسيانُ مضافٌ والهاءُ العائدةُ إلى الموتِ مضافٌ إليه، (ضَلاَلٌ) خبرُ المبتدأِ، (مُبِينُ) نعتٌ لضَلالٌ.
الشاهدُ فيه: قولُه: (وَلاَ تَزَلْ ذَاكِرَ الموتِ)؛ حيثُ أَجْرَى فيه مضارِعَ (زالَ) مُجْرَى (كانَ) في العملِ؛ لكونِها مسبوقةً بحرفِ النهيِ، والنهيُ شَبِيهٌ بالنفيِ.
([8]) البيتُ لذِي الرُّمَّةِ غَيْلاَنَ بنِ عُقْبَةَ، يَقُولُه في صاحِبَتِه مَيَّةَ.
اللغةُ: (البِلَى) مِن بَلِيَ الثوبُ يَبْلَى ـ على وزنِ رَضِيَ يَرْضَى ـ أي: خَلِقَ وَرَثَّ، (مُنْهَلاًّ) مُنْسَكِباً مُنْصَبًّا، (جَرْعَائِكِ) الجَرْعَاءُ: رملةٌ مستَوِيَةٌ لا تُنْبِتُ شيئاً، (القَطْرُ) المَطَرُ.
المعنى: يَدْعُو لدارِ حَبِيبَتِه بأنْ تدومَ لها السلامةُ على مَرِّ الزمانِ مِن طواراقِ الحَدَثَانِ، وأنْ يدومَ نزولُ المطرِ بساحَتِها، وكَنَّى بنزولِ الأمطارِ عن الخِصْبِ والنَّماءِ بما يَسْتَتْبِعُ مِن رَفَاهِيَةِ أَهْلِها، وإقامَتِهم في رُبُوعِها، وعدمِ المهاجرةِ منها لانتجاعِ الغيثِ والكَلَأِ.
الإعرابُ: (أَلاَ) أداةُ استفتاحٍ وتنبيهٍ، (يَا) حرفُ نِداءٍ، والمنادَى محذوفٌ، والتقديرُ: (يَا دَارَ مَيَّةَ)، (اسْلَمِي) فعلُ أمرٍ مقصودٌ منه الدعاءُ، وياءُ المؤنَّثةِ المخاطَبَةِ فاعلٌ، (يا دارَ) يا: حرفُ نداءٍ، ودارَ: منادًى منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، ودارَ مضافٌ و(مَيَّ) مضافٌ إليه، (عَلى البِلَى) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ باسْلَمِي، (ولا) الواوُ حرفُ عطفٍ، لا: حرفُ دُعاءٍ، (زَالَ) فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ، (مُنْهَلاًّ) خبرُ زالَ مُقَدَّمٌ، (بجَرْعَائِكِ) الجارُّ والمجرورُ متعلِقٌ بقولِهِ: (مُنْهَلاًّ)، وجرعاء مضافٌ وضميرُ المخاطبَةِ مضافٌ إليه، (القَطْرُ) اسمُ زالَ مُؤَخَّرٌ.
الشاهدُ فيه: للنحاةِ في هذا البيتِ شاهدانِ:
الأوَّلُ: في قولِهِ: (يا اسْلَمِي) حيثُ حَذَفَ المنادَى قبلَ فعلِ الأمرِ، فاتَّصَلَ حرفُ النداءِ بالفعلِ لفظاً، ولكنَّ التقديرَ على دخولِ (يا) على المنادَى المقدَّرِ، ولا يَحْسُنُ في مِثْلِ هذا البيتِ أنْ تَجْعَلَ (يا) حرفَ تنبيهٍ؛ لأنَّ (ألا) السابقةَ عليها حرفُ تنبيهٍ، ومن قواعِدِهِم المقرَّرَةِ أنه لا يَتَوَالَى حرفانِ بمعنًى واحدٍ لغيرِ توكيدٍ. ومثلُ هذا البيتِ فيما ذَكَرْنَا قولُ الشَّمَّاخِ:
يقولونَ لي يا احْلِفْ ولستُ بحَالِفٍ = أُخَادِعُهُمْ عَنْهَا لِكَيْمَا أَنَالُهَا
فقدْ أرادَ: يقولونَ لي: يا هذا، احْلِفْ.
ومثلُهُ قوْلُ الأَخْطَلِ:
ألاَ يَا اسْلَمِي يا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي بَكْرِ = ولا زالَ حَيَّانَا عِدًى آخِرَ الدهْرِ
أرادَ: ألا يا هِنْدُ اسلمي يا هندَ بني بَكْرٍ.
ومثلُه قولُ الآخَرِ:
ألاَ يَا اسْلَمِي ذاتَ الدَّمَالِيجِ والعِقْدِ = وذاتَ الثَّنَايَا الغُرِّ والفَاحِمِ الجَعْدِ
أرادَ: ألا يا ذاتَ الدَّمَالِيجِ، اسْلَمِي ذاتَ الدماليجِ... إلخ.
ومثلُ الأمرِ الدعاءُ؛ كما في قوْلِ الفَرَزْدَقِ:
يا أَرْغَمَ اللهُ أَنْفاً أَنْتَ حَامِلُهُ = يَا ذا الخَنَى ومَقَالِ الزُّورِ والخَطَلِ
يُريدُ: يا هذا، أَرْغمَ اللهُ أنفاً... إلخ.
ومثلُه قولُ الآخَرِ:
يا لَعْنَةُ اللهِ والأقوامِ كُلِّهِمُ = والصالحينَ على سِمْعَانَ مِنْ جَارِ
فيمَن رَوَاهُ برفعِ (لعنةُ اللهِ).
والشاهدُ الثاني: في قولِهِ: (ولا زالَ... إلخ) حيثُ أَجْرَى (زالَ) مُجْرَى (كانَ) في رَفْعِهَا الاسمَ ونصبِ الخبر؛ لتقدُّمِ (لا) الدُّعَائِيَّةِ عليها، والدعاءُ شِبْهُ النفيِ.
([9]) (وغيرُ) مبتدأٌ، وغيرُ مضافٌ و(ماضٍ) مضافٌ إليه، (مِثْلَه) مثلَ: حالٌ مُقَدَّمٌ على صَاحِبِها، وصاحبُها هو فاعلُ (عَمِلَ) الآتي، ومثلَ مضافٌ والضميرُ مضافٌ إليه، ومثلَ من الألفاظِ المُتَوَغِّلَةِ في الإبهامِ، فلا تُفِيدُها الإضافةُ تَعْرِيفاً؛ فلهذا وَقَعَتْ حالاً، (قَدْ) حرفُ تحقيقٍ، (عَمِلاَ) عَمِلَ: فعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضميرٌ مستترٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى غيرِ الماضِي، والجملةُ في محلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ، (إِنْ) شرطيَّةٌ، (كانَ) فعلٌ ماضٍ ناقصٌ، فعلُ الشرطِ، (غَيْرُ) اسمُ كانَ، وغيرُ مضافٌ و(الماضِ) مضافٌ إليه، (منهُ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ باسْتُعْمِلاَ، (اسْتُعْمِلاَ) فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مستترٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى غيرِ الماضي، والجملةُ في محلِّ نصبِ خبرِ كانَ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ يَدُلُّ عليه الكلامُ، والتقديرُ: إنْ كانَ غيرُ الماضي مُسْتَعْمَلاً فإنَّه يَعْمَلُ مُشابهاً الماضِيَ.
([10])هي على قِسْمَيْنِ إجمالاً، ولكنَّها على ثلاثةِ أقسامٍ تَفْصِيلاً:
الأوَّلُ: ما لا يَتَصَرَّفُ أصلاً، فلم يأتِ مِنه إلاَّ الماضي، وهو فِعلانِ: ليسَ، ودامَ، فإنْ قلتَ: فإنَّه قد سُمِعَ: يَدُومُ، ودُمْ، ودائِمٌ، ودَوَامٌ. قلتُ: هذه تَصَرُّفَاتُ دامَ التامَّةِ التي تَرْفَعُ فاعلاً فقطْ، والكلامُ إنما هو في دامَ الناقصةِ التي تَرْفَعُ الاسمَ وتنصِبُ الخبرَ.
الثاني: ما يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفاً ناقصاً؛ بأنْ يكونَ المستعمَلُ منه الماضِيَ والمضارِعَ واسمَ الفاعلِ، وهو أربعةُ أفعالٍ: زَالَ، وفَتِئَ، وبَرِحَ، وانْفَكَّ.
الثالثُ: ما يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفاً تامًّا؛ بأنْ تَجِيءَ منه أنواعُ الفعلِ الثلاثةُ: الماضي، والمضارِعُ، والأمرُ، ويَجِيءَ منه المصدرُ واسمُ الفاعلِ، وهو الباقي، وقد اخْتَلَفَ النُّحاةُ في مجيءِ اسمِ المفعولِ من القِسمِ الثالثِ؛ فمَنَعَه قومٌ منهم أبو عليٍّ الفَارِسِيُّ، فقد سَأَلَهُ تِلميذُه ابنُ جِنِّيٍّ عن قولِ سِيبَوَيْهِ: =(مَكُونٌ فيه) فقالَ: ما كلُّ داءٍ يُعَالِجُه الطبيبُ. وأجازَه غيرُ أبي عَلِيٍّ، فاحْفَظْ ذلك.
([11]) البيتُ من الشواهدِ التي لم نَقِفْ لها على نسبةٍ إلى قائلٍ مُعَيَّنٍ.
اللغةُ: (يُبْدِي) يُظْهِرُ، (البَشاشةَ) طلاقَةَُ الوجهِ، (تُلْفِهِ) تَجِدْهُ، (مُنْجِداً) مُسَاعِداً.
المعنى: ليسَ كلُّ أحدٍ يَلْقَاكَ بوجهٍ ضاحِكٍ أخاكَ الذي تَرْكَنُ إليه، وتَعْتَمِدُ في حاجَتِكَ عليه، وإنما أخوكَ هو الذي تَجِدُهُ عَوْناً لكَ عندَ الحاجةِ.
الإعرابُ: (ما) نافيةٌ تَعْمَلُ عملَ ليسَ، (كُلُّ) اسْمُها، وكلُّ مضافٌ و(مَن) اسمٌ موصولٌ مضافٌ إليه، (يُبْدِي) فعلٌ مضارعٌ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ على (مَن)، والجملةُ لا مَحَلَّ لها؛ صلةُ الموصولِ، (البَشَاشَةَ) مفعولٌ به ليُبْدِي، (كائناً) خبرُ ما النافيةِ، وهو اسمُ فاعلٍ متصرِّفٌ مِن كانَ الناقصةِ، واسمُه ضميرٌ مستَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى كلُّ، (أَخَاكَ) أخَا: خبرُ كائنٍ منصوبٌ بالألفِ نيابةً عن الفتحةِ؛ لأنَّه من الأسماءِ الستَّةِ، وأخا مضافٌ، والكافُ مضافٌ إليه، (إِذَا) ظرفٌ تَضَمَّنَ معنى الشرطِ، (لم) حرفُ نفيٍ وجزمٍ، (تُلْفِهِ) تُلْفِ: فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ بلم، وفاعلُه ضميرٌ مستترٌ فيه وجوباً تقديرُه أنتَ، والهاءُ مفعولٌ أوَّلُ لِتُلْفِي، (لكَ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بقولِهِ: (مُنْجِدَا) الآتي، (مُنْجِدَا) مفعولٌ ثانٍ لتُلْفِي، وقالَ العَيْنِيُّ: هو حالٌ. وذلك مبنيٌّ على أن (ظَنَّ) وأَخَوَاتِها تَنْصِبُ مفعولاً واحداً، وهو رأيٌ ضعيفٌ لبعضِ النُّحاةِ.
الشاهدُ فيه: قولُه: (كائناً أخاكَ)؛ فإنَّ (كائناً) اسمُ فاعلٍ من كانَ الناقصةِ، وقد عَمِلَ عَمَلَها، فرَفَعَ اسماً ونصَبَ خبراً، أمَّا الاسمُ فهو ضميرٌ مستترٌ فيه، وأمَّا الخبرُ فهو قولُه: (أخاكَ) على ما بَيَّنَّاهُ في إعرابِ البيتِ.
([12]) وهذا البيتُ أيضاً من الشواهدِ التي لم يَنْسُبُوها إلى قائلٍ مُعَيَّنٍ.
اللغةُ: (بَذْلٍ) عطاءٍ، (سَادَ) من السِّيادةِ، وهي الرِّفْعَةُ وعِظَمُ الشأنِ.
المعنى: أنَّ الرجلَ يَسُودُ في قومِه ويَنْبُهُ ذِكْرُهُ في عَشِيرَتِهِ ببَذْلِ المالِ والحِلْمِ، وهو يَسِيرٌ عليكَ إنْ أَرَدْتَ أنْ تكونَ ذلك الرجلَ.
الإعرابُ: (بِبَذْلٍ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بسادَ، (وحِلْمٍ) معطوفٌ على بَذْلٍ، (سادَ) فعلٌ ماضٍ، (في قومِهِ) الجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ أيضاً بسَادَ، وقومِ مضافٌ والضميرُ مضافٌ إليه، (الْفَتَى) فاعلُ سادَ، (وكَوْنُكَ) كونُ: مبتدأٌ، وهو مصدرُ كانَ الناقصةِ، فمِن حيثُ كونُه مبتدأً يَحْتَاجُ إلى خبرٍ، وهو قولُه: (يَسِيرُ) الآتي، ومن حيثُ كونُه مصدرَ كانَ الناقصةِ يَحتاجُ إلى اسمٍ وخبرٍ، فأمَّا اسمُه فالكافُ المتَّصِلَةُ به، فلهذه الكافِ محلاَّنِ: أَحَدُهما جَرٌّ بالإضافةِ، والثاني رفعٌ على أنها الاسمُ، وأمَّا خَبَرُها فقولُه: (إِيَّاهُ)، وقولُه: (عليكَ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بيَسِيرُ، وقولُه: (يَسِيرُ) هو خبرُ المبتدأِ، على ما تَقَدَّمَ ذِكْرُه.
الشاهدُ فيه: قولُه: (وكَوْنُكَ إِيَّاهُ)؛ حيثُ اسْتَعْمَلَ مصدرَ كانَ الناقصةِ، وأَجْرَاهُ مُجْرَاها في رفعِ الاسمِ ونصبِ الخبرِ. وقد بَيَّنْتُ لكَ اسمَه وخَبَرَه في إعرابِ البيتِ.
فهذا الشاهدُ يَدُلُّ على شَيْئَيْنِ:
أَوَّلُهُما: أنَّ (كانَ) الناقصةَ قد جاءَ لها مصدرٌ في كلامِ العربِ، فهو ردٌّ على مَن قالَ: لا مصدرَ لها.
وثانيهما: أنَّ غيرَ الماضي من هذه الأفعالِ ـ سواءٌ أكانَ اسماً، أم كانَ فعلاً غيرَ ماضٍ ـ يَعْمَلُ العملَ الذي يَعْمَلُه الفعلُ الماضِي، وهو رفعُ الاسمِ ونصبُ الخبرِ.
([13]) رَجَّحَ العلاَّمَةُ الصَّبَّانُ أنَّ دامَ الناقصةَ لها مصدرٌ، ودليلُه على ذلكَ شيئانِ:
الأوَّلُ: أنها تُسْتَعْمَلُ أَلْبَتَّةَ صِلَةً لِمَا المصدريَّةِ الظرفيَّةِ، ووجهُ الاستدلالِ بهذا الوجهِ أنَّ ما المصدريَّةَ معَ صِلَتِها تَسْتَوْجِبُ التقديرَ بمَصْدَرٍ، فاسْتِعْمَالُهُمْ هذا الفعلَ بعدَ (ما) يُشِيرُ إلى أنهم يَعْتَقِدُونَ أن لها مَصْدراً.
والثاني: أنَّ العلماءَ جَرَوْا على تقديرِ ما دامَ في نحوِ قولِه تعالى: {مَا دُمْتُ حَيًّا} بقَوْلِهِم: مُدَّةَ دَوَامِي حَيًّا، ولو أننا الْتَزَمْنَا أنَّ هذا مصدرٌ لدامَ التامَّةِ، أو أنَّ العلماءَ اخْتَرَعُوا في هذا التقديرِ مصدراً لم يَرِدْ عن العربِ، لَكُنَّا بذلك جائِرِينَ مُسِيئِينَ بمَن قامَ على العربيَّةِ وحَفِظَها الظنَّ كلَّ الإساءةِ، فلَزِمَ أنْ يكونَ هذا المصدرُ مصدرَ الناقصةِ، فتَتِمَّ الدَّعْوَى.