قال أبو حاتم محمد بن حبان البستيُّ (ت: 354هـ): ((الفصل الثاني)
الحمد لله المستحق الحمد لآلائه، المتوحد بعزه وكبريائه القريب من خلقه في أعلى علوه البعيد منهم في أدنى دنوه، العالم بكنين مكنون النجوى والمطلع على أفكار السر وأخفى وما استجن تحت عناصر الثرى وما جال فيه خواطر الورى، الذي ابتدع الأشياء بقدرته وذرأ الأنام بمشيئته من غير أصل عليه افتعل ولا رسم مرسوم امتثل، ثم جعل العقول مسلكا لذوي الحجا وملجأ في مسالك أولي النهى، وجعل أسباب الوصول إلى كيفية العقول ما شق لهم من الأسماع والأبصار والتكلف للبحث والاعتبار فأحكم لطيف ما دبر وأتقن جميع ما قدر.
ثم فضل بأنواع الخطاب أهل التمييز والألباب، ثم اختار طائفة لصفوته وهداهم لزوم طاعته من اتباع سبل الأبرار في لزوم السنن والآثار، فزين قلوبهم بالإيمان وأنطق ألسنتهم بالبيان من كشف أعلام دينه واتباع سنن نبيه صلى الله عليه وسلم؛ بالدؤوب في الرحل والأسفار وفراق الأهل والأوطار في جمع السنن ورفض الأهواء والتفقه فيها بترك الآراء، فتجرد القوم للحديث وطلبوه ورحلوا فيه وكتبوه وسألوا عنه وأحكموه وذاكروا به ونشروه وتفقهوا فيه وأصلوه وفرعوا عليه وبذلوه، وبينوا المرسل من المتصل، والموقوف من المنفصل، والناسخ من المنسوخ، والمحكم من المفسوخ، والمفسر من المجمل، والمستعمل من المهمل، والمختصر من المتقصى، والملزوق من المتفصى، والعموم من الخصوص، والدليل من المنصوص، والمباح من المزجور، والغريب من المشهور، والفرض من الإرشاد، والحتم من الإبعاد، والعدول من المجروحين، والضعفاء من المتروكين، وكيفية المعمول والكشف عن المجهول، وما حرف عن المخزول وقلب من المنحول من مخايل التدليس وما فيه من التلبيس، حتى حفظ الله بهم الدين على المسلمين، وصانه عن ثلب القادحين، وجعلهم عند التنازع أئمة الهدى وفي النوازل مصابيح الدجى، فهم ورثة الأنبياء ومأنس الأصفياء وملجأ الأتقياء ومركز الأولياء.
فله الحمد على قدره وقضائه وتفضله بعطائه وبره ونعمائه ومنه بآلائه، أشهد أن لا إله إلا الذي بهدايته سعد من اهتدى، وبتأييده رشد من اتعظ وارعوى، وبخذلانه ضل من زل وغوى وحاد عن الطريقة المثلى، وأشهد أن محمدا عبده المصفى ورسوله المرتضى، بعثه إليه داعيا وإلى جنانه هاديا فصلى الله عليه وأزلفه في الحشر لديه وعلى آله الطيبين الطاهرين أجمعين.
أما بعد:
فإن الله جل وعلا انتخب محمدا صلى الله عليه وسلم لنفسه وليا، وبعثه إلى خلقه نبيا ليدعو الخلق من عبادة الأشياء إلى عبادته ومن اتباع السبل إلى لزوم طاعته، حيث كان الخلق في جاهلية جهلاء وعصبية مضلة عمياء، يهيمون في الفتن حيارى ويخوضون في الأهواء سكارى يترددون في بحار الضلالة ويجولون في أودية الجهالة، شريفهم مغرور ووضيعهم مقهور، فبعثه الله إلى خلقه رسولا وجعله إلى جنانه دليلا، فبلغ صلى الله عليه وسلم عنه رسالاته وبين المراد عن آياته وأمر بكسر الأصنام ودحض الأزلام حتى أسفر الحق عن محضه وأبدى الليل عن صبحه وانحط به أعلام الشقاق وانهشم به بيضة النفاق، وإن في لزوم سنته تمام السلامة وجماع الكرامة، لا تطفأ سرجها ولا تدحض حججها، من لزمها عصم ومن خالفها ندم؛ إذ هي الحصن الحصين والركن الركين الذي بان فضله ومتن حبله، من تمسك به ساد ومن رام خلافه باد؛ فالمتعلقون به أهل السعادة في الآجل والمغبوطون بين الأنام في العاجل.
وإني لما رأيت الأخبار طرقها كثرت ومعرفة الناس بالصحيح منها قلت؛ لاشتغالهم بكتبة الموضوعات وحفظ الخطأ والمقلوبات، حتى صار الخبر الصحيح مهجورا لا يكتب، والمنكر المقلوب عزيزا يستغرب، وأن من جمع السنن من الأئمة الماضين المرضيين وتكلم عليها من أهل الفقه والدين أمعنوا في ذكر الطرق للأخبار وأكثروا من تكرار المعاد للآثار؛ قصدا منهم لتحصيل الألفاظ على من رام حفظها من الحفاظ؛ فكان ذلك سبب اعتماد المتعلم على ما في الكتاب وترك المقتبس التحصيل للخطاب، فتدبرت الصحاح لأسهل حفظها على المتعلمين وأمعنت الفكر فيها لئلا يصعب وعيها على المقتبسين، فرأيتها تنقسم خمسة أقسام متساوية متفقة التقسيم غير متنافية:
فأولها: الأوامر التي أمر الله عباده بها.
والثاني: النواهي التي نهى الله عباده عنها.
والثالث: إخباره عما احتيج إلى معرفتها.
والرابع: الإباحات التي أبيح ارتكابها.
والخامس: أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي انفرد بفعلها.
ثم رأيت كل قسم منها يتنوع أنواعا كثيرة، ومن كل نوع تنتزع علوم خطيرة، ليس يعقلها إلا العالمون؛ الذين هم في العلم راسخون دون من اشتغل في الأصول بالقياس المنكوس وأمعن في الفروع بالرأي المنحوس.
وإنا نملي كل قسم بما فيه من الأنواع وكل نوع بما فيه من الاختراع الذي لا يخفى تخصيره على ذوي الحجا، ولا تتعذر كيفيته على أولي النهى، ونبدأ منه بأنواع تراجم الكتاب، ثم نملي الأخبار بألفاظ الخطاب بأشهرها إسنادا وأوثقها عمادا من غير وجود قطع في سندها ولا ثبوت جرح في ناقليها؛ لأن الاقتصار على أتم المتون أولى، والاعتبار بأشهر الأسانيد أحرى من الخوض في تخريج التكرار وإن آل أمره إلى صحيح الاعتبار.
والله الموفق لما قصدنا بالإتمام، وإياه نسأل الثبات على السنة والإسلام، وبه نتعوذ من البدع والآثام، والسبب الموجب للانتقام؛ إنه المعين لأوليائه على أسباب الخيرات، والموفق لهم سلوك أنواع الطاعات، وإليه الرغبة في تيسير ما أردناـ وتسهيل ما أومأنا، إنه جواد كريم رؤوف رحيم.). [صحيح ابن حبان: 1/ 55-59]