القارئ: النوع السادس عشر: في الأفراد.
وهو أقسام: تارة ينفرد به الراوي عن شيخه,كما تقدم,أو ينفرد به أهل قطر,كما يقال: تفرد به أهل الشام,أو العراق,أو الحجاز,أو نحو ذلك,وقد يتفرد به واحد منهم,فيجتمع فيه الوصفان.والله أعلم.
وللحافظ الدراقطني كتاب في الأفراد من مائة جزء,ولم يسبق إلى نظيره,وقد جمعه الحافظ محمد بن طاهر في أطراف رتبه فيها.
الشيخ: (طيب). هذا المبحث مبحث الأفراد والتفرد من أهم مباحث علم الحديث,وينبغي لطلبة علم الحديث,وبخاصة في هذا الزمن,أن يهتموا بهذا المبحث ويعنوا به عناية فائقة، وحقيقة إن هذا المبحث يحتاج إلى رسالة جامعية، أرأيتم هذه الأسطر التي لا تتجاوز الخمسة,التي تكلم فيها الحافظ ابن كثير عن هذا المبحث، هذه الأسطر الخمسة يمكن أن تطور إلى رسالة جامعية؛فإن هذا مبحث من الأهمية بمكان، وأهميته نراها من خلال عناية العلماء به,وهذه العناية نجد أنها تتمثل في مثل هذا الكتاب الذي ألفه الدارقطني في مائة جزء، وهو كتاب (الأفراد)، ولا نعرف أنه موجود كاملاً الآن,وإن كان وجدت بعض الأجزاء التي يقال: إنها كتاب الأفراد.فالله أعلم.
لكن ابن طاهر المقدسي رتب هذا الكتاب على الأطراف,والمقصود بالأطراف أنه رتبه على مسانيد الصحابة,وكل صحابي يرتب الأسانيد عنه بحسب الرواة منه,ورتب الصحابة على حروف المعجم,ورتب الرواة عنهم على حروف المعجم، فأطراف الغرائب والأفراد للدراقطني موجود,وأخذ رسالة وحقق,لكن لست أدري هل تخرج أم لا؟ لكن عهدي بمثل هذه الرسائل أنها تدفن, فعسى الله جل وعلا أن يقيض لهذا الكتاب من يخرجه لينتفع به طلاب العلم؛ لأن التعامل مع المخطوط فيه شيء من الصعوبة؛لأنه يحتاج إلى فهرسة,وقراءة الخط أحياناً قد تكون عسرة على بعض الناس، فالكتاب بحاجة الحقيقة إلى من يخرجه.ويوجد منه نسخة كاملة جيدة مضبوطة.
كما أن الدارقطني رحمه الله لم يقصر عنايته على الأفراد المطلقة هكذا بهذه الصورة؛ لأنه يأتي للصحابي الواحد فيذكر المفاريد التي جاءت عن ذلك الصحابي، أي: الأحاديث التي لا تروى إلا من طريق واحد، وفي الأعم الأغلب أنه يركز على المفاريد التي فيها مقال، أي: التي يحصل التفرد فيها ممن لا يحتمل تفرده، كما أنه عني بهذا على وجه العموم,أي: عموم الصحابة؛فإنه عني أيضاً بهذا بالنسبة لأئمة معينين، فأفرد الإمام مالك بكتاب سماه (غرائب مالك).
وليس الدارقطني هو الذي اعتنى بهذا فقط,بل اعتنى به غيره من الأئمة، مثل الخطيب البغدادي؛فإنه له كتاباً في (غرائب مالك) أيضاً,والسبب أنهم وجدوا أن أن الإمام مالكا رحمه الله من الأئمة الذين كثر تلاميذهم,وكثر الرواة عنهم,وكثير من أحاديثه مدونة في موطئه الذي سمعه عليه القاصي والداني,فرواة الموطأ أكثر من أن يحصروا.
ولعلكم تجدون الآن في الأسواق عدة روايات لموطأ الإمام مالك,مع العلم أن بقية الروايات منها ما فقد,ومنها ما لا يزال مخطوطاً حتى الآن ما طبع، فالرواية المشهورة هي رواية يحيى بن يحيى الليثي,وتوجد رواية محمد بن الحسن الشيباني، وتوجد أيضاً رواية ابن زياد، وتوجد رواية أبي مصعب الزهري، وتوجد رواية سويد بن سعيد الحدثاني، وتوجد رواية ابن القاسم، كلها للموطأ,وربما غير ذلك من الروايات,مما لا يحضرني الآن على وجه السرعة.
فبما أن حديث الإمام مالك عني به هذه العناية الفائقة,وجد العلماء أحياناً أن الإمام مالك يأتي عنه بعض الأحاديث التي تعتبر مفاريد، وهذا التفرد إما أن يكون نفس الراوي الذي روى عن الإمام مالك هو الذي تفرد ممن لم يحتمل تفرده,كأن يأتي راو مجهول أو مجهول الحال فيروي عن الإمام مالك حديثاً لا يرويه غيره من أصحاب مالك المعروفين الثقات الضابطين، فتثور الدهشة ويثور العجب، كيف أن هذا الرجل النكرة جاء ليتفرد عن هذا الإمام المشهور بما لم يروه غيره ممن لازم الإمام مالك,وسمع عليه أحاديثه,وبالذات ما رواه في الموطأ.
وأحياناً قد يكون الراوي عن الإمام مالك من المشهورين من الرواية عنه,كعبد الله بن وهب مثلاً,ولكن يأتي التفرد فيمن هو دونه، أي: تأتي النكارة فيمن هو دونه كالراوي عنه,أو الراوي عن الراوي عنه، وهلم جرا نجد هذه المفاريد التي جاءت عن الإمام مالك على هذه الصفة عني بها الدارقطني في كتابه (غرائب مالك),لذلك هذه الغرائب هي مظنة أن الحديث ضعيف، بل منكر,من المفاريد التي نتكلم عنها بهذه الصفة,فلا يليق والحالة هذه أن يأتي إنسان إلى حديث من الأحاديث التي وصفت بأنها من غرائب مالك,ثم يمسك بأي طريق أخرى,ويقوي الحديث بمجموع هذين الطريقين، لا,هذا صنيع غير جيد,لا يصنعه أهل الحديث، أهل الحديث الذين يعني لهم معرفة بمواطن الرواة وبلدانهم وتلاميذهم وشيوخهم وغير ذلك من المعرفة يراعون هذه المسائل,ويعرفون إطلاقات الأئمة واستنكاراتهم، وإن كان غير المتخصص كالفقهاء والأصولين,لا يعرفون هذه المعاني، فهؤلاء يعذرون لجهلهم بطريقة أهل الحديث.
أما المختصون أهل الحديث فلا, مكانتهم غير ومعرفتهم غير، تختلف,ولعلي أذكر في هذا بأمر عرض لي في أحد تخريجاتي لحديث من الأحاديث؛فإنني حينما كنت أخرج أحاديث اختصار ابن الملقن لتلخيص الذهبي لمستدرك الحاكم جاءني حديث تفرد به, لست أدري هل هو إسماعيل بن أويس,أو غيره عن الإمام مالك، ولم أجد هذا الحديث من رواية غيره عن الإمام مالك,وهو من الأحاديث المذكورة في غرائبه عن الإمام مالك في غرائب مالك، وأعله الذهبي في إخراج الحاكم له، وبعد التتبع وجدت لهذا الحديث متابعا عند ابن عساكر في تاريخه، تاريخ دمشق، لست أدري هل هو للمتابعة عن الإمام مالك,أو لمن هو دونه.
لكن بناء على النظرة المتعجلة,يمكن أن يقول الواحد: إن الحديث بمجموع هذين الطريقين أصبح حسناً لغيره؛لأن من بعد الإمام مالك كلهم ثقات,لكن الذي أوقفني أن هناك أحد الرواة لم أجد له ترجمة، وقلت: غاية ما هنالك أنه راو مجهول,فالأمر يمكن أن يتسمح فيه.
ولذلك حينما سألني أحد الإخوة,أظنه بالأمس,عن حديث يروى من طريقين: طريق فيه راو مجهول,وطريق فيه راو مجهول الحال، هل يمكن أن يكون حسناً لغيره؟ قلت: لا أستطيع أن أعطيك جواباً حتى ينظر في الحديث,ويبذل الجهد فيه.
إنما قلت هذا؛لأن من لدغته الحية والأفعى خاف من الحبل، فهذا الحديث الذي ذكرته لكم فيه هذا الراوي المجهول الذي لم أهتد إليه، وكان هذا في الأحاديث الأول في الكتاب,والكتاب أخذ مني حوالي أربع سنوات وزيادة من العمل، فتركته وقلت: أتركه إلى وقت آخر,لعل الله جل وعلا أن يفتح علي بشيء في ذلك.
ثم بعد ذلك كنت أعاود الكرة فالكرة على هذا الحديث، فوجدت أن هناك تصحيفاً في اسم هذا الراوي في.. وهذا في المخطوط لتاريخ دمشق لابن عساكر,ومخطوطة الظاهرية سيئة فيها تصحيفات كثيرة جداً، فوجدت هناك بعض التصحيف في اسمه,ولكن بعد بذل الجهد وتقليب اسمه على انحاء شتى وجدت أن هذا الراوي له ترجمة في لسان الميزان,وإذا به كذاب من الكذابين,فحمدت الله جل وعلا أني لم أتعجل في إخراجي هذا الحديث,وأعطاني هذا درساً في ضرورة الآناة,وأن لا يتعجل طالب العلم في الحكم على حديث,وبالذات إذا كان بهذه الصفة، فينبغي عليه أن يكون ثقيل الخطى,لا يكون مقدماً ولا شجاعاً في هذه المواضع، فالشجاعة فيها لا تحمد وإنما هي تهور.
إنما أقول هذا أيها الإخوة؛لأن المحدثين يراعون مسائل التفرد هذه,ففرق بين حديث يرويه راو عن راو غير مكثر من الحديث، وإذا ما نظرت في الإسناد وإذا به كلهم ثقات,وليس هناك تفرد,حتى وإن كان الحديث ما جاء إلا من ذلك الطريق، لكن كل راو يروي عن شيخ فوقه من شيوخ غير مكثرين من الرواية,ولا من الشيوخ,ولا من التلاميذ,فمثل هذا يمكن أن يحتمل,لكن إذا جاء راو فانفرد عن إمام مشهور,فالحال يختلف عند المحدثين، هم يراعون هذا التفرد ويتعجبون كيف أن هذا الرجل أخذ هذا الحديث عن هذا الإمام ولم يأخذه غيره؟!
والأمثلة على هذا كثيرة في الحقيقة، فمثلاً: هناك حديث رواه أحمد بن الأزهر,وهو من الرواة الخراسانيين,أظنه من نيسابور,عن عبد الرزاق، وعبد الرزاق يرويه عن معمر,وأظن أن معمرا يرويه عن الزهري,عن أنس,لست أتذكر صحابي الحديث,وإنما أتذكر موضع العلة، وهو.. ولفظ الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعليٍّ: ((يا علي,حبيبك حبيبي,وحبيبي حبيب الله,وبغيضك بغيضي,وبغيضي بغيض الله)).
والحديث معروف في الكتب التي تتحدث عن المناقب والفضائل,ومن شاء الاطلاع عليه فلينظر أيضاً في تخريجي لهذا الحديث في (مختصر مستدرك الحاكم)؛ فإني قد أطلت التخريج والكلام عن علته في ذلك الموضع.
الشاهد في هذا: أن هذا الراوي الذي هو أحمد بن الأزهر روى هذا الحديث عن عبد الرزاق، وعبد الرزاق تلاميذه كثر,وبالذات الأئمة الذين رحلوا له في اليمن وحرصوا على أخذ جميع حديثه,كيحيى بن معين والإمام أحمد وغيرهما.
فحينما حدث أحمد بن الأزهر بهذا الحديث لم يتوقف يحيى بن معين عن وصفه بالكذب، وصف هذا الراوي بالكذب، وابتدأ الناس يثورون ويتعجبون من هذا الحديث؛لأن سنده من عند عبد الرزاق إلى الآخر ظاهره الصحة، وهذا الحديث مما يؤيد ما يذهب إليه الرافضة,وكم سيفرحون به ويطيرون فرحا، فيحيى بن معين في حلقته في ذات يوم قال: أين هذا الراوي الكذاب النيسابوي الذي يزعم أنه روى عن عبد الرزاق الحديث الفلاني ؟
فكان أحمد بن الأزهر موجودا في حلقة عبد الرزاق, فقام وقال: هأنذا.فخجل يحيى بن معين وقال: أما إنك لست بكذاب؛ لأنه عرف أنه لو كان كذاباً لما قام,وأيضاً لما حضر درساً، فقال: أما أنك لست بكذاب,ولكن حدثني كيف أخذت هذا الحديث عن عبد الرزاق؟
فأخبره بأنه ذهب إلى عبد الرزاق وخدمه في بعض أموره,وخصه بهذا الحديث الذي حدثه به، ويبدو أن عبد الرزاق كان احتفظ بهذا الحديث لمثل أحمد بن الأزهر؛لأنه ليس من الأئمة الذين يخشاهم عبد الرزاق في تحديثهم بهذا الحديث، لذلك عبد الرزاق ما حدث يحيى بن معين ولا الإمام أحمد بهذا الحديث؛خشية من أن يردوه أو يبدؤون يدققون في علة هذا الحديث، وإنما حدث به مثل هذا الراوي الذي ليس بمشهور، أحمد بن الأزهر.
ثم بعد النظر وجد أن عبد الرزاق حدث به راويا آخر أيضاً غير أحمد بن الأزهر، وهو راو أيضاً ليس بمشهور,فارتفعت التهمة عن أحمد بن الأزهر، وعرف أن عبد الرزاق كان حدث بهذا الحديث,ولكنه لم يجرؤ أن يحدث به,لا الإمام أحمد ولا يحيى بن معين.
بدأ العلماء بعد ذلك ينظرون في علة هذا الحديث، من أين جاءت العلة؟
قالوا: الله أعلم أن العلة كانت من قبل معمر؛ لأن عبد الرزاق صدوق لا يمكن أن يكذب، فما دام أنه أخذ هذا الحديث عن معمر فالعلة جاءت من معمر,ومعمر ثقة,لكن المشكلة في ماذا؟
في أن له ابن أخ رافضي,وابن الأخ هذا يبدو أنه أدخل هذا الحديث في كتاب عمه معمر,فحدث به معمر دون أن يتنبه له، فبينوا أن العلة يمكن أن تكمن في هذا الموضع؛ لأن الحديث عندهم حديث منكر,فيبدؤون يفتشون عن العلل بهذه الصورة.
الشاهد في هذا هو مسألة التفرد، كيف أن الناس استنكروا من مثل أحمد بن الأزهر أن يتفرد عن هذا الإمام الذي هو عبد الرزاق,والناس قد أخذوا عنه ولم يحدثوا بهذا الحديث، ثم لما تبين وتكشفت الحال وجدوا أن البلاء ليس من أحمد بن الأزهر، وإنما هو من طريقة التلقي لهذا الحديث.
كذلك حديث آخر,وإن كنت لا أتذكر الحديث,نسيته,ولكنهو أيضاً من الأحاديث التي نبهت عليها في مقدمة مسند عبد الله بن أبي أوفى ليحيى بن صاعد في تحقيقي لهذا المسند,راجعوا ترجمة يحيى بن صاعد في هذا.. في مقدمة هذا الكتاب، يحيى بن صاعد من الأئمة الثقات المتقنين الضابطين، إمام يتكلم في الرواة جرحاً وتعديلاً,وعارف بالعلل,ومن كبار المحدثين، ولكنه روى حديثاً عن شيخ كأنه تفرد به,فابتدأ بعد ذلك الناس يتساءلون: كيف يمكن أن يتفرد يحيى بن صاعد عن هذا الشيخ، وهذا الشيخ له تلاميذ؟ هل يتصور هذا؟
فكثر الكلام في يحيى بن صاعد,ولكنه لم يأبه به ولم يبال بهم، فالرجل عنده من الثقة بنفسه وبضبطه وحفظه وإتقانه,ما جعله ينصرف عن كلام هؤلاء الناس، فأحد تلاميذه في يوم من الأيام وهو يطالع في أحد الأجزاء الحديثية لراو قريب ليحيى بن صاعد، وجد في جزء ذلك الرجل هذا الحديث يرويه هذا الرجل عن نفس شيخ يحيى بن صاعد,أي: متابعاً ليحيى بن صاعد، ففرح هذا التلميذ بهذه المتابعة وهرول من ساعته,وكان ذلك بعد الظهر، فذهب وطرق على يحيى بن صاعد داره وقال: البشارة يا أبا محمد. قال: وما ذاك؟ قال: الحديث الفلاني وجدته في جزء فلان عن فلان.وظن أن يحيى سيفرح به، فجوبه بالعكس فغضب عليه يحيى وقال: يا فاعل,أنا أحتاج من يتابعني؟!
فعلى كل حال هذه المتابعة أفادت في ماذا؟ في أن كلام الناس يمكن أن ينصرف عن يحيى بن صاعد,وأما وثوق الرجل بنفسه فهو في محله رحمة الله عليه.
أنا يبدو أنني أطلت في الكلام على هذه الجزئية، ولكنني أعيد التنبيه على أهميتها.والكلام عنها في الحقيقة يحتاج إلى طول أكثر من هذا.