(27-34){أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَِنْعَامِكُمْ} يقولُ تعالى مبيِّناً دليلاً واضحاً لمنكري البعثِ ومستبعدي إعادةِ اللهِ للأجسادِ: {أَأَنْتُمْ} أيُّها البشرُ {أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ}ذاتُ الجرْمِ العظيم، والخلقِ القوي، والارتفاعِ الباهِر {بَنَاهَا} اللهُ، {رَفَعَ سَمْكَهَا} أي: جرمهَا وصورتهَا، {فَسَوَّاهَا} بإحكامٍ وإتقانٍ يحيرُ العقولَ، ويذهلُ الألبابَ.
{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا}أي: أظلَمهُ، فعمتِ الظلمةُ [جميعَ] أرجاءِ السماء، فأظلمَ وجهُ الأرضِ، {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا}أي: أظهرَ فيهِ النورَ العظيمَ، حينَ أتى بالشمسِ، فامتدَّ النَّاسُ في مصالحِ دينهِمْ ودنياهمْ.
{وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ}أي: بعد خلق السماءِ {دَحَاهَا}أي: أودعَ فيها منافعهَا، وفَسَّرَ ذلكَ بقولهِ {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} أي: ثبَّتَها في الأرضِ.
فَدَحْيُ الأرضِ بعدَ خلق السماءِ،كما هوَ نصُّ هذه الآياتِ [الكريمةِ].
وأمَّا خْلقُ الأرضِ فمتقدِّمٌ على خلقِ السماءِ؛ كما قالَ تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى أنْ قالَ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}.
فالذي خلقَ السماواتِ العظامَ وما فيهَا منَ الأنوارِ والأجرامِ، والأرضَ الكثيفةَ الغبراءَ، وما فيهَا منْ ضرورياتِ الخلقِ ومنافعهمْ، لا بدَّ أنْ يبعثَ الخلقَ المكلَّفينَ، فيجازيَهمْ على أعمالِهمْ، فمنْ أحسنَ فلهُ الحسنى، ومنْ أساءَ فلا يلومَنَّ إلاَّ نفسَهُ، ولهذا ذكرَ بعدَ هذا القيامِ الجزاءَ، فقالَ:
(34-41) {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى (36) فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} أي: إذا جاءتِ القيامةُ الكبرى، والشدةُ العظمى، التي تهونُ عندَها كلُّ شدةٍ، فحينئذٍ يذهلُ الوالدُ عن ولدهِ، والصاحبُ عن صاحبه [وكلُّ محبٍّ عنْ حبيبهِ].
و{يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى} في الدنيا، مِنْ خيرٍ وشرٍّ، فيتمنى زيادةَ مثقالِ ذرةٍ في حسناتهِ، ويغمّه ويحزنُ لزيادةِ مثقالِ ذرةٍ في سيئاتهِ.
ويعلمُ إذ ذاكَ أنَّ مادَّةَ ربحِهِ وخسرانهِ ما سعاهُ في الدنيا، وينقطعُ كلُّ سببٍ وصلةٍ كانتْ في الدنيا، سوى الأعمالِ.{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} أي: جعلتْ في البرازِ، ظاهرةً لكلِّ أحدٍ، قدْ برزتْ لأهلِهَا، واستعدتْ لأخذِهمْ، منتظرةً لأمرِ ربِّها.
{فَأَمَّا مَن طَغَى}أي: جاوزَ الحدَّ بأَنْ تجرَّأَ علَى المعاصي الكبارِ، ولمْ يقتصرْ علَى ما حدَّهُ اللهُ.
{وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} علَى الآخرةِ، فصارَ سعيُهُ لهَا، ووقتُهُ مستغرقاً في حظوظِهَا وشهواتِها، ونسيَ الآخرةَ وتركَ العملَ لهَا.
{فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[لهُ] أي: المقرُّ والمسكنُ لِمَنْ هذهِ حالُهُ.
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أي: خافَ القيامَ عليهِ ومجازاتِهِ بالعدلِ، فأثَّرَ هذا الخوفُ في قلبِهِ، فنهَى نفسَهُ عَنْ هواهَا الذي يقيِّدُها عَنْ طاعةِ اللهِ، وصارَ هواهُ تبعاً لِمَا جاءَ بهِ الرسولُ، وجاهدَ الهوى والشهوةَ الصادِّينِ عن الخيرِ، {فَإِنَّ الْجَنَّةَ} [المشتملةَ على كلِّ خيرٍ وسرورٍ ونعيمٍ] {هِيَ الْمَأْوَى} لمنْ هذا وصفُهُ.
(42-46){يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} أي: يسألُكَ المتعنتونَ المكذبونَ بالبعثِ {عَنِ السَّاعَةِ} متَى وقوعهَا؟ و{أَيَّانَ مُرْسَاهَا}؟ فأجابهمُ اللهُ بقولِهِ: {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} أي: ما الفائدةُ لكَ ولهمْ في ذكرهَا ومعرفةِ وقتِ مجيئِها؟ فليسَ تحتَ ذلكَ نتيجةٌ، ولهذا لمَّا كانَ علمُ العبادِ للساعةِ ليسَ لهمْ فيهِ مصلحةٌ دينيةٌ ولا دنيويةٌ، بلِ المصلحةُ في خفائِهِ عليهمْ، طوَى علمَ ذلكَ عنْ جميعِ الخلقِ، واستأثرَ بعلمهِ فقالَ: {إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} أي: إليهِ ينتهي علمُهَا، كمَا قالَ في الآيةِ الأخرى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
{إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا}أي: إنَّمَا نذارتُك [نفعُها] لمنْ يخشى مجيءَ الساعةِ، ويخافُ الوقوفَ بينَ يديهِ، فهمُ الذينَ لا يهمهمْ سوى الاستعدادِ لها والعملِ لأجلِهَا.
وأمَّا مَنْ لا يؤمنُ بهَا فلا يبالى بهِ ولا بتعنُّتِهِ؛ لأنَّهُ تعنُّتٌ مبنيٌّ علَى العنادِ والتكذيبِ، وإذا وصلَ إلَى هذهِ الحالِ، كانَ الإجابةُ عنهُ عبثاً، ينزَّهُ الحكيمُ عنهُ [تمت] والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.