وَمِلاَكُ الأَمْرِ أَنْ يَهَبَ اللَّهُ لِلْعَبْدِ حِكْمَةً وَإِيمَانًا بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ عَقْلٌ وَدِينٌ، حَتَّى يَفْهَمَ وَيَدِينَ، ثُمَّ نُورُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُغْنِيهِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ كثيرًا مِنَ النَّاسِ قَدْ صَارَ مُنْتَسِبًا إِلَى بَعْضِ طَوَائِفِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَمُحْسِنًا لِلظَّنِّ بِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَمُتَوَهِّمًا أَنَّهُمْ حَقَّقُوا فِي هَذَا الْبَابِ مَا لَمْ يُحَقِّقْهُ غَيْرُهُمْ، فَلَوْ أُتِيَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعَهَا حَتَّى يُؤْتَى بِشَيْءٍ مِنْ كَلامِهِمْ(1).
ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذَا مُخَالِفُونَ لأَسْلافِهِمْ غَيْرُ مُتَّبِعِينَ لَهُمْ، فَلَوْ أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِالْهُدَى الَّذِي يَجِدُونَهُ فِي كَلامِ أَسْلافِهِمْ لَرُجِيَ لَهُمْ مَعَ الصِّدْقِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ أَنْ يَزْدَادُوا هُدًى، وَمَنْ كَانَ لاَ يَقْبَلُ الْحَقَّ إِلاَّ مِنْ طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ لاَ يَتمسكُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ: فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ).
فَإِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: لاَ نُؤْمِنُ إِلا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْنَا. قَالَ اللَّهُ تعالى لَهُمْ: {فَلِمَ تَقْتُلونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كنتمْ مؤمنين بِمَا أُنْزَلَ عَلَيْكُمْ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ: لاَ لمَا جَاءَتْكُمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُكُمْ تَتَّبِعُونَ، وَلاَ لِمَا جَاءَتْكُمْ بِهِ سَائِرُ الأَنْبِيَاءِ تَتَّبِعُونَ، وَلَكِنْ إِنَّمَا تَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَكُمْ، فَهَذَا حَالُ مَنْ لَمْ يَقبل الْحَقَّ، لاَ مِنْ طَائِفَتِهِ وَلا مِنْ غَيْرِها، مَعَ كَوْنِهِ يَتَعَصَّبُ لِطَائِفَتهِ بلا بُرْهَانٍ مِنَ اللَّهِ وَلا بَيَانٍ.