وَكَلامُ الأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَطْوَلُ وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَسَعَ هَذِهِ الْفُتْيَا عُشْرَهُ، وَكَذَلِكَ كَلامُ النَّاقِلِينَ لِمَذْهَبِهِمْ.
مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي ( الْغُنْيَةِ عَنِ الْكَلامِ وَأَهْلِهِ ) قَالَ: ( فَأَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنَ الصِّفَاتِ، وَمَا جَاءَ مِنْهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَإِنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ إِثْبَاتُهَا وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَنَفْيُ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا، وَقَدْ نَفَاهَا قَوْمٌ فَأَبْطَلُوا مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ، وَحَقَّقَهَا قَوْمٌ مِنَ الْمُثْبِتِينَ فَخَرَجُوا فِي ذَلِكَ إِلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّكْيِيفِ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ فِي سُّلُوكِ الطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ بَيْنَ الأَمْريْنِ، وَدِينُ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ والجافي وَالْمُقَصِّرِ عَنْهُ)(1).
وَالأَصْلُ فِي هَذَا: أَنَّ الْكَلامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَنِ الْكَلامِ فِي الذَّاتِ، ويُحْتَذَى فِي ذَلِكَ حَذْوُهُ وَمِثَالُهُ. فَإِذَا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ إِثْبَاتَ الْبَارِي سبحانه إِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتُ وُجُودٍ لاَ إِثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ، فَكَذَلِكَ إِثْبَاتُ صِفَاتِهِ إِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتُ وُجُودٍ لاَ إِثْبَاتُ تَحْدِيدٍ وَتَكْيِيفٍ.
فَإِذَا قُلْنَا: يَدٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ وَمَا أَشْبَهَهَا، فَإِنَّمَا هِيَ صِفَاتٌ أَثْبَتَهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ، وَلَسْنَا نَقُولُ: إِنَّ مَعْنَى الْيَدِ الْقُوَّةُ أَو النِّعْمَةُ، وَلا مَعْنَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ الْعِلْمُ، وَلا نَقُولُ: أنَّها جَوَارِحُ، وَلا نُشَبِّهُهَا بالأَيْادِي وَالأَسْمَاعِ والأَبْصَارِ الَّتِي هِيَ جَوَارِحُ وَأَدَوَاتٌ لِلْفِعْلِ، وَنَقُولُ: إِنَّمَا وَجَبَ إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ؛ لأَنَّ التَّوْقِيفَ وَرَدَ بِهَا، وَوَجَبَ نَفْيُ التَّشْبِيهِ عَنْهُا؛ لأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَعَلَى هَذَا جَرَى قَوْلُ السَّلَفِ فِي أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ. أ هـ. هَذَا كُلُّهُ كَلامُ الْخَطَّابِيِّ.
وَهَكَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ فِي رِسَالَةٍ لَهُ أَخْبَرَ فِيهَا أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ عَلَى ذَلِكَ.
وَهَذَا الْكَلامُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ قَدْ نَقَلَ نَحْوًا مِنْهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَا لاَ يُحْصَى، مِثْلُ: أَبِي بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيِّ، والإِمَامِ يَحْيَى بْنِ عَمَّارٍ السِّجْزِيِّ، وشَيْخِ الإِسْلامِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الأَنْصَارِيِّ الْهَرَوِيِّ، صاحب منازل السائلين، وذم الكلام، وهو أشهر من أن يوصف و شَيْخِ الإِسْلامِ أَبِي عُثْمَانَ الصَّابُونِيِّ، وَأَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمِرِيِّ إِمَامِ الْمَغْرِبِ، وَغَيْرِهِمْ.