المبحثُ الأوَّلُ(4)
في أركانِ التشبيهِ(5)
(أركانُ التشبيهِ أربعةٌ)(6): المشبَّهُ والمشبَّهُ به (ويُسمَّيان طرَفَي التشبيهِ)(7) و(8) وجهُ الشبَهِ والأداةُ(9).
ووجْهُ الشبَهِ هو الوصْفُ الخاصُّ(1) الذي قُصِدَ اشتراكُ الطرَفَيْن فيه(2) كالهدايةِ في العلْمِ والنورِ(3)
وأداةُ التشبيهِ(4) هي اللفظُ الذي يَدُلُّ علي معنى المشابَهَةِ(5) كالكافِ(6) وكأنَّ(7) وما في معناهما(8)، والكافُ يَليها المشبَّهُ به(9)
بخلافِ كأنَّ، فيَلِيها المشبَّهُ(1)، نحوُ(2):
كأنَّ الثُّرَيَّا(3) راحةٌ تَشْبُرُ(4) الدُّجَا(5) ..... لِتنظُرَ طالَ الليلُ أمْ قد تَعرَّضَا(6)
وكأنَّ تُفيدُ التشبيهَ إذا كان خبرُها جامداً(7)، و(8) الشكَّ إذا كان خبرُها مشتقًّا، نحوُ: كأنك فاهِمٌ(9).
وقد يُذكَرُ فعْلٌ(10) يُنْبِئُ(11) عن التشبيهِ(12)،
نحوُ قولِه تعالى: {إِذَا رَأَيْتَهُمْ(1) حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} (2).
وإذا حُذِفتْ أداةُ التشبيهِ(3) و (4) وجهُه(5) سُمِّيَ(6) تشبيهاً بليغاً(7)، نحوُ(8) {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً}(9) أي كاللباسِ في السِّتْرِ.
___________________
(4) المبحثُ الأوَّلُ في
(5) أركانِ التشبيهِ
(6) (أركانُ التشبيهِ أربعةٌ) المرادُ بالركْنِ ما يَتوقَّفُ عليه الشيءُ, أي: الأمورُ التي يَتوقَّفُ عليها تعريفُ التشبيهِ الاصطلاحيِّ السابِقِ لكونِها مأخوذةً فيه على أنها قيودٌ خارجيَّةٌ، ويَجوزُ أن يُرادَ بالركْنِ ما كان جُزءاً لحقيقةِ الشيءِ، فيُرادُ بالتشبيهِ الكلامُ الدالُّ على الإلحاقِ السابقِ، ولا شكَّ أنَّ ما سِوَى وجهِ الشبَهِ من الأربعةِ أجزاءٌ له، وكذا وجهُ الشبَهِ جُزْءٌ له باعتبارِ اللفظِ الدالِّ عليه. الركنان الأوَّلُ والثاني.
(7) (المُشبَّهُ والمُشبَّهُ به ويُسَمَّيَان طرَفَي التشبيهِ)؛ لأنهما الأصلُ والعمدةُ في التشبيهِ؛ لأنهما معروضان للوجْهِ القائمِ بهما والمعروضُ أقوى من العارضِ؛ لأنه موصوفٌ والوصْفُ تابِعُه, ولأن الأداةَ آلةٌ لبيانِ التشبيهِ، وكثيراً ما يُستَغْنَى عنها في التركيبِ.
(8) (و) الركنان الثالثُ والرابعُ.
(9) (وجهُ الشبَهِ والأداةُ)
(1) (ووجهُ الشبَهِ هو الوصفُ الخاصُّ) أي: الذي يكونُ فيه نوعُ خصوصيَّةٍ, بل زيادةُ اختصاصٍ بهما حتى يُفيدَ التشبيهَ.
(2) (الذي قُصِدَ اشتراكُ الطرفَيْن فيه) أي: الذي قَصَدَ المتكلِّمُ بيانَ اشتراكِهما فيه.
(3) (كالهدايةِ في العلْمِ والنورِ) أي: في تشبيهِ العلْمِ بالنورِ, فلا يكونُ من الذاتيَّاتِ, ولا من الأعراضِ العامَّةِ؛ لأن الكلامَ المفيدَ للتشبيهِ باعتبارِ ذلك لا يُفيدُ، فمثلاً إذا قلتَ: زيدٌ كالأسدِ فإنه لو اعتبرتَ وجهَ الشبَهِ الجراءةَ الْمُخْتَصَّةَ فيهما المشهورةَ في الأسدِ كان صحيحاً, ولو اعتَبَرْتَ الوجهَ فيهما الحيوانيَّةَ والجسميَّةَ والوجودَ والحدوثَ، فإن الكلامَ لا يصِحُّ لعمومِهِ وعدَمِ فائدتِه، هذا مالم يَتَعلَّقْ به غرَضٌ لقَصْدِ المتكلِّمِ، كالتعريضِ بمن لا يَفهمُ المشابَهةَ في وجهٍ من الوجوهِ فيكونُ فيها مزيدُ اختصاصٍ وارتباطٍ من حيث ذلك الغرَضُ، فيكونُ الكلامُ بذلك مفيداً وصحيحاً.
(4) (وأداةُ التشبيهِ) أي: وآلتُه التي تدُلُّ عليه؛ لأنَّ الأداةَ لغةً الآلةُ سُمِّيَ بها ما يُتَوَصَّلُ به إلى التشبيهِ اسماً كان أو فعْلاً أو حرفاً.
(5) (هي اللفظُ الذي يدُلُّ على معنى المشابَهةِ) الإضافةُ بيانيَّةٌ أي: على معنًى هو المشابَهةُ بينَ الأمرَيْنِ.
(6) (كالكافِ) نحوُ: خالدٌ كالأسدِ وهي الأصلُ لبساطتِها اتِّفاقاً وتَلْزَمُ إذا دخلَتْ على كلمةِ أن المفتوحةِ كلمةُ ما فيُقالُ عمرٌو قائمٌ كما أنَّ زيداً قائمٌ.
(7) (وكأنَّ) نحوُ: خالدٌ كأنَّه أسدٌ، قيلَ: هي بسيطةٌ وقيلَ: مركَّبةٌ من الكافِ, ومِن أنَّ المشدَّدةِ، والأقربُ الأوَّلُ لجمودِ الحروفِ مع وقوعِها فيما لا يَصِحُّ فيه التأويلُ بالمصدرِ المناسِبِ لأنَّ المفتوحةِ.
(8) (وما في معناهما) أي: واللفظِ الذي معناهما فيه, ففي الكلامِ قلْبٌ، وذلك مِثْلَ وشِبْهٌ، ونحوُ وما اشتُقَّ منها، كقولِهم في الجبانِ: ما أشبهَهُ بالأسدِ.
(9) (والكافُ يَلِيها المُشبَّهُ به) لا المُشبَّهُ. وذلك؛ لأن المُشبَّهَ مُخْبَرٌ عنه بلحوقِ غيرِه محكومٌ عليه, فلو دخلَت الكافُ عليه لامتنَعَ الإخبارُ عنه، ومثلُها لفظُ: مثلَ ونحوُ وشِبْهُ ومماثِلٌ مما يَدْخلُ على المفرَدِ. وموالاةُ المُشبَّهِ به للكافِ ونحوِها، إما لفظاً، كقولِك زيدٌ كالأسدِ وإما تقديراً كقولِه تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} فالكافُ لم تَدخُلْ على المُشبَّهِ به لفظاً بل تقديراً؛ إذ المرادُ أو كَمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ هذا هو الكثيرُ الغالِبُ، وقد يَلِيها ويَلِي نحوُها غيرُ المُشبَّهِ به فيما إذا كان المُشبَّهُ به مركَّباً، كقولِه تعالى: {وَاضْرِبْ لَهْمُ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ} إذ ليس المرادُ تشبيهَ حالِ الدنيا بالماءِ, ولا بمفرَدٍ آخرَ يُحْتَمَلُ تقديرُه، بل المرادُ تشبيهُ حالِها في نضارتِها وبهجتِها وما يَعْقُبُها من الهلاكِ والفَناءِ بحالِ النباتِ الحاصلِ من الماءِ يكونُ أخضرَ ناضِراً شديدَ الْخُضرَةِ, ثم يَيْبَسُ فتُطَيِّرُه الرياحُ كأنْ لم يكنْ.
(1) (بخلافِ كأنَّ فيَلِيها المُشبَّهُ) لأنها تدْخُلُ على الجملةِ.
(2) (نحوُ) قولِ الشاعرِ.
(3) (كأنَّ الثُّرَيَّا) وهي مجموعةٌ من الكواكبِ في عُنُقِ بُرْجِ الثَّوْرِ.
(4) (راحَةٌ تَشْبُرُ) أي: تُقَدِّرُ
(5) (الدُّجَا) أي: ظُلْمَةُ الليلِ.
(6) (لتَنظُرَ طالَ الليلُ أم قد تَعَرَّضَا) أي: ظَهَرَ جانبُه.
(7) (وكأنَّ تفيدُ التشبيهَ إذا كان خبرُها جامِداً) نحوُ: كأنَّ خالداً أسدٌ.
(8) (و ) تُفيدُ.
(9) (الشكَّ إذا كان خبرُها مُشْتَقًّا نحوُ كأنك فاهمٌ) وذلك لأن خبرَها المشتَقَّ عينُ اسمِها المخاطَبِ, والشيءُ لا يُشَبَّهُ بنفسِه وهذا هو قولُ الزَّجَّاجِ, وذَكَرَ السعْدُ التفتازانِيُّ في المختصَرِ أنها تُستعمَلُ للتشبيهِ والظنِّ مطلَقاً سواءٌ كان الخبرُ جامدًا أو مشتَقًّا، وذكَرَ في المُطَوَّلِ أنه الحقُّ وأن استعمالَها للظنِّ مطلَقاً كثيرٌ في كلامِ المولَّدينَ وذَهَبَ فريقٌ ثالثٌ إلى أنها للتشبيهِ مطلَقاً, ولا تكونُ لغيرِه, وجَعَلَ نحوُ كأنك فاهمٌ على حذْفِ الموصوفِ أي: كأنك شخصٌ فاهِمٌ فلمَّا حُذِفَ الموصوفُ, وجُعِلَ الاسمُ بسببِ التشبيهِ, كأنه الخبرُ بعينِه صارَ الضميرُ يعودُ إلى الاسمِ لا إلى الموصوفِ المقدَّرِ.
(10) (وقد يُذكرُ فعْلٌ) غيرُ الأفعالِ الموضوعةِ من أصلِها للدَّلالةِ على التشبيهِ لاشتقاقِها مما يَدلُّ عليه.
(11) (يُنْبِئُ) أي: ذلك الفعلُ.
(12) (عن التشبيهِ) بأن يُستعمَلَ فيما يُفيدُه من غيرِ ذكْرِ أداةٍ فيكونُ الفعلُ قائماً مقامَها، فإنْ كان كعلِمْتُ ونحوِه من صِيَغِ القطْعِ أفادَ قُرْبَ المشابَهةِ، بحيث يكونُ وجْهُ الشبَهِ قريبَ الإدراكِ فيَتحقَّقُ بأدنى الْتِفاتٍ إليه وإن كان كحَسِبْتُ وخِلْتُ ونحوِهما، أفادَ بُعْدَها بحيث يكونُ الوجهُ بعيداً عن التحقُّقِ وخَفِيًّا عن الإدراكِ العلْميِّ، فالأوَّلُ نحوُ قولِك عَلِمْتُ زيداً أسداً فإنَّ العلْمَ معناه التحقُّقُ, وذلك يُناسبُ الأمورَ الظاهرةَ البعيدةَ عن الخفاءِ، فلذلك أفادَ عَلِمْتُ حالَ تشبيهِ زيدٍ بالأسدِ وأنه على وجهِ قُرْبِ المشابَهةِ، والثاني.
(1) {نحوُ قولِه تعالى:إِذَا رَأَيْتَهُمْ} أي: الْحُورَ العينَ التي في الجنةِ.
(2) {حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} فإن الْحُسْبانَ ليس فيه الرُّجْحَانُ بل إدراكٌ على وجهِ الاحتمالِ, ومن شأنِ البعيدِ عن الإدراكِ أن يكونَ إدراكُه كذلك، فأفادَ حَسِبْتُ حالَ التشبيهِ وأنَّ فيه بُعْداً.
(3) (وإذا حُذِفَتْ أداةُ التشبيهِ) بأن تُرِكَتْ بالكلِّيَّةِ وصارت نَسْياً مَنْسِيًّا بحيث لا تكونُ مقدَّرةً في نظْمِ الكلامِ لأجلِ الإشعارِ بأن المُشبَّهَ عينُ المُشبَّهِ به.
(4) (و) حُذِفَ
(5) (وجهُه) أي: وجهُ التشبيهِ بأن تُرِكَ بالكلِّيَّةِ بحيث لا يكونُ مقدَّراً لأجْلِ الإشعارِ بأنَّ اشتراكَ الطرَفَيْن ليس في صفةٍ واحدةٍ, بل في جميعِ الصفاتِ.
(6) (سُمِّيَ) أي: التشبيهُ المذكورُ.
(7) (تشبيهاً بليغاً) أي: واصلاً إلى درجةِ القَبولِ من البلوغِ بمعنى الوصولِ؛ لأن حذْفَ الأداةِ والوجهِ يُوقِعُ في ذهْنِ السامعِ تَحَقُّقَ دَعْوى اتِّحادِ الطرَفَيْن.
(8) (نحوُ) قولِه تعالى:
(9) {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} أي: كاللباسِ في الستْرِ, وقد يُسَمَّى هذا التشبيهُ تشبيهاً مُؤَكَّداً أيضاً، إلا أن المعتَبَرَ في مفهومِ المؤكَّدِ كما سيأتي حذْفُ الأداةِ، سواءٌ حُذِفَ معها الوجهُ أو لم يُحْذَفْ، فهو أعمُّ من البليغِ. فتدبَّرْ.