وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ( مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ الْبَاقِلاَّنِيُّ ) الْمُتَكَلِّمُ - وَهُوَ أَفْضَلُ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الأَشْعَرِيِّ، لَيْسَ فِيهِمْ مِثْلُهُ لاَ قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ - قَالَ فِي كِتَابِهِ ( الإِبَانَةِ) تَصْنِيفِهِ:
فَإِنْ قَالَ قائل: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ وَجْهًا وَيَدًا؟ قِيلَ لَهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)(1)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ وَجْهًا وَيَدًا.
فَإِنْ قَالَ: فَلِمَ أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ وَيَدُهُ جَارِحَةً إِذْ كُنْتُمْ لاَ تَعْقِلُونَ وَجْهًا وَيَدًا إِلاَّ جَارِحَةً؟
قُلْنَا: لاَ يَجِبُ هَذَا كَمَا لاَ يَجِبُ إِذَا لَمْ نَعْقِلْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إِلاَّ جِسْمًا أَنْ نَقْضِيَ نَحْنُ وَأَنْتُمْ بِذَلِكَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، وَكَمَا لاَ يَجِبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَانَ قَائِمًا بِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا؛ لأَنَّا وَإِيَّاكُمْ لمْ نَجِدْ قَائِمًا بِنَفْسِهِ فِي شَاهِدِنَا إِلاَّ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لَهُمْ، إِنْ قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ وَحَيَاتُهُ وَكَلاَمُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَسَائِرُ صِفَاتِهِ عَرَضًا وَاعْتَلُّوا بِالْوُجُودِ(2).
قَالَ: فَإِنْ قَالَ: تَقُولُونَ: إِنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؟
قِيلَ لَهُ: مَعَاذَ اللَّهِ، بَلْ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وَقَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}.
قَالَ: وَلَوْ كَانَ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَكَانَ فِي بَطْنِ الإِنْسَانِ وَفَمِهِ، وَالْحُشُوشِ، وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهَا، وَلَوَجَبَ أَنْ يَزِيدَ بِزِيَادَةِ الأَمْكِنَةِ إِذَا خَلَقَ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهَا إِذَا بَطَلَ مِنْهَا مَا كَانَ، وَلَصَحَّ أَنْ يُرْغَبَ إِلَيْهِ إِلَى نَحْوِ الأَرْضِ، وَإِلَى خَلْفِنَا وَإِلَى يَمِينِنَا وَإِلَى شَمَالِنَا، وَهَذَا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خِلافِهِ وَتَخْطِئَةِ قَائِلِهِ(3).
وَقَالَ أَيْضًا فِي هَذَا الْكِتَابِ: صِفَاتُ ذَاتِهِ الَّتِي لَمْ يَزَلْ وَلا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِهَا، هِيَ: الْحَيَاةُ، وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ، وَالْكَلامُ، وَالإِرَادَةُ وَالْبَقَاءُ، وَالْوَجْهُ، وَالْعَيْنَانِ، وَالْيَدَانِ، وَالْغَضَبُ، وَالرِّضَا.
وَقَالَ فِي كِتَابِ ( التَّمْهِيدِ ) كَلامًا أَكْثَرَ مِنْ هَذَا ـ لكن ليست النسخة حاضرة عندي ـ وَكَلامُهُ وَكَلامُ غَيْرِهِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي مثل هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ لِمَنْ يَطْلُبُهُ، وَإِنْ كُنَّا مُسْتَغْنِينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ عَنْ كُلِّ كَلامٍ(4).