الفصل التاسع: المصدق والبشير:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( الفصل التاسع
المصدق والبشير
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/223]
يتناول هذا الفصل في ختام مباحث هذا الكتاب تفسير ما بقي أمامنا من العلم الأعجمي في القرآن، وهي عشرةُ أعلام: زكريا – يحيى – عمران – مريم – عيسى – الإنجيل – النصارى – الصابئون – المجوس – الروم.
والأعلامُ السبعة الأولى (زكريا، يحيى، عمران، مريم، عيسى، الإنجيل، النصارى) هي أعلام المسيحية. فزكريا أبو يحيى، ويحيى ابن خالة مريم، ومريم ابنة عمران هي أم عيسى، رضي الله عنهم جميعًا ورضوا عنه، أنبياء وصديقين، أما الإنجيل فهو وحي الله على عيسى، وأما النصارى فهم المسيحيون أتباع المسيح.
أما الأعلامُ الثلاثة الأخرى (الصابئون، المجوس، الروم) فهم من أعلام المسيحية قريب. فقد قيل في الصابئين إنهم بقية من أتباع يحيى بن زكريا عليهما السلام، وقيل غير ذلك. وأما المجوس فهي علم على أتباع ديانة فارس أو الزرادشتيين أتباع زرادشت، ولعلك قرأت في الإنجيل أن مجوسًا رأوا في السماء نجم المسيح فجاءوا من بلادهم يحضرون مولده عليه السلام ويقدمون له «هدايا ذهبًا ولبانًا ومرًا» (متى 2/ 11). وأما الروم فالمعنى بها في القرآن هم البيزنطيون وقيصرهم هرقل عصر نزول القرآن، وقد تسمى بها البيزنطيون في آسيا الصغرى والبلقان لأن ملوكهم كانوا سلالة من قياصرة روما قبل انهيار الإمبراطورية الرومانية على أيدي القوط، بل قد كان من البيزنطيين من خلع اسم «روما» (عاصمة إيطاليا اليوم) على بيزنطة (وهي استامبول اليوم في تركيا)، تحنانًا إلى ذكرى روما الأولى (روما يوليوس قيصر وأوكتافيوس أوجستس ومركس أنطنيوس) أيام مجده القديم.
ولم نجد أنسب من هذا الفصل موضعًا للحديث عن الصابئين والمجوس والروم في سياق تحليلنا معاني أعلام المسيحية وتفسيرها من القرآن بالقرآن، فقد جاء «النصارى» مجموعين إلى الصابئين والمجوس في قوله عز وجل: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/224]
القيامة إن الله على كل شيء شهيد} [الحج: 17]. أما الروم فلأنهم الذين آل إليهم منذ القرن الرابع لميلاد المسيح صولجان المسيحية وسلطانها.
وليس من مقاصدنا المباشرة في هذا الكتاب الذي نكتب نقد المسيحية في صورتها التي نقضها القرآن من قبل، أعني عقيدة التثليث والخلاص بالمسيح، فادى البشر بدمه المسفوح على الصليب، فقد تكفل القرآن بالنقد والنقض معًا، وليس بعد القرآن مزيد لمستزيد، الذي جاء بها ناصعة بينة في جواب المسيح ربه يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا، إنك أنت علام الغيوب: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 116 – 117]، وقوله عز وجل، المتفرد بالالوهية والملك: {لن يستنكف المسيح أني كون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} [النساء: 172]، ويدخل في الملائكة المقربين جبريل روح القدس صلوات الله عليه، ثالث الثلاثة في عقيدة التثليث. من هنا تستظهر أن المسيحية يوم رفع المسيح ليست هي تلك المسيحية التي جادل بها أساقفة نجران خاتم النبيين، التي صيغت أصولها في المجامع، بدءًا بمجمع نيقية عام 325م، بعد رفع المسيح بنحو ثلاثة قروة، الذي أله المسيح على البنوة لله، ثم أعقبه بنحو خمسين سنة مجمع آخر فصل القول في ألوهية روح القدس جبريل، فاكتمل الثالوث الأقدس: الآب والابن والروح القدس، ثلاثة في واحد.
ولكن مقولة المسيحيين في المسيح هي التي تفرض نفسها على كل بحث لغوي صرف يريد تحليل معنى علم المسيحية الأكبر، عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، كما سترى، وأيضًا لفظة «إنجيل»، لأن مقولة المسيحيين في المسيح هي التي صنعت التفسير اللغوي الشائع لهاتين اللفظتين: «عيسى» («يشوع» عبريًا)، «إنجيل» المقول بيونانيتها ترتيبًا على يونانية الإناجيل.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/225]
والذي ينبغي التنبيه إليه فما مضى من مباحث الكتاب وفيما سوف يلي، أننا حين يلجئنا موضوع البحث إلى النقد، فهو النقد الرصين، نريد به وجه الحق تبارك وتعالى، فنختصم المقولة ولا نشجب القائل، فالهدى هدى الله عز وجل، ولو شاء لهدى الناس أجمعين، ولله وحده الفضل والمن: {قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} [الحجرات: 17]. ومن فضل الله على المسلم أنه معصوم بعصمة الله عز وجل عن الخوض في مقام أنبيائه: {لا نفرق بين أحد من رسله} [البقرة: 285] ولا تستقيم لغير المسلم مع المسلم حجة إلا بالخوض في نبوة خاتم النبيين.
ومن فرائد إعجازات القرآن في غيوب القرآن قوله عز وجل في الآية التي تلوت توًا: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد} [الحج: 17]، أي سيظل من هؤلاء وهؤلاء فرق يفصل بينهم الله يوم القيامة، يوم يجيء كل أناس بإمامهم.
أما أنبياء الله ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، فسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 223-226]