(38) يأجوج ومأجوج:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (38) يأجوج ومأجوج
«يأجوج ومأجوج» غيبٌ من غيب الله عز وجل الذي أخبر به القرآن، لا تجد له في التوراة والإنجيل اللذين بين يديك، وفي أقاصيص أهل الكتاب، إلا أهابيش من ضباب رؤى وخيالات تبعد بك كل البعد عن حديث يأجوج ومأجوج الذي في القرآن.
ففي «توراة الأنبياء والكتبة» يحدثك سفر حزقيال – وهو من أعلام القرن السادس قبل الميلاد – لا عن «يأجوج ومأجوج» الذين ردم عليهم «ذو القرنين» فلا يخرجون حتى قبيل قيام الساعة – وإنما يحدثك عن «جوج» أمير «ماجوج» الذي يجيء من أقاصي الشمال ومعه شعوب كثيرة فيجتاح إسرائيل، ولكن الله يرد لبني إسرائيل الكرة عليهم فيستأصلونهم ويقبرون في واد يسمونه وادي جمهور جوج (راجع الإصحاحين 38 و 39 من سفر حزقيال). وحزقيال عند اليهود نبي راء، يرى الرؤى فيخبر بها وكأنها وحي من الله عليه، والرؤى كما تعلم أضغاث ورموز، إن صدقت الرائي فلا تأمن سوء الفهم عنه، وإن استأمنت الناسخ والناقل فلا تأمن الخلط والتخليط.
وأما في أسفار «العهد الجديد»، فأنت تجد في آخر أسفار الأناجيل، سفر «رؤيا يوحنا اللاهوتي»، أن «جوج وماجوج» هم الأمم الذين في أربع زوايا الأرض (راجع الإصحاح 20 من سفر الرؤيا). وعند يوحنا اللاهوتي أن هناك قيامتين: القيامة الأولى بعد القضاء على فتنة الدجال، والناجون من هذه الفتنة يكونون كهنة لله والمسيح ويملكون معه ألف سنة: «ثم متى تمت اللف السنة يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض جوج وماجوج ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثل رمل البحر. فصعدوا على عرض الأرض وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم وإبليس الذي كان
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/108]
يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب وسيعذبون نهارًا وليلاً إلى ابد الآبدين» (رؤيا 20/ 7 – 10). ولا شك أن يوحنا اللاهوتي يستمد من حزقيال اسمي جوج وماجوج، ولكنه لا يجعل ماجوج أرضًا لجوج، وإنما يجعل جوج وماجوج معًا أمما عددهم مثل رمل البحر يجمعهم الشيطان لحرب المدينة المحبوبة (أورشليم) مملكة المسيح في مجيئه الثاني قرب قيام الساعة، فيتفق مع حزقيال في تعيين أورشليم موقع مهلك جوج أمير ماجوج، ويختلف معه في موعد خروجهم ومهلكهم: تعجله حزقيال فربطه بخراب أورشليم على أيدي مملكة بابل، وأجله يوحنا اللاهوتي ألف سنة تعقب عودة المسيح إلى الأرض في مجيئه الثاني. ورؤيا يوحنا اللاهوتي تقتبس بلا شك من سفر حزقيال، ولكنها تقتبس بتصرف، وتقتبس أحيانا دون تريث، فقد تنبأ حزقيال في القرن السادس قبل الميلاد بخراب بابل، وخربت بابل بالفعل في قرنه، ولكن يوحنا اللاهوتي يعود فيتنبأ لبابل بالخراب: «وسيبكي وينوح عليها ملوك الأرض الذين زنوا معها وتنعموا معها حينما ينظرون دخان حريقها، واقفين من بعيد لأجل خوف عذابها قائلين ويل ويل. المدينة العظيمة بابل المدينة القوية»، «ورفع ملاك واحد قوي حجرا كرحى عظيمة ورماه في البحر قائلاً بدفع سترمى بابل المدينة العظيمة ولن توجد في ما بعد» (راجع الإصحاح 18 من سفر الرؤيا)، لا يدري أن بابل المدينة العظيمة قد خربت بالفعل قبل ستة قرون على الأقل من مولد هذا الكتاب. ولكنك لن تعدم من شراح هذا السفر من يقول لك إن بابل هذه ليست بابل، ولكنها علم على كل ملك جبار فاسق. وهكذا أنت في الأحلام والرؤى، تفسر ما شئت بما تشاء، أو يفسر لك بما يشاء لك.
وأما في أقاصيص أهل الكتاب التي لا تجدها بين دفتي «الكتاب المقدس»، ولا حجة بها من ثم على أهل الكتاب، فمنها المروية عن السريان في أساطير الاسكندر، مؤسس الإمبراطورية اليونانية في الشرق الأدنى القديم، وقد وهم أدعياء الاستشراق أنها الأصل المباشر لقصة يأجوج ومأجوج في القرآن، وفي الأسطورة السريانية أن الاسكندر أغلق على جوج وماجوج، فلا يخرجون إلا في نهاية العالم. وترسم «جوج» في السريانية «أجوج» قريبة من «يأجوج» التي في القرآن.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/109]
تخلص من هذا إلى أن أهل الكتاب، في الكتاب المقدس بشطريه وخارجه، كانوا على علم قديم بيأجوج ومأجوج، ولكنهم خلطوا فيه، وتفاوتت الرواية عن هذا وذاك، فجاءوا محمدًا صلى الله عليه وسلم يسألونه عن حقيقة الذي كان، فأجابهم القرآن بقوله: {ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا} [الكهف: 83] وسرد عليهم ما كان من شأن ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج.
ففي بعض كتب التفسير أن بعضًا من أهل الكتاب أرادوا امتحان مبلغ محمد صلى الله عليه وسلم من العلم: سألوه عن فتية ذهبوا في الزمان الأول (أصحاب الكهف) فأجابهم القرآن: {نحن نقص عليك نبأهم بالحق} [الكهف: 13] وسرد ما كان من شأنهم. وسألوه عن الروح ما هو (أو ما هي) فكفهم القرآن عنها: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: 85]. وسألوه عن طوافة رحالة (ذي القرنين) فأجابهم القرآن: {ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا} [الكهف: 83 – 84]، ثم قص ما كان من شأن ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج، وكيف أرتج عليهم محبسهم، لا يستطيعون الخروج منه أو نقبه حتى يقترب الوعد الحق: {فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا} [الكهف: 98 – 99].
وقد جاءت «يأجوج ومأجوج» في القرآن مرتين اثنتين فقط، الأولى في حديث ذي القرنين: {قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا} [الكهف: 94]، والثانية في النص على أن الفتح ليأجوج ومأجوج من علامات الساعة كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: قال عز وجل: {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة عن هذا بل كنا ظالمين} [الأنبياء: 95 – 97]، أي عندما يقترب الوعد الحق تفتح يأجوج ومأجوج، فيتذكر الذين كفروا أنهم قد نبئوا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/110]
بهذا في القرآن من قبل، فتشخص أبصارهم هلعا، ثم يتندمون كيف غفلوا عن هذا، ولكنهم يستدركون على أنفسهم بأنهم كانوا ظالمين، لا غافلين فحسب، نسوا الله فأنساهم مواعيده. بل قد كان منهم العابثُ الساخر، المتفكه بغيب الله عز وجل، فسحقًا سحقًا.
والوجه في غيب الله عز وجل أنه علم الله الكلي المطلق، يعلم ما كان ويكون، على الوجه الذي به كان ويكون. وهذا العلم الكلي المطلق مترتب على أنه عز وجل خالق كل شيء وخالق كل فعل. وهو عز وجل ليس عالم الغيب فقط – والغيب هو كل ما غاب عنك علمه – ولكنه عز وجل أيضًا عالم «الشهادة»، أي أنه جل وعلا يعلم أيضًا مشهودك ومعلومك، لا كما تعلمه أنت، ولكن على ما هو عليه: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14].
وقد خاض مفسرون (راجع تفسير القرطبي للآيات 92 – 99 من سورة الكهف) في يأجوج ومأجوج فأسفوا وأبعدوا: لم يهتبشوا من أهابيش أهل الكتاب فحسب، بل وأضافوا إليها من عندهم تهاويل خيال سقيم، فتجاوزوا نص القرآن والحديث الصحيح عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وزيفت في يأجوج ومأجوج أحاديث لا يصح لها سند، حتى عميت عليك حقيقة يأجوج ومأجوج.
ولم يعلم أولئك المفسرون أن أدعاء الاستشراق سيتكئون عليهم، لأن أدعاء الاستشراق لا يستقون من القرآن ومن الحديث الصحيح، وإنما يستقون من كتب التفسير هذه، كما رأيت من قبل في «قسطاس»، «فردوس»، «إبليس»، وأمثالها. ولأن أولئك المفسرين تحذلقوا فتابعوا أساطير السريان في قولتهم أن «الاسكندر» هو صاحب «جوج وماجوج»، فلم يجد أدعياء الاستشراق حرجًا في القول بأن القرآن في يأجوج ومأجج يستقي من هؤلاء السريان رأسًا: القصة والبطل.
زعم بعض المفسرين (راجع تفسير القرطبي للآية 82 من سورة الكهف)، متابعة لما دس عليهم من أقاصيص أهل الكتاب، أن «ذا القرنين» هو «الاسكندر» مؤسس الإمبراطورية اليونانية في الشرق الأدنى القديم، وترسخ هذا في أذهان الناس حتى شاع لقب «الاسكندر ذي القرنين» على هذا الملك الوثني، لا يتحرج مسلمون
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/111]
اليوم من ذلك: عامتهم وخاصتهم. وهذا يدلك على مدى الخفة التي صار إليها المسلمون في هذا العصر. فشتان ما بين عباد آلهة في جبال الأولمب وما بين عباد الواحد الأحد جل جلاله الذين لم يكن ذو القرنين من عامتهم فحسب، بل كان من صفوتهم، الذي قال الله فيه: {إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا} [الكهف: 84]، والذي حكمه الله في قوم عند عين حمئة لقيهم ذو القرنين وقد آذنت الشمس بالمغيب: {حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا} [الكهف: 86 – 88]، والاسكندر، وملوك الأرض جميعا، أذل من ذلك.
الذي يحكمه الله عز وجل فيمن كفر أو آمن، يحسن في طائفة ويعذب طائفة، فيجعل العذاب على الذين ظلموا ويجعل جزاء الحسنى لمن آمن وعمل صالحا، الذي يفعل ذلك بتحكيم الله عز وجل، لا يصح أن تنسبه إلى عبدة الأوثان، بل لا يصح أن تنسبه إلى عامة المؤمنين الصالحين، وإنما تسلكه في صفوتهم، الذين اجتباهم الله وأيدهم بروح منه، نبيا أو في مقام نبي. ولكنك لا تقول ما قال بعض المفسرين إنه «ملك» من ملائكة الله عز وجل، لأسباب ثلاثة: أولها أن الملائكة رضوان الله عليهم خلق مأمور، لا تخير كما خير ذو القرنين في القوم الذين لقيهم عند العين الحمئة، وثانيها لأن الملائكة رضوان الله عليهم لا يستعينون البشر كما استعان ذو القرنين الذين سألوه أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدًا، يناولونه زبر الحديد وينفخون فيه نارًا حتى تلتحم الزبر، ثم يجيئونه بقطر يفرغه عليه، وثالثًا لأن الملائكة رضوان الله عليهم لا يمشون في الأرض مطمئنين يكلمون الناس ويستعملهم الناس: {قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا قال
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/112]
هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد رب يجعله دكاء وكان وعد ربي حقا وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا} [الكهف: 94 – 101].
على أن ذا القرنين الذي يحدثك عنه القرآن لم يكن ملكا يمشي في جيشه كالذي كانه الاسكندر، وإنما كان رجلاً فردًا، وإلا لما احتاج إلى ما يناولونه زبر الحديد، ثم ينفخونه نارًا حتى تلتحم الزبر، ويأتونه بقطر يفرغه على هذا السد من حديد.
وكما جانب المفسرين الأوائل الصواب في تعيين ذي القرنين بأنه الاسكندر مؤسس الإمبراطورية اليونانية في الشرق الأدنى القديم، وجد أيضًا من الباحثين الإسلاميين في القرن العشرين من وهموا أن ذا القرنين هو «كورش» ملك الفرس الذي انتصر لليهود من بني إسرائيل أيام سبيهم في بابل، الذي ردهم إلى «أورشليم» وأغدق عليهم، فعده اليهود من بعد «ملكًا قديسًا». وقد أصل الباحث مقولته بالعثور على تمثال لهذا الملك الفارسي وعلى رأسه تاج مقرن من خلف ومن قدام، فهو «ذو القرنين» على هذا المعنى. وليس بشيء، فقد خلف كورش ملوك حملت مثل هذا التاج، كان منهم الاسكندر المقدوني نفسه بعد اندحار الفرس أمامه. وليس بالضرورة أن يجيء لقب ذي القرنين المعنى من وجود قرنين على رأسه، تاجًا أو غير تاج. وخاض الباحث أيضًا في تعيين موقع «السد» مما لا نستطرد بك إليه، فقد خاض في تعيينه الأوائل على ما تقرأ في تفسير القرطبي واصطنعت له أحاديث، وليس بشيء، لأن موضع «السد»، بل موضع «السدين» اللذين ردم ما بينهما ذو القرنين ليحول دون نفاذ يأجوج ومأجوج إلى القوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً: {ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قومًا لا يكادون يفقهون قولا قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا} [الكهف: 92 – 94]، كل هذا من المغيبات التي سكت عنها القرآن والحديث الصحيح. وقد سكت عنها القرآن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/113]
والحديث الصحيح لأنك لا تتصور أن يكون خروج يأجوج ومأجوج من علامات الساعة ثم يعين لك القرآن والحديث الصحيح مكان محبسهم على هذا الكوكب الذي نعيش عليه، تغدو عليهم الناس وتروح، كما لم يعين لك القرآن موضع تلك العين الحمئة والقوم الذين لقيهم عندها ذو القرنين في مغرب الشمس وحكم فيهم، يعذب منهم أو يتخذ فيهم حسنا، ولم يعين لك أيضًا القوم الذين لقيهم ذو القرنين في مطلع الشمس لم يجعل الله لهم من دونها سترا، بل قد تكتم القرآن أمرهم ولم يحدثك بما كان من شأن ذي القرنين معهم فقال عز وجل: {كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا} [الكهف: 91]، أي قد علمنا نحن ما قد كان من أمره معهم ولن نحدثك به، فالقرآن لا يحدثك بكل أخبار ذي القرنين، وإنما بطائفة من أخباره فقط، لقوله: {سأتلو عليكم منه ذكرا} [الكهف: 83] أي بعضًا من ذكره فحسب، أي خبره مع يأجوج ومأجوج، وهو المسئول عنه، وما سبقه تمهيد لهذا الحديث عن يأجوج ومأجوج، حتى تعلم مكان ذي القرنين عند الله عز وجل، فلا يذهب بك الوهم إلى أنه مهندس يجيد بناء السدود، أو أنه ملك من تلك الملوك ذوات التاج المقرن من خلف ومن قدام، الاسكندر أو كورش.
يأجوج ومأجوج، محبسهم ومخرجهم، كأصحاب الكهف، من آيات الله عز وجل، مرقدهم ومبعثهم، ولكنه تبارك وتعالى جعل خروج يأجوج ومأجوج علامة على اقتراب الوعد الحق الذي به تؤمن، كما آمن ذو القرنين: {وكان وعد ربي حقا} [الكهف: 98]، وهذا حسبك.
على أن نبوءة حزقيال – وهو من أعلام القرن السادس قبل الميلاد – بمقدم جوج أمير ماجوج وشعوب كثيرة معه إلى فلسطين وخراب أورشليم على يديه، تجعل الردم على يأجوج ومأجوج سابقًا على عصر حزقيال، وبالتالي سابقًا على كورش والاسكندر اللذين ملكا في فارس بعد حزقيال، فلا يصح أن يكون أحدهما هو الذي ردم عليهم.
بل إن عصر الردم على يأجوج ومأجوج أسبق بقرون لا يعلمها إلا الله من مولد موسى ومولد عبرية التوراة.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/114]
ذلك أن علماء العبرية وعلماء التوراة لا يستطيعون لجوج وماجوج اشتقاقًا من جذور اللغتين العبرية أو الآرامية، وإنما يقولون لك إن «جوج» هو أمير «ماجوج»، وأن «ماجوج» هي أرض «جوج»، لا يزيدون، فليس في العبرية، ولا في الآرامية، جذر مستعمل يعين على هذا الاشتقاق. فهما إذن اسمان وقعا في سمع حزقيال عبر أساطير سبقت مولد العبرانيين أنفسهم.
على أن في المعجم العبري الآرامي لألفاظ التوراة (وهو من مراجع هذا الكتاب) الاسم «أجاج»، عَلَمًا على ملوك العماليق المعنيين بقوله عز وجل على لسان بعض بني إسرائيل في التيه: {قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} [المائدة: 22]. ولم يستطع علماء العبرية وعلماء التوراة تفسير الاسم «أجاج» فردوه إلى الجذر العربي «أجج».
وفي العبرية أيضًا اللفظ «جاج» ومعناه سقف البيت ونحوه، لا يعرف له كذلك أصل أو اشتقاق، فهو من «جوامد» تلك اللغة. وربما ظننت أن «جوج» من هذا، بمعنى المسقوف عليهم، أي المردوم عليهم. ولكن علماء العبرية وعلماء التوراة لم يتصدوا لهذا.
أما «يأجوج» و«مأجوج» اللذان في القرآن، فهما اسمان عربيان أصيلان، تشتقهما من الجذر العربي «أجج»: «يأجوج» على زنة «يفعول» من أج/ يؤج/ أجا، وأجيجا وأجة أيضًا، ومن معانيه في العربية إلى الآن الإهاجة والاشتداد والاستثارة، والأجاج يعني اللاذع الممض مرارة أو ملوحة، ومن معاني الأجيج أيضًا الاضطراب والاختلاط، أما «مأجوج» فهي على زنة «مَفْعُول» من دأج» هذه نفسها، وكأن «أج» يصلح أيضًا متعديًا بنفسه، وكأن معنى «يأجوج ومأجوج» هو الذين يؤج بعضهم بعضًا.
نعم. يأجوج ومأجوج من العربية الأولى، عربية آدم، لا تستطيع أن تحدد زمان الإرتاج عليهم، كما لا تستطيع تحديد موقعه من هذه الأرض التي نعيش
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/115]
عليها، ولا تستطيع التنبؤ بزمن خروجهم، لاستئثاره عز وجل بعلم الساعة، لا يجليها لوقتها إلا هو.
الذي تستطيعه هو فحسب تفسير «يأجوج ومأجوج» من القرآن بالقرآن، مقصدنا الأول من الحديث عن يأجوج ومأجوج في هذا الكتاب الذي نكتب:
فسرت «يأجوج ومأجوج» في القرآن بالتعريب: الذي يؤج بعضهم بعضًا، ويستفز بعضهم بعضًا، ويموج بعضهم في بعض، كما قال عز وجل فيهم: {وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض} [الكهف: 99] والموج على المصدرية من ماجَ/ يَمُوجُ/ مَوْجَا، هو من الاختلاط والاضطراب، فهو تفسير بالتصوير، كما قال في موضع آخر: {وهم من كل حدب ينسلون} [الأنبياء: 96] كناية عن مدى الاختلاط والاضطراب. وفي الاختلاط والاضطراب فسادٌ وإفساد، ومن هذا قول الذين استعانوا ذا القرنين عليهم: {إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض} [الكهف: 94].
ونحن لا نخوض في كل من كان «يأجوج ومأجوج»، وكيف هم الآن في محبسهم، ولا نخوض كما خاض مفسرون في وصف خلقتهم وهيئتهم. هذا من غيب الله عز وجل الذي لم يشأ أن يطلعنا عليه فنحن نتوقف فيه. والله عز وجل بغيبه أعلم.
ونحن أيضًا لا نخوض في مَنْ كان ذو القرنين المَعْنِيُّ في القرآن، وإن كنا نرجح – كما رجح مفسرون دون دليل – أنه هو نفسه العبد الصالح الذي صاحبه موسى في سورة الكهف ليُعَلِمَهُ مما علمه الله، فلم يستطع موسى معه صبرًا. وليس لدينا نحن أيضًا دليل على هذا نقترحه عليك، إلا شاهدين: الأول عجائب هذا العبد الصالح مع موسى بدءًا بالحوت الميت الحي الذي اتخذ سبيله في البحر عجبا، وانتهاء بَرَمِّه الجدارَ الذي كان لغلامين يتيمين في المدينة حتى يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما، فأشبه «السد». والشاهدُ الثاني – وهو أكثر دلالة – أن سورة الكهف تضم أخبارًا أربعة: (1) نبا الفتية أصحاب الكهف. (2) مثل الرجلين، صاحب الجنتين والذي حاوره. (3) قصة موسى مع العبد الصالح. (4) أخبار ذي القرنين. وقد فصلت سورة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/116]
الكهف بفواصل تطول أو تقصر ما بين هذه الأربعة (راجع هذا في سورة الكهف)، إلا ما بين أخبار ذي القرنين وبين قصة موسى مع العبد الصالح، فقد أتت بـ «ذكر» ذي القرنين مباشرة بعد قصة موسى مع العبد الصالح لا يفصل بينهما فاصل: {وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا} [الكهف: 82 -84]، وكأنها إشارة إلى أن المحكي عنه في النبأين واحد، وكأن ما تقدم ذكره من قصة موسى مع الذي صاحبه من أخبار ذي القرنين. والله عز وجل بغيبه أعلم.
وأما معنى اسمه «ذو القرنين» فقد تعددت الأقوال فيه، على ما تجد في تفسير القرطبي للآية 83 من سورة الكهف، ولا دليل عليها من قرآن أو سنة، وإنما هي اجتهادات لأصحابها، أقربها إلى القبول أقربها إلى المنطق، وأبعدها أسمجها بالطبع، المنسوب إلى الإمام علي رضي الله عنه والإمام علي من هذا السخف براء: قيل كان رجُلا دعا قومه إلى الله عز وجل فشجوه على قرنه، ثم دعاهم إلى الله عز وجل كرة أخرى فشجوه على قرنه الآخر! والذي نقطع به نحن أن أهل الكتاب لم يسألوا عن: «ذي القرنين» بهذا الاسم، فليس في أخبار أهل الكتاب شيء اسمه «دي قرنيم» (وهي «ذو القرنين» بالعبرية)، وإنما سألوا عن الطوافة الرحالة الذي كانه «ذو القرنين». «ذو القرنين» إذن لقب تلقب به في القرآن. إن صح هذا فالراجح عندي استئناسًا بقصته في القرآن – ولا أقولها جازمًا فالله عز وجل بغيبه أعلم – أن «القرنين» هما قرنا الشمس كناية عن مغربها ومطلعها (والقرن هو أول ما يبزغ من قرص الشمس عند مطلعها وآخر ما يأفل منها عند مغربها)، وكأنه الطواف بين قرني الشمس من مغربها إلى مطلعها، كما في القرآن: {حتى إذا بلغ مغرب الشمس} [الكهف: 86]، {حتى إذا بلغ مطلع الشمس} [الكهف: 91]. ربما كان هذا هو سبب التسمية. والله عز وجل بغيبه أعلم.
كيفما كان الأمر، فليس «ذو القرنين» من العلم الأعجمي الذي تتناوله مباحث هذا الكتاب، وإنما عرجنا عليه إيناسًا للقارئ، واستكمالاً لمبحث «يأجوج ومأجج». مثلما عرجنا من قبل على لفظة «طوى» في تحليل «سيناء»، وكما عرجنا من قبل على «ذي الأوتاد» في تحليل اسم «فرعون»).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 108-117]