(22) آزر:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (22) آزر
وردت «آزر» مرة واحدة في القرآن [الأنعام: 74] اسمًا لأبي إبراهيم، وهو في التوراة «تارح». وقد توقف فيها مفسرو القرآن كما مر بك لما يعلمونه من مخالفتها الصريحة لاسم أبي إبراهيم في التوراة، وعالج بعضهم التصدي لها محاولين التوفيق بين «آزر» و«تارح» بإسقاط أحد طرفي التناقض: منهم من قال أن «آزر» في القرآن ليس هو أبا إبراهيم، وإنما هو عمه، والعرب تسمي العم أبًا. وليس بشيء، لأن المعنى في القرآن هو أبو إبراهيم، لا عمه. وقال الآخرون إن «تارح» كان له اسمان، أحدهما «آزر». وهو ضعيف، لأنه لا دليل عليه من القرآن أو الحديث، ولا مقنع به لأصحاب التوراة الذين لا يعلمون لأبي إبراهيم اسمًا آخر، أو شهرة شهر بها. وتصدى لآزر أيضًا باحثون كبار، كان منهم في هذا العصر الأستاذ عباس العقاد رحمه الله، في كتاب «إبراهيم: أبو الأنبياء»، الذي قال ما معناه إن «آزر» ليست تعريبًا لـ «تارح» وإنما هي تصويب قرآني لنطق «تارح» على أصلها في لغة صاحب هذا الاسم (وكأنه يقصد البابلية الأشورية) التي لا ترسم في الخط حروف الحلق ومنها الهمزة والحاء، وتبادل بين التاء والثاء والشين والزاي، وكأنها كانت ترسم «ثارة» أو «زرارة» ونطقها العبرانيون «تارح»، إلخ. وليس هذا بقوي، رغم ضخامة الجهد ونبل القصد، وأقرب ما يرد به على هذا أن العبرانيين لم يقرأوا اسم أبي جدهم إبراهيم في صحيفة أو نقش، وإنما سمعوه من إبراهيم شفاهة، وهم قد سمعوها «تارح»، ولم يسمعوها «آزر». ويرد عليه أيضًا بأن القرآن لم يصوب للتوراة نطق علم أقدم من «تارح» وهو «نوح»، وكان حقه أن يأتي بها على «نوخ» بالخاء المنقوطة كما مر بك، وإنما القرآن يلتزم العلمية التي ثبتت في الكتب السابقة، فيأتي بها على ما هي عليه، عدا ما يقتضيه التعريب فحسب، إلا أن يأتي القرآن بالعلم التوراتي أو الإنجيلي مترجمًا، كما مر بك في «إدريس» وكما سترى في «ذي الكفل».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/260]
أفتكون «آزر» في القرآن ترجمة لـ «تارح» في التوراة؟
نعم. ولكن هذا يقتضي أولاً تأصيل لفظة «تارح» في اللساني العبراني، معناه واشتقاقه، أو معناه واشتقاقه في اللسان الآرامي، لغة إبراهيم «الآرامي»، الوافد على فلسطين (إرص كنعان) من حاران في شمالي سورية (إرص آرام) كما يقول سفر التكوين.
لا يعرف علماء التوراة لاسم أبي إبراهيم «تارح» (أو «تيرح» بإمالة الألف) معنى أو اشتقاقًا، لا من العبرية ولا من الآرامية، لعدم وجود الجذر السامي «ترح» في أي منهما، أو على الأقل عدم وجوده فيما هو معروف لنا اليوم من جذور العبرية والآرامية. وأيضًا لأنه لا يستقيم على أوزان هاتين اللغتين افتراض زيادة التاء في تارح اسم أبي إبراهيم في التوراة على نحو زيادتها في «ترواح» العربية بمعنى الرواح، أخذًا من الجذر العبري «أرح»، مقلوب الجذر العربي راح / يروح بمعنى رحل، إذن لقالوا «آرح» وهو بالفعل من أعلام التوراة، ومعناه «الرحالة» الكثير التجوال. ربما جاز لك أن تقترح على علماء العبرية في تفسير معنى «تارح» أنه مشتق من «يارح» العبري بمعنى «قمر» (ومن هذه «يرح» العبري بمعنى شهر قمري)، زيدت فيها التاء فأصبحت «تيرح» (على نطق «تارح» اسم أبي إبراهيم ممالة الألف)، على نحو ما زيدت التاء في «يمن» العبري فقيل «تيمان» بمعنى الجنوب عبريًا. ويرد على هذا بأن العبرانيين حين اشتقوا من القمر اسمًا علمًا قالوا «يروح» وقالوا «يرح» ولم يقولوا البتة «تارح» أو «تيرح».
على أنه لم يقل بهذا أو ذاك من علماء العبرية أحد، بل قد آثروا جميعًا السكوت عن تفسير معنى اسم أبي إبراهيم، على ولوعهم بتفسير الأسماء الأعلام، بل واختراع المناسبة التي اختير الاسم من أجلها، توضيحًا لمعناه. وهم قد توقفوا في «تارح» - على الراجح عندي – خشية مزالق الزلل فيما لم يتضح لهم وجه الصواب فيه. ونحن نحترم لعلماء التوراة هذا السكوت، احترامنا لمفسري القرآن الذين توقفوا عن تفسير «آزر». لأننا نصدق القرآن في «آزر»، تصديقنا للتوراة في «تارح».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/261]
في التوراة أيضًا (عدد 33/27 – 28) «تارح» أخرى، هي نفسها رسمًا ونطقًا، توقف أيضًا علماء التوراة عن تفسير معناها. وليست هي في سفر العدد اسما لأبي إبراهيم، وإنما هي فيه اسم موضع في صحراء سيناء نزله موسى مع بني إسرائيل أيام تطوافهم في التيه. وليست هذه عبرية بالضرورة، بل عربية، لغة القوافل التي كانت تجوب سيناء إلى مصر. لعلها من الترواح والراحة على معنى المستراح يحط فيه الرحال. وقد فسرها بهذا المعنى نفسه «معجم ويستر». فقال Station، يعني «المحط»، غير جازم، لأنه يعقبها بعلامة استفهام. وهذا يليق باسم موضع، لا سيما في تيه كتيه سيناء، ولكنه لا يليق اسما لرجل، ولو أن المعجم المذكور يخلط بين الاسمين في غير ضرورة.
ونحن لا نَقْسِرُ علماءَ التوراة على تفسير لاسم أبي إبراهيم «تارح» من العبرية والآرامية: لو كان في العبرية أو الآرامية شيء يعين على هذا التفسير لسبقونا إليه.
ولكننا نقول كما يقول سفر التكوين (تكوين 11/27 – 33) إن أبا إبراهيم «تارح» لم يكن رجلاً عبرانيًا أو آراميًا، ولكنه كان رجلاً «بابليًا»، ولد في بلدة «أور الكلدانيين» على سافلة نهر الفرات، إلى الجنوب الشرقي من بابل في العراق، ولم يرتحل منها إلى «حاران» في شمالي سورية (إرِصْ آرام) إلا وقد نيف عمره على مائة عام. ومن هنا تستطيع أن تقول إن تارح هذا كان ينطق اسمه، الذي سمعه منه بنوه، على مقتضى مخارج ألفاظ اللغة البابلية، لا العبرية ولا الآرامية.
يقول علماء اللغات السامية إن البابليين – وهم بالقطع ساميون من عرب شبه الجزيرة – غلبوا الشومريين على أرضهم في جنوبي العراق حوالي مطلع القرن الثلاثين قبل الميلاد، فنقلوا عنهم «الخط المسماري» الذي ابتدعه الشومريون من قبل. ولأن اللغة الشومرية – بالقطع أيضًا – لغة غير سامية، فقد خلا الخط المسماري من
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/262]
حروف لا تحتاج إليها تلك اللغة على أصول مخارج ألفاظها من حروف التضخيم كالطاء والظاء والضاد وبعض حروف الحلق، وتحتاج إليها اللغات السامية – ومنها البابلية – كي تفرق مثلاً بين «ظهر» و«زهر»، وبين «عاد» و«آد»، على نحو ما تراه الآن من فوارق بين الخط اللاتيني والخط العربي. وكان موقف البابليين من هذا أنهم اصطنعوا الخط المسماري على علاته. دون أن يضيفوا إلى حروف «الأبجدية المسمارية» ما ينقصها من الحروف التي تحتاج إليها اللغة البالية السامية.
وقد كان لاستخدام البابليين الخط المسماري في الكتابة، إلى جانب اختلاطهم بالشومريين الذين لم يقضوا عليهم تمامًا، أثر فادح في تشويه الطابع السامي النقي لمخارج ألفاظ أولئك الأعراب الذين جاءوا من جنوبي شبه الجزيرة فتوطنوا في بابل، ومن هذا المزيج وذاك الامتزاج ولدت اللغة البابلية، التي وإن بقيت سامية بجذورها ومادتها وتراكيبها فقد ضاعت منها بعض «الأصوات» التي تختص بها اللغات السامية، وأمها العربية، فتهملها، أو تنطقها محرفة.
وإذا علمت أن تارح أبا غبراهيم ولد في أور الكلدانيين ببابل حوالي مطلع القرن العشرين قبل الميلاد حسبما تستخلص من حسابات سفر التكوين – بعد انقضاء حوالي ألف سنة على توطن أسلافه الساميين في بابل – فقد علمت يقينًا أن لغة تارح هذا وآبائه كانت هي بالقطع تلك اللغة السامية البابلية التي تأثرت بمخارج ألفاظ الشومريين على مدى ألف سنة سبقت، فهي لا تجد حرجًا على سبيل المثال في وضع «التاء» موضع «الطاء» نطقًا وكتابة.
من هنا تقول إن تارح – اسم أبي إبراهيم في التوراة – إما هو على أصله بالتاء، فيكون مشتقًا من الجذر السامي «ترح» (الذي يفيد في العربية الهم والحزن، وأيضًا قلة الخير)، وإما أن يكون أصله بطاء تحورت في البابلية إلى تاء، فيكون مشتقًا من الجذر السامي «طرح» (على تفاوت في معنى «طرح» بين العربية وأخواتها الساميات): إن صدقت التوراة في «تارح» تصديقك القرآن في «آزر» فلا سبيل أمامك لتفسير معنى «تارح» إلا بأحد هذين الفرضين لا ثالث لهما.
وقد كان الأضبط – والأثبت – التماس معنى «تارح» البابلية هذه في المعجم البابلي نفسه، ولكن المعجم البابلي للأسف معجم أبتر، يقتصر على مفردات قلائل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/263]
اقتنصها اللغويون بعد لأي من حطام نقوش بذلك الخط المسماري الذي حدثتك عنه، ليس من بينها «تارح» أو «طارح».
وقد مر بك أن اللغويين يستعينون في فهم بوائد الساميات بالرجوع إلى معجم اللغة العربية، أم الساميات جميعًا. ومر بك أيضًا أن اللغويين حين يريدون تأصيل معنى جذر ممات في لغة سامية ما، يستعينون بمعنى هذا الجذر في أخواتها وبنات عمومتها.
ولأن القرآن – أصل كل تأصيل للمعجم العربي – لم يعتمد «تارح» (لا بالتاء ولا بالطاء) اسمًا لأبي إبراهيم، وإنما أتى به على الترجمة «آزر»، تفاديا لنقله عن أصل معناه في لغة صاحبه إن هو أتى به على أصله معربًا – على ما مر بك من منهجنا في هذا الكتاب – فهذا يعني أن «تارح» و «طارح» كلتيهما ليستا من «ترح» و«طرح» العربيين، وإنما هما أو إحداهما من لغة سامية أقرب إلى البابلية تاريخًا وحضارة.
والآرامية والعبرية هما الأقرب إلى البابلية تاريخًا وحضارة. والآرامية والعبرية كلتاهما تخلوان من الجذر السامي «ترح»: ليس فيهما إلا «طرح» بالطاء، لا بالتاء.
ومن ثم فلا مفر لك من التماس «تارح» في «طارح»، والتماس معنى «طارح» هذه في العبرية – الآرامية، لا في لغتنا العربية.
«تارح» إذن – أو بالأحرى «طارح» - اسم أبي إبراهيم في التوراة، هو من العلم الأعجمي الذي فسره القرآن بالترجمة، فجاء به على «آزر». فإلى أي مدى أصاب القرآن، وسفه خصومه؟
جهل أحبار العبرية معنى «تارح» اسم أبي جدهم إبراهيم كما مر بك، وحققه القرآن كما سوف ترى، فأي إعجاز وأي علم!
وزر، يزر، وزرا فهو وازر (راجع في معجمك العرب مادة «وزر») يعني حَمَلَ ما يثقل ظهره، ومنه في القرآن: {لا تزر وازرة وزر أخرى} [الإسراء: 15]
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/264]
أي لا تحمل نفس عن نفس شيئًا، بل كل نفس بما كسبت رهينة. ومنه «الوزر»، أي الحمل الثقيل، كما في قوله عز وجل: {حتى تضع الحرب أوزارها} [محمد: 4] أي أثقالها من سلاح وعتاد. واستعمل الوزر مجازًا بمعنى الذنب، لأنه يثقل ظهر صاحبه يوم القيامة، كما في قوله عز وجل: {من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا} [طه: 100].
وقد سقط من المعجم العبري – الآرامي الجذر السامي «وزر». إلا في لفظ واحد هو «وزار» التي وردت اسمًا علمًا في الأصل العبراني لأسفار التوراة على مجازها العربي بمعنى «موزور» أي راكب الوزر (راجع الترجمة العربية لسفر الأمثال 21/8)، لم ترد في التوراة إلا في هذا الموضع، وبقيت في العبرية المعاصرة بمعنى الخاطئ الآثم، يفسرها علماء العبرية بردها إلى الجذر العربي «وزر».
أما «الوزر» على أصل معناه في العربية، أي الحمل الثقيل، فهو في العبرية – الآرامية «طورح»، أخذًا من الجذر العبري – الآرامي «طرح»، أي حمل ما يثقل ظهره، فهو المقابل العبري – الآرامي للجذر العربي «وزر». ولا تستعمل عبرية التوراة من الجذر «طرح» إلا «طورح» بمعنى الحمل الثقيل، أي الوزر، وإلا صيغة «هفعيل» (وهي صيغة «أفعل» العربية المتعدية بالهمزة) فتقول «هطريح» بمعنى «أوزره»، أي حمله ما يثقل ظهره.
«طارح» إذن (أي «تارح» كما مر بك)، عن اشتققتها من الجذر العبري – الآرامي «طرح»، معناها «الوازر»، على التطابق، لا على المجاز بمعنى الموزور راكب الوزر، وإنما على الأصل بمعنى الحمول المحمل.
أما لماذا ترجم القرآن اسم أبي إبراهيم إلى «آزر»، ولم يترجمه إلى «وازر» فهذا من دقيق القرآن كما سترى.
«الأزر» عربيًا ليس أصل معناها «القوة» كما وهمت بعض المعاجم، وإنما أصل معناها «الظهر». والظهر يكنى به عن القوة، لا العكس. والإزار منه،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/265]
لأنه يشد به على الظهر، أي على «الأزر». وأزر الزرع بمعنى التف فقوي بعضه بعضًا، يعني «تظاهر»، فكان بعضه لبعض «ظهيرًا». وآزره مثله. ومنه أيضًا «أزره» بمعنى دعمه وقواه، أي كان له ظهرًا، وآزره يعني كان له ظهيرًا مظاهرًا. وأزره أيضًا يعني ألبسه الإزار، وأزر هو، بكسر الزاي، فهو «آزر» (بفتح الزاي كاسم أبي إبراهيم في القرآن) يعني لبس الإزار، ومنه «حصان آزر» يعني حصان أبيض العجز ومقاديمه غير بيض، وكأن بياض عجزه على خلاف مقاديمه «إزار» ائتزر به.
أما أن «الأزر» معناه «الظهر»، لا القوة، فهذا يتضح لك من قوله عز وجل على لسان موسى: {اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري} [طه: 31 – 39] والمعنى «أشدد به ظهري»، لا «أشدد به قوتي» كما وقع في بعض التفاسير، وكما وقع في المعجم الوسيط استشهادًا على معنى «الأزر» بأنه القوة. وليس بشيء: القوة تشدد ولا «تشد»، لأن «شد» الثلاثي المجرد غير المضعف، حين يتعدى بذاته كما في الآيات التي تلوت توًا. يقع على المادي ولا يقع على المعنوي، ويكون بمعنى الربط والإيثاق والإحكام: تقول شد الإسار، وشد العقدة، وشد العضد، وشد الرحال، وشد المئزر، وشد «الأزر»، أي الظهر، لا معنى للقول بخلافه.
وقد فسر القرطبي رحمه الله «الأزر» بمعنى «الظهر» في تفسيره للآية 31 من سورة طه، فارجع إليه.
والوزر من «الأزر» قريب، لا في مادته فحسب، ولكن لأن «الوزر» بمعنى الحمل الثقيل لا يكون إلا على «الظهر»، أي على «الأزر». تجد هذا فصيحًا بينًا في قوله عز وجل، يسلي بها نبيه: {ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك} [الشرح: 2 – 3] بل لا يمكن لك تفسير قول العرب «وزر إليه» بمعنى لجأ واعتصم، ومنه «الوزر» بفتح الواو والزاي في قوله عز وجل: {كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر} [القيامة: 11 – 12]، إلا أن تقول إن «الوزر» لغة في «الأزر»، بمعنى الظهر يركن إليه، أبدلت فيه الواو من الهمزة، وهو كثير الوقوع في كلام العرب، من مثل (أزف / وزف) و(أكد / وكد) وغيره كثير. كما تجده في قوله صلى الله عليه وسلم لبعض تلك النسوة: «ارجعن مأزورات غير مأجورات»!
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/266]
وكأنه يريد «موزورات» فهمزن أو كأن «وزر» و«أزر» سيان، أو كأن «المأزور» هو «المحمول على أزره»، أي على ظهره، كما تقول «مكبود»، «مبطون»، «معيون» فيمن اعتل كبده وبطنه وعينه. والقياس من هذا – وإن لم يسمع من العرب – أن تقول «أزره» بمعنى «أوقر أزره» (أي ظهره)، و«أزر» هو، فهو «آزر» (أسم أبي إبراهيم في القرآن) يعني موقر الظهر مثقله: إنها نفسها «الوازر» حامل الوزر، على أصلها لا مجازها، أي الحمول المحمل. وهو نفس معنى «طارح» العبرية – الآرامية.
وقد عدل القرآن عن «وازر» إلى «آزر» دفعا لشبهة فهمها بمعنى الآثم الخاطئ (وهي «وزار» العبري كما مر بك)، وليست «طارح» أو «تارح» كذلك. وعدل أيضًا عن استبقائها معربة على أصلها العبري – الآرامي «تارح» أو «طارح»، لأن «تارح» تشتبه في العربية بمعنى «المحزون» الترح، و«طارح» تشتبه في العربية بمعنى «الطريح» المنبوذ، وليست أيضًا «تارح» أو «طارح» فيا لعبرية – الآرامية كذلك، على ما مر بك من منهجنا في تفسير أسباب عدول القرآن عن تعريب العلم الأعجمي إلى ترجمته.
أما اشتقاق «طارح» (تارح في التوراة) من الجذر العبري «طرح» بمعنى «حمل» ما يوقر ظهره، فهو عندي على الوزن «فعال» - وهو وزن في العبرية والآرامية يدل على الفاعل يكثر منه الفعل – فكان حقه أن يكون «طراح». ولكن الذي يجب أن تعلمه، وعلمه القرآن من قبل، أن هاتين اللغتين لا تجيزان تشديد الراء، وتستعيضان عن تشديد الراء بمد حركة ما قبلها، فتؤول «طراح» إلى «طارح» (تارح في التوراة)، كما قالوا في «حراش» (أي الحراث» «حارش»، يعني الحارث الذي يمتهن الحراثة.
لا سبيل أمامك إلى تفسير معنى «تارح» البابلية (اسم أبي إبراهيم في التوراة) إلا بردها إلى «طارح» العبرية – الآرامية، أبدل البابليون من طائها تاء.
ولا ترجمة إلى العربية لهذا الاسم البابلي أدق من «آزر» التي في القرآن، بمعنى «الوازر»، على أصلها، لا مجازها.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/267]
ولا حرج على القرآن صاحب اللغة – على نحو ما رأيت في «صراط» و«قسطاس» - أن يشتق من الجذر العربي الأصيل مادة لم تسمع قبله من العرب، لا سيما في ترجمة الأسماء الأعلام كما مر بك في «إدريس»، بل في هذا إشارة إلى «عجمة» صاحب الاسم العلم.
قد أصاب القرآن إذن في «آزر»، وسفه خصومه. فهل رغمت أنوف؟
جهل خصوم القرآن معنى اسم أبيهم «تارح»، وما زالوا يجهلونه، وعلمه القرآن. فأي إعجاز وأي علم!
كان أولى بالذين طعنوا على القرآن في «آزر» أن يتعلموا منه، ولكنهم لم يفعلوا. وصدق الحق سبحانه إذ يقول في تقريعهم: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلما تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [آل عمران: 66]).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/260-268]