سمةُ تلقي العلم وتدوينه في عصر ابن سلام
قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ) :(
لقد أطلت الاستطراد، ولكني رأيته شيئًا لا بد منه، لأن مذهبي في دراسة الأدب قائم عليه فيما كتبته قديمًا، وفيما أكتبه اليوم، ولأنه هو الفيصل الفارق بين مناهج الدراسة المتلقاة عن غير أهل هذا اللسان، وبين المناهج التي ينبغي أن تنبع من الأصل الذي قامت عليه حضارة هذا اللسان، ثم ضللنا عنه وطال الضلال. وهذا حين عودتنا إلى شيخنا محمد بن سلام، وما كان من خبره في تأليف كتاب >طبقات فحول الشعراء<.
نشأ أبو عبد الله محمد بن سلام واكتهل وبلغ من السن ما بلغ، في سرَّة عصر فريد في تاريخ البشر، على تطاول القرون من قبله ومن بعده. أستثنى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الأربعة. وكان عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم قد انقضى، وتدفق علمهم في صدور ورثتهم متلاطمًا، فانشق القرن الثاني من الهجرة عن بحور العلم الزاخرة وجباله الشوامخ. وكانت قواعد العلم الكبرى قائمة في الكوفة، وفي البصرة التي نشأ فيها ابن سلام، وهما المدينتان العتيقتان اللتان تم تمصيرهما على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ما بين سنة 14، 17 من الهجرة. وظلت أجيال من علماء الأمة تتوارث العلم، وتتكاثر في هاتين المدينتين العظيمتين، فجاء منتصف القرن الثاني من الهجرة، وفيهما وفرة وافرة من جبال العلم وبحاره المتدفقة. أدرك محمد بن سلام منتصف هذا القرن، وهو بالغ يتعلم، فشهد تلاقي هذا التدفق من صدور العلماء إلى آذان تلامذتهم، ثم تلقى هذا الجيل من حفاظ العلم وطلبته تلقيًا يزخر بالهمة والفهم والتوسع. كان علم هؤلاء العلماء بحرًا يجيش في صدورهم، أقله
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 62]
ما قيدوه كتابة، وأكثره ما كانوا يتحدثون به، ويبينون عنه بألسنتهم حين يسألون عن بيان ما يتحدثون به. فقل اهتمامهم بتأليف الكتب الكبار المفصلة المفسرة، وأكثرهم لم يؤلف كتابًا قط، وإنما سار علمه في الناس بكثرة من أخذ عنه وسأله وأجابه. فكان جل تلامذتهم يسيرون على سنتهم، ويتلقون عنهم. ويحفظون ما يتلقونه وما يكتبونه مع ما سمعوه منهم، بيد أن بعض تلامذتهم خالفوا سنتهم في ترك تأليف الكتب، وفي الاقتصار على تأليف الكتب الصغار.
ولكي تكون هذه الصورة واضحة، ينبغي أن نضرب مثلاً يبين عنها. فالخليل بن أحمد الفراهيدي (100 – 170هـ)، كان أحد ورثة العلم الكبار، وكان بحرًا لا يكاد يدرك مداه. ومع ذلك فإنه لم يؤلف إلا كتبًا صغارًا جدًّا ضاع أكثرها، أو جميعها على الأصحّ، ولكنه كان لطلبة العلم ينبوعًا متفجرًا يصدر عنه الورّاد رواءً، حتى قال أحد تلامذته النضر بن شميل: >أكلت الدنيا بعلم الخليل وكتبه، وهو في خص لا يشعر به<. هذا مع أنه أول رجل في الأرض، وضع الأساس الكامل لتأليف معاجم اللغة لم يسبقه أحد إلى مثله، والبشر قاطبة عيال عليه في معرفة الطريق إلى تأليف المعاجم، فهو الذي حدد أصول المعجم المنسوب إليه، وهو >كتاب العين<، قال ثعلب: >إنما وقع الغلط في كتاب العين، لأن الخليل رسمه ولم يحشه، ولو كان حشاه ما بقى فيه شيء، لأن الخليل رجل لم ير مثله، وقد حشا الكتاب قوم علماء، إلا أنه لم يؤخذ عنهم رواية، وإنما وجد بنقل الوراقين، فاختل الكتاب لهذه الجهة<. وطريقة رسم الكتاب التي ذكرها ثعلب، أن الخليل حين فكر في وضع معجم يجمع لغة العرب، لجأ إلى حصر رؤوس مادة اللغة أولاً، وذلك بأن عمد إلى أصعب طريق، ولكنه أوثقه حتى لا يسقط من مادة اللغة شيء، فأخذ حروف المعجم التسعة والشعرين (أ. ب. ت. ث.........)، ولجأ إلى ما نسميه اليوم >قانون التباديل والتوافيق<، فاستخرج عدة الأبنية التي يمكن أن تتركب من حروف المعجم، فبلغت عدة ملايين، في الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي من
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 63]
الأبنية. ثم عرض هذه الملايين على ما في صدره من كلام العرب، فاستخرج المهمل والمستعمل، حتى حصر اللغة حصرًا دقيقًا بلا رجوع إلى كتاب مقيد، فوضع هذا الأصل لمادة اللغة، ولكنه لم يزد على الحصر. ثم تبعه الناس، فألفوا معجم اللغة، وإن خالفوا فيما بعدُ طريقته.
وهو أيضًا أول رجل ضبط حدود الحركات والسكنات على نسب لا تختل، إذا بُني عليها كلام من كلام العرب كان نغمًا موزونًا، وأراد بذلك أن يضبط ما يسمى في كلام العرب >شعرًا<، وهو علم العروض الذي نعرفه. وعن طريق اهتدائه إلى هذا الضبط، اهتدى أيضًا إلى ضبط نغم الموسيقى، فكان أول رجل في الأرض وضع هذا الضبط، وأخذه عنه إمام الموسيقى في عصره، (والخليل لم يكن له معرفة بالموسيقى)، إسحق بن إبراهيم الموصلي (150 – 235هـ)، فأتم عمل الخليل بعلمه. وحين ألف إسحق كتابه >الإيقاع والنغم<، عرضه على ضريعه ومنافسه ومخالفه في الطريقة، إبراهيم بن المهدي (163 – 224)، فقال له إبراهيم: >أحسنت يا أبا محمد، وكثيرًا ما تحسن!< فقال إسحق: >بل أحسن الخليل، لأنه هو الذي جعل السبيل إلى الإحسان<. وأسس إسحق علم الموسيقى وضبطه، وكان عمل الخليل هو الذي هداه، وهدى الناس من بعده إلى ضبط الموسيقى وحصرها، وهو الذي نعرفه اليوم باسم >النوتة الموسيقية<.
وكان الخليل يوشك أن يأتي بأعجب من ذلك. أراد أن يضبط علم الحساب ويحصره حتى يكون له ميزان يرجع إليه، كالذي فعله في >العروض< و>النغم<، وقال يومئذ: >أريد أن أقرب نوعًا من الحساب، تمضي به الجارية إلى البقال، فلا يمكنه أن يظلمها<، أي أن يغالطها في الحساب، وهي جاهلة الحساب. فدخل المسجد يومًا وهو مشغول بوضع هذا الميزان الخاص للحساب، فصدمته سارية من سواري المسجد، وهو غافل مستغرق في حسابه، فانقلب على ظهره، فكان ذلك سبب موته بعد قليل.
فلننظر الآن كيف صار أمر علم الخليل، الذي نستطيع أن نقول إنه لم
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 64]
يؤلف في عمره الطويل كتابًا يُذْكر، والذي قال فيه تلميذه النضر بن شميل (000 – 203): >ما رأى الراؤون مثل الخليل، ولا رأى الخليل مثل نفسه<. أما >النغم<، فقد ذهب به إسحق كما قلنا. وأما >علم العروض<، فأخذه عنه أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش (000 – 215)، فبسط هذا العلم ومده واستوعبه، وتبعه الناس، وبقيت كتب الأخفش من بعده أصلاً واسعًا لهذا العلم، وضاع قليل ما كتب الخليل. وأما مادة حصر اللغة التي أسسها ووضعها في أصل كتاب العين، فأخذه عن الليث بن نصر بن سيار، وحشاه وتبعه الناس. أما علم النحو والعربية، وهو أوثق علوم الخليل وأجلها، فلم نسمع قط أنه ألف فيه كتابًا، وقد تلقاه عنه عشرات من كبار العلماء من شيوخه وأسنانه وتلامذته، ولكن بان من بينهم شابٌّ آثره الخليل بما ضمن به على غيره، وحمله علمه وأسراره الخفية وكان شابًا ملء ثيابه عقلاً وإدراكًا وبيانًا وذكاءً ومقدرةً، وهو سيبويه (000 – 180). وقد بلغ من إيثار الخليل سيبويه بعلمه أن الأخفش، حدث عن نفسه فقال: >حضرت مجلس الخليل، فجاء سيبويه فسأله مسألةً وفسرها له الخليل، فلم أفهم ما قالا، فقمت وجلست له في الطريق، فقلت: جعلني الله فداءك! سألت الخليل عن مسألة، فلم أفهم ما رد عليك. ففهمنيه! فأخبرني بها، فلم تقع لي ولا فهمتها. فقلت له: لا تتوهم أني أسألك إعناتًا، فإني لم أفهمها ولم تقع لي! فقال لي: ويلك! ومتى توهمت أني أتوهم أنك تعنتني، ثم زجرني وتركني ومضى<. وظل هذا الشاب يأخذ عن الخليل من ينبوعه المتفجر، وبذل له سر العربية الذي كان في صدره، وعقد له بناء النحو عقدًا كاملاً وآثره به، ولم يكتب هو شيئًا، وبقى مع الخليل حتى مات، يحدثنا القاضي إسماعيل بن إسحق الأزدي (000 – 282)، عن نصر بن علي بن نصر الجهضمي (000 – 250)، عن أبيه علي بن نصر الجهضمي (000 – 187). وكان قرين سيبويه، وكانا معًا من أصحاب الخليل في علم العربية، قال علي بن نصر: >قال لي سيبويه حين رآني (يعني بعد موت الخليل): تعال نتعاون على إحياء علم الخليل<، ولكن عليًا لم يعاون سيبويه، فانطلق سيبويه وحده
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 65]
يؤلف هذا الكتاب البَحْر، الذي لم ير الناس مثله قبله ولا بعده، وهو >الكتاب<، وقد قلت منذ أربعين سنة غن قراءة كتاب سيبويه، وتتبع مصطلحاته، تدل دلالة قاطعة على أن الخليل هو الذي وضع لسيبويه بناء هذا الكتاب، وأنه هو الذي عقد له عقده الذي نراه عليه اليوم. ولولا الخليل لما كان >الكتاب<!
هذه صورة تلاقي جبال العلم الشوامخ الذين كان علمهم في صدورهم وقلَّ تأليفهم، وبحار العلم من تلامذتهم الذين تدفق إليهم علم شيوخهم، فألفوا وكتبوا ووضعوا أصول العلم المختلفة. انتزعتها من رجل واحد، ورثه تلامذته، وأشباه هذا الرجل الفذ كثير في عصره، وأشبه تلامذته كثير من بعد شيوخهم). [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 62-65]