· منزلة الصبر:
للصبر منزلة عالية في الدين ، وفضائله الكثيرة تدلّ على عظيم منزلته، ويكفي دلالة على ذلك كثرة ذكره في القرآن.
قال الإمام أحمد رحمه الله: (ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعا).
وقد أحسن ابن القيم رحمه الله في كتابه عدة الصابرين في ذكر هذه المواضع وتصنيفها تصنيفاً حسناً فليراجعه من أراد الاستزادة.
قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} وقال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}.
والصبر إذا اجتمع مع اليقين كان سبباً لنيل الإمامة في الدين كما قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.
وقال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}
فبيّن الله في هذه السورة العظيمة أنه لا نجاة للإنسان من الخسران إلا بهذه الأمور الأربعة المذكورة فيها: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
وهذه الأمور الأربعة مترتبة بعضها على بعض؛ فالإيمان أساس العمل الصالح، فلا يصلح العمل إلا بالإيمان، والعمل الصالح من الإيمان.
والتواصي بالحق من الأعمال الصالحة، وخُص بالذكر لأهميته.
والتواصي بالصبر هو أيضاً من هو من التواصي بالحق.
فصارت مرتبة الإيمان هي الأصل وينبني عليها العمل الصالح وينبي عليهما التواصي بالحق وينبي على ذلك كله التواصي بالصبر.
فصار الصبر بمنزلة الرأس من الجسد، وقد روي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان» رواه ابن أبي شيبة في المصنف والبيهقي في شعب الإيمان من طريق عمرو بن قيس عن أبي إسحاق السبيعي عن علي، ورجاله ثقات لكنّه منقطع؛ فأبو إسحاق السبيعي لم يدرك علياً، وقد يكون الواسطة بينهما الحارث الأعور، وكان أبو إسحاق السبيعي قد تزوَّج امرأته بعد وفاته وقرأ كتبه، ويؤيّد هذا الاحتمال أنّ هذا الخبر رواه الزبير بن عديّ قاضي مرو عن الحارث الأعور عن عليّ، والحارث متروك الحديث.
لكن لهذا الخبر طريق آخر فقد رواه ابن أبي عمر في الإيمان وابن أبي الدنيا في كتاب الصبر من طريق السرّي بن إسماعيل عن الشعبي عن علي، لكن السريّ متروك الحديث أيضاً، وفي رواية الشعبي عن عليّ خلاف.
ورواه وكيع في الزهد عن أبي جعفر الرازي عن رجل يقال له عمر عن محمد بن علي عن أبيه.
والمقصود أنّ هذا الأثر لا يثبت عن عليّ من طريق صحيح متّصل، وإن كان معناه له وجه صحيح.
وقد روي أيضاً من حديث أنس موقوفاً ومرفوعاً ولا يصح.
وقد ورد في فضل الصبر أحاديث كثيرة منها:
1. حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والصبر ضياء) رواه أحمد ومسلم والترمذي من طريق أبان بن يزيد العطار عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام، عن جده أبي سلام ممطور الحبشي عن أبي مالك الأشعري، وله طرق أخرى.
2. وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال: « ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبَّر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر» رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من حديث ابن شهاب الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد.
- وقد تقدّم قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله)).