المَجازُ المركَّبُ(1)
المركَّبُ إن اسْتُعْمِلَ في غيرِ ما وُضِعَ له لعَلاقةٍ غيرِ المُشابَهةِ سُمِّيَ مَجازاً(2) مركَّباً(3) كالجُمَلِ الخبريَّةِ إذا اسْتُعْمِلَتْ في الإنشاءِ(4)، نحوُ قولِه(5):
هَوايَ(6) مع الرَّكْبِ اليمانِينَ مُصْعِدُ(7) ..... جَنيبٌ وجُثْمَانِي بمكَّةَ مُوثَقُ(8)
فليس الغرَضُ من هذا البيتِ الإخبارَ(9), بل إظهارَ التحزُّنِ والتحسُّرِ (10)
وإن كانت علاقتُه المُشابَهةَ(1) سُمِّيَ(2) استعارةً تَمثيليَّةً(3)، كما يُقالُ(4) للمُتردِّدِ في أمْرٍ(5): إني أراك تُقَدِّمُ رِجْلاً(6) وتُؤخِّرُ(7) أُخرى(8).
___________________________
(1) (المَجازُ المركَّبُ)
هو الكلامُ المركَّبُ المستعمَلُ في غيرِ المعنى الذي وُضِعَ له مع قرينةٍ مانِعةٍ عن إرادةِ معناه الأصليِّ, ويَنقسمُ كالمَجازِ المُفرَدِ إلى قسمين؛ مَجازٌ مرسَلٌ مركَّبٌ واستعارةٌ تمثيليَّةٌ قالَ:
(2) (المركَّبُ إن استُعمِلَ في غيرِ ما وُضِعَ له لعَلاقةٍ غيرِ المشابَهةِ سُمِّيَ مَجازاً) مرسَلاً لإرسالِ عَلاقتِه عن التقييدِ بالمشابَهةِ.
(3) (مركَّباً) لجريانِه في المركَّبِ خلافَ المُفرَدِ ويَنْحَصِرُ في موضعين أشارَ إلى الأوَّلِ بقولِه:
(4) (كالجُمَلِ الخبريَّةِ إذا استُعْمِلَتْ في الإنشاءِ) لأغراضٍ, منها التحسُّرُ وإظهارُ التأسُّفِ.
(5) (نحوُ قولِه) أي: قولِ جعفرِ بنِ عُلْبةَ الحارثيِّ.
(6) (هَوايَ) أي: مَهْوُيِّي ومَحْبوبي.
(7) (مع الركْبِ اليمانِين مُصْعِدُ) أي: مُبْعِدُ.
(8) ( جَنيبٌ وجُثْماني بمكَّةَ مُوثَقُ) أي: مُقيَّدُ.
(9) (فليس الغرضُ من هذا البيتِ الإخبارَ) أي: بكونِ هواه أي: محبوبِه: مُصْعِداً.
(10) (بل إظهارَ التحزُّنِ والتحَسُّرِ) على ما آلَ إليه أمْرُه من مفارَقةِ المحبوبِ اللازمِ ذلك للإخبارِ بها؛ لأن الإخبارَ بوقوعِ شيءٍ مكروهٍ يَلْزَمُه إظهارُ التحسُّرِ والتحزُّنِ فالعَلاقةُ اللازميَّةُ ومنها إظهارُ الضعْفِ نحوُ قولِ الشاعرِ:
ربِّ إني لا أستطيعُ اصطِباراً ..... فاعْفُ عني يا مَن يُقيلُ العِثارَا
ومنها إظهارُ السرورِ نحوُ كُتِبَ اسمي بينَ الناجحين، ومنها الدعاءُ نحوُ: تَمِّمِ اللهُ مقاصِدَنا, والموضِعُ الثاني: الْجُمَلُ الإنشائيَّةُ إذا استُعمِلَتْ في معانٍ أُخَرَ نحوُ قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) إذ المرادُ يَتبوَّأُ والعَلاقةُ في هذا السببيَّةُ؛ لأن إنشاءَ المتكلِّمِ العبارةَ سببٌ لإخبارِه بما تَضمنَّهُ فظاهرُه أمرٌ ومعناه خبرٌ.
(1) (وإن كانت علاقتُه المشابَهةَ) أي: بينَ صورتين مُنْتَزَعَتيْنِ من أمرين أو أمورٍ.
(2) (سُمِّيَ) أي: اللفظُ المركَّبُ المستعمَلُ في الصورةِ المُشبَّهةِ بعدَ ادِّعاءِ أنها من جنسِ الصورةِ المُشبَّهِ بها.
(3) (استعارةً تمثيليَّةً) أما: كونُه استعارةً؛ فلأنه استُعِيرَ الدالُّ على الصورةِ المُشبَّهِ بها للصورةِ المُشبَّهةِ، وأما كونُ هذه الاستعارةِ تمثيليَّةً فإشارةٌ إلى عِظَمِ شأنِها كأنَّ غيرَها ليس فيه تمثيلٌ أصْلاً مع أنَّ التمثيلَ بمعنى التشبيهِ عامٌّ في كلِّ استعارةٍ.
(4) (كما يُقالُ) أي: كالقولِ الذي يُقالُ.
(5) (للمتردِّدِ في أمْرٍ) أي: في فعلِه وعدَمِ فعلِه بأن يَتَوجَّهَ إليه بالعزْمِ تارةً ويَتوجَّهَ للإحجامِ عنه بالعزْمِ تارةً أخرى.
(6) (إنِّي أراك تُقدِّمُ رِجْلاً) مَرَّةً.
(7) (وتؤخِّرُ) تلك الرِّجْلَ المتقدَّمةَ مَرَّةً.
(8) (أخرى ) فإنََّ هذا القولَ حيث استُعمِلَ في التردُّدِ فهو استعارةٌ تمثيليَّةٌ يُقالُ في إجرائِها: شُبِّهتْ هيئةُ من يَتردَّدُ في أمرٍ بينَ أن يَفعلَه, وأن لا يَفعلَه بهيئةِ مَن يَتردَّدُ في الذِّهابِ أو في الدخولِ, فتارةً يُقدِّمُ رجلَه, وتارةً يؤخِّرُها بجامعِ الْحَيْرةِ في كلٍّ, أي: كونِ كلٍّ منهما له مُطلَقُ إقدامٍ بالانبعاثِ لأمْرٍ تارةً, والإحجامِ عن ذلك الأمرِ بذلك الانبعاثِ تارةً أخرى, ثم استُعيرَ اللفظُ الدالُّ على الهيئةِ المُشبَّهِ بها للهيئةِ المُشبَّهةِ على سبيلِ الاستعارةِ التمثيليَّةِ, هذا وإذا فَشَتْ وشاعَتْ وكَثُرَ استعمالُها أعني: استُعمِلَتْ كثيراً في مثل ما استَعْمَلَها الناقلُ الأوَّلُ سُمِّيَتْ مَثلاً, ولا يُغَيَّرُ مطلَقاً بحيثُ يُخاطَبُ به المُفرَدُ والمذكَّرُ, وفروعُهما بلفظٍ واحدٍ من غيرِ تغييرٍ؛ لأن المستعارَ في كلِّ استعارةٍ مستعمَلٌ في معناه المَجازيِّ على حالتِه عندَ استعمالِه في معناه الحقيقيِّ, ولا يَجوزُ تغييرُه بوجهٍ, وذلك نحوُ: الصيفَ ضيَّعْتِ اللبنَ فإنَّ أصلَ مَوْرِدِه أنَّ لدختوسَ بنتَ لَقِيطِ بنِ زُرارةَ تَزوَّجَتْ شيخاً كبيراً, وهو عمرُو بنُ عمرِو بنِ عُدَسٍ, فطلَبَتْ منه الطلاقَ في زمَنِ الصيفِ لضعفِه, فطلَّقَها ثم تَزوَّجَتْ بشابٍّ فقيرٍ, وهو عمرُ بنُ زُرارةَ, وأصابَها جَدْبٌ في زمنِ الشتاءِ فطلَبَتْ من الشيخِ الذي طلَّقَها شيئاً من اللبنِ فقالَ لها ذلك القولَ, ثم نَقَلَه الناقلُ الأوَّلُ لِمَضْرِبٍ, وهو قضيَّةٌ تَضمَّنَتْ طلَبَ الشيءِ بعدَ تضييعِه والتفريطِ فيه، ثم فَشَا استعمالُه في مثلِ تلك القضيَّةِ مما طُلِبَ فيه الشيءُ بعدَ التسبُّبِ في ضياعِه والتفريطِ في تحصيلِه في زمَنٍ آخَرَ من غيرِ تغييرٍ له في حالةِ الْمَضْرِبِ عن هيئتِه في حالةِ الْمَوْرِدِ. وإجراءُ الاستعارةِ فيه أن يُقالَ: شُبِّهَتْ هيئةُ من فَرَّطَ في أمْرٍ زمَنَ إمكانِ تحصيلِه بهيئةِ المرأةِ التي طُلِّقَتْ من الشيخِ اللابنِ, ورَجَعتْ إليه تَطلُبُ منه اللبنَ زَمنَ الشتاءِ بجامعِ التفريطِ في كلٍّ, واستُعِيرَ اللفظُ الدالُّ على المُشبَّهِ به, وهو القولُ المذكورُ للمشبَّهِ على سبيلِ الاستعارةِ التمثيليَّةِ.