رسالة تفسيرية في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) )
من الأساليب الوعظية في القرآن أسلوب تعقيب الرهبة بالرغبة، فلما ذكر الله ما أعده للكافرين المعرضين عن خشيته في الآية السابقة أعقبه بما أعده للذين يخشون ربهم بالغيب من المغفرة والثواب للعلم بأنهم يترقبون ما يميزهم عن أحوال المشركين
فالخشية خُلُق لا يتصف بها إلا عباد الله المتقين وأوليائه المحسنين: قال الله تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} . قال الإمام الطبري رحمه الله: " ليس المؤمن بالذي يخالف الله ورسوله، ويترك إتباع ما أنزله إليه في كتابه من حدوده وفرائضه، والانقياد لحكمه، ولكن المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وَجِل قلبه، وانقاد لأمره، وخضع لذكره، خوفًا منه، وفَرَقًا من عقابه" . قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) }.
وقد وردت الخشية في مواضع جمة من القرآن الكريم وما وقفْتُ عليه كان بحدود 33 موضع فمن المواضع قوله تعالى:{إن الذين يخشون ربهم بالغيب} ونظيره {من خشي الرحمن بالغيب} وكذلك قوله {ذلك لمن خشي ربه} وقوله تعالى: {إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية} وقوله: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وغيره من الآيات
فالخشية من الله تعالى مقام من أعلى المقامات، وصفة من أسمى وأعلى الصفات، بل هي شرط من شروط الإيمان
ولقد عاب الله تعالى على بني إسرائيل ووبخهم وقرعهم على قساوة قلوبهم وعدم خشيتهم له سبحانه فقال لهم : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}.
وضرب لنا سبحانه مثلا طيبا في الخشية من الله عند سماع آياته فقال: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)}
فالخشية هو خوف مقام الله فيما بين العبد وبين ربه إذا كان غائبا عن الناس؛ وفي جميع أحواله فهو يخشى عذاب الله ولم يراه وهو يؤمن به خوفا من عذابه
قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: الوجل والخوف والخشية والرهبة ألفاظ متقاربة غير مُترادفـة .وقال : وقيل الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره والخشية أخصّ من الخوف .
وقال المناوي في التوقيف في مهمات التعاريف: الخشية تألم القلب لتوقع مكروه مستقبلا ، يكون تارة بكثرة الجناية من العبد ، وتارة بمعرفة جلال الله وهيبته ومنه خشية الأنبياء .
وبعضهم قيّد الخشية بما كان في حق الله ، والخوف في حق الآدميين ، قال تعالى : {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) }
ومن كمال الخشية القيام بحدود الله وجعل الله أحق أن يخشى:
فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: لاَ يَحْقِرْ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَحْقِرُ أَحَدُنَا نَفْسَهُ ؟ قَالَ : يَرَى أَمْرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالٌ ثُمَّ لاَ يَقُولُ فِيهِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ فِي كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ خَشْيَةُ النَّاسِ. فَيَقُولُ فَإِيَّاىَ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ تَخْشَى. أخرجه أحمد وابن ماجة.
وقال السمعاني : والخشية والخوف بمعنى واحد. وقيل الخشية أخص من الخوف .
وهي من أعمال القلوب؛ أي من العبادات القلبية، وهي حقٌّ لله سبحانه وتعالى لا يجوز أن يُشرك معه فيها غيره. وبعبارة مختصرة هي التقوى ومخالفة الهوى.
قال الشاعر :
خف الله وارجوه لكلِّ عـظـيمةٍ * * * ولا تطع النَّفس الّلجوج فتنـدمـا
وكن بين هاتين من الخوف والرَّجا* * * وأبشر بعفو الله إن كنت مسلمـا
وقال أبو الدرداء : تمامُ التقوى أنْ يتقي الله العبدُ ، حتّى يتقيَه مِنْ مثقال ذرَّة ، وحتّى يتركَ بعضَ ما يرى أنَّه حلال ، خشيةَ أنْ يكون حراماً ، حجاباً بينه وبينَ الحرام .
قال الحسن البصري- رحمه الله : عملوا لله بالطاعات، واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم. إن المؤمن جمع إيمانا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنا.
وبعضهم من جعل العلم هو الخشية فعن مسروق- رحمه الله- قال: كفى بالمرء علما أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعمله.
وخشية الله في الغيب قيل أنها خشيته في/
1- السر : أي أنهم يخشون ربهم إذا غابوا عن أعين الناس وخلوا بأنفسهم، أي: في خلواتهم، ومنه تقول العرب: "فلان سالم الغيب"، أي: لا يضر، فالمعنى: يعملون بحسب الخشية في صلاتهم وعباداتهم وانفرادهم فيذكرون ذنوبهم ويستغفرون ربهم في خلوتهم، قاله يحيى بن سلام ، وهذا مدح بالإخلاص والإيمان. 2- وقيل خشية الذي هو بالغيب ; وهو عذاب يوم القيامة. وما أخبروا به من الحشر والصراط والميزان والجنة والنار، فآمنوا بذلك وخشوا ربهم فيه، ونحا إلى هذا قتادة ، ذكره الطبري والقرطبي وهذا مدح بالأعمال الصالحة في الخلوات، وذلك أحرى أن يفعلوها علانية 3- وقيل أن الغيب الله تعالى وملائكته ، قاله أبو العالية . 4- وقيل الجنة والنار ، قاله السدي . 7- وقيل أنه القلب ، قاله ابن بحر .
فالحاصل أن الخشية عبادة قلبية يحصل بهاالكفّ عن المعاصي والقيام بالطّاعات، حيث لا يراه أحدٌ إلّا اللّه، فلا يُقْدِمُ على مَعاصِيهِ، ولا يُقَصِّرُ فيما أمَرَ به.
وقد مدح الله الذين يخشونه في مواضع عدّة من القرآن، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أنا أعلمكم بالله وأشدكم خشية له.
ولقد كان من خشيته صلى الله عليه وسلم استشعاره لعظمة الله ورهبته منه , عَنْ مُطَرِّفٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّى وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ. أخرجه أحمد وأبو داود والتِّرْمِذِيّ
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُك كَلِمَةَ الإِخْلاَصِ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَى ، وَالْقَصْدَ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ , وَخَشْيَتَك فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أخرجه النَّسائي
ولقد ربّى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام على هذه المعاني الطيبة فكان يعظهم موعظة تخشع لها قلوبهم وتدعوهم إلى خشية الله
فعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً، مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ ، قَالَ : لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً ، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ، قَالَ : فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وُجُوهَهُمْ ، لَهُمْ خَنِينٌ،. أخرجه أحمد والبخاري ومسلم
وكذا الصحابة من بعده
ومما يعين كذلك استحضار أجرها وثوابها حيث قال الله تعالى في الآية: {إنّ الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير}
فالمغفرة هي تكفير الذنوب ومحوها،وإذا غَفَرَ اللَّهُ الذُنوب وَقَى العبد شَرَّها، وقولهفي الآية لهم مغفرة فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بالتوبة والاستغفار .
الثاني : بخشية ربهم بالغيب .
الثالث : لأنهم حلوا باجتناب الذنوب محل المغفور له ومن جملة ثوابها مالهم عند الله من الأجر الكبيرمن الجنة والنعيمِ الْمُقيمِ، والمُلْكِ الكبيرِ, واللَّذَّاتِ الْمُتَواصِلاتِ والْمُشْتَهَيَاتِ، والقُصورِ والمنازلِ العالياتِ، والْحُورِ الْحِسانِ، والخَدَمِ والوِلْدانِ والعفو عن عقابه ومضاعفته والوقاية من عذاب الجحيم،وأعظَمُ مِن ذلكَ وأكبرُ رِضَا الرحمنِ الذي يُحِلُّه اللَّهُ على أهْلِ الْجِنانِ وثواب من الله لهم على خشيتهم
وقدم في الآية المغفرة تطمينا لقلوبهم ؛ لأنهم يخشون المؤاخذة على ما فرط منهم من الكفر قبل الإسلام ومن اللمم ونحوه ، ثم أعقبت بالبشارة بالأجر العظيم ، فكان الكلام جاريا على قانون تقديم التخلية ، أو تقديم دفع الضر على جلب النفع ، والوصف بالكبير بمعنى العظيم
وتنكير ( مغفرة ) هنا للتعظيم بقرينة مقارنته ب{أجر كبير } وبقرينة التقديم ، وتقديم المسندعلى المسند إليه في جملة{لهم مغفرة }ليتأتى تنكير المبتدأ ، ولإفادة الاهتمام ، وللرعاية على الفاصلة وهي نكت كثيرة . فالله يجزي العبد على خشيته أعظم الجزاء فقد ثبت في الصّحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: "سبعةٌ يظلّهم اللّه تعالى في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه"، فذكر منهم: "رجلًا دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ فقال: إنّي أخاف اللّه، ورجلًا تصدّق بصدقةٍ فأخفاها،حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
وهذ الخشية لها ثمارَ بيِّنة، وآثار ظاهرة، فإنها باعث على إخلاص العمل لله تعالى والاستدامة عليه، وطريقٌ إلى العزَّة التي كتبها الله لعباده المؤمنين، وسبيلٌ إلى صيانة النفس عن الذل، وانتفاء النفاق من العبد وداع إلى التحلي بمحاسن الأخلاق والنفرة من مساوئها، وسببٌ للسعادة في الدارين، وقائدٌ إلى الأمن من الفزع الأكبر وإلى الفوز بالجنة والنجاة من النار
اللهم ارزقنا خشيتك في السر والعلانية، واجعل خير أعمالنا خواتيمها , وخير أيامنا يوم أن نلقاك.
المراجع/
1. تفسير الطبري
2. تفسير الماوردي
3. تفسير ابن عطية
4. تفسير القرطبي
5. تفسير القرآن العظيم لابن كثير
6. تفسير البغوي
7. تيسير الكريم الرحمن للسعدي
8. التحرير والتنوير لابن عاشور
9. أضواء البيان لإيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي
10. زبدة التفسير للأشقر
11. مدارج السالكين لابن القيم
12. التوقيف في مهمات التعاريف للمناوي
13. التعريفات للجرجاني
14. موقع الدكتور سفر الحوالي