أول ما نزل من القرآن
الموضوع الأصلي (هنا)
1: مقدمات في مسائل أول ما نزل من القرآن
- قاعدة البحث في مسائل أوّل ما نزل
- فوائد معرفة أول ما نزل
- أنواع مسائل أول ما نزل
2: تعيين أول ما نزل من القرآن الكريم مطلقاً
- القول الأول: سورة العلق
- القول الثاني: سورة العلق وسورة نون
- القول الثالث: سورة المدثر
- القول الرابع: سورة الفاتحة
- القول الخامس: البسملة
3: أول ما نزل بعد فترة الوحي الأولى
- سورة المدثر
4: أقوال العلماء في بيان أول ما نزل من القرآن
5: العتاق الأُوَل
6: أوائل مخصوصة
7: إشكال وجوابه
حديث عائشة قالت: (إن أول ما نزل سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام)
خلاصة أقوال لعلماء في بيان أول ما نزل
1: مقدمات في مسائل أول ما نزل من القرآن
● قاعدة البحث في مسائل أوّل ما نزل
مدار هذا المبحث على النقل والتوقيف. ولا مجال للعقل فيه إلا بالترجيح بين الأدلة أو الجمع بينها فيما ظاهره التعارض منها.
ذكره الزرقاني في مناهل العرفان.
● فوائد معرفة أول ما نزل
1: تمييز الناسخ من المنسوخ فيما إذا وردت آيتان أو آيات على موضوع واحد وكان الحكم في إحدى هذه الآيات يغاير الحكم في الأخرى.
2: معرفة تاريخ التشريع الإسلامي ومراقبة سيره التدريجي والوصول من وراء ذلك إلى حكمة الإسلام وسياسته في أخذه الناس بالهوادة والرفق والبعد بهم عن غوائل الطفرة والعنف سواء في ذلك هدم ما مردوا عليه من باطل وبناء ما لم يحيطوا بعلمه من حق.
3: إظهار مدى العناية التي أحيط بها القرآن الكريم حتى عرف فيه أول ما نزل وآخر ما نزل, كما عرف مكيه ومدنيه وسفريه وحضريه إلى غير ذلك. ولا ريب أن هذا مظهر من مظاهر الثقة به ودليل على سلامته من التغيير والتبديل. {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
ذكرها الزرقاني في المناهل.
● أنواع مسائل أول ما نزل
1: أول ما نزل من القرآن على الإطلاق.
2: أول ما نزل في بعض الأحكام التشريعية.
ذكرها الزرقاني في المناهل.
2: تعيين أول ما نزل من القرآن الكريم مطلقاً
القول الأول: سورة العلق
1: عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فقلت له ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد فقال: {اِقرَأ بِاِسمِ رَبِّكَ الَّذي خَلَقَ} حتى بلغ: {ما لم يعلم} )) فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة رضي الله عنها فقال:((زملوني))فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال:((يا خديجة ما لي)) وأخبرها الخبر وقال: ((قد خشيت علي)) فقالت له: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدًا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق). رواه البخاري عن يحيى بن بكير ورواه مسلم عن محمد بن رافع كلاهما عن عبد الرزاق). ذكره الواحدي في أسباب النزول.
2: عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: (اقرأ باسم ربك هو أول شيء نزل على محمد صلى الله عليه وسلم)). ذكره أبو عبيد في فضائل القرآن
3: أَخْرَج ابن الضريس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وكان أول ما نزل من القرآن ({اقرأ باسم ربك}الآية [العلق: 1] ثم (المزمل) ثم (المدثر)) ). ذكره السيوطي في الدر المنثور.
4: عن أبي رجاءٍ العطاردي ، قال: أخذت من أبي موسى: {اقرأ باسم ربّك الّذي خلق} وهي أوّل سورةٍ أنزلت على محمّدٍ صلى الله عليه وسلم). رواه ابن أبي شيبه في مصنفه.
5: عن الكلبي عن أبي صالح أنه قال: أول شيء أنزل من القرآن {اقرأ باسم ربك الذي خلق} حتى بلغ إلى {إن إلى ربك الرجعى} وقال قتادة مثل ذلك.
قال الكلبي: (ثم أنزلت آيات بعد ثلاث آيات من أول ن والقلم أو ثلاث آيات من أول المدثر أحدهما قبل الأخرى فأي الثلاث كن قبل الأولى فالأخرى بعدهن). رواه محمد بن كثير العبدي في الناسخ والمنسوخ لقتادة.
القول الثاني: سورة العلق وسورة نون
- عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إن أول ما نزل من القرآن اقرأ باسم ربك الذي خلق و نون والقلم). رواه أبو عبيد في فضائل القرآن.
القول الثالث: سورة المدثر
1: عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن: أي القرآن أنزل قبل؟ قال: {يا أيها المدثر}: قلت: أو {اقرأ باسم ربك} قال: سألت جابر بن عبد الله الأنصاري: أي القرآن أنزل قبل؟ قال: {يا أيها المدثر} قال قلت: أو {اقرأ باسم ربك}. قال جابر: (أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني جاورت بحراء شهرًا فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي ثم نظرت إلى السماء فإذا هو على العرش في الهواء يعني جبريل فأخذتني رجفة فأتيت خديجة فأمرتهم فدثروني ثم صبوا علي الماء فأنزل الله علي {يا أَيُّها المُدَّثِّرُ * قُم فَأَنذِر} )). رواه مسلم عن زهير بن حرب عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي. ذكره الواحدي في أسباب النزول.
القول الرابع: سورة الفاتحة
1: عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لخديجة : « إني إذا خلوت وحدي سمعتُ نداءً وقد واللّه خشيتُ أن يكون هذا أمراً » .
فقالت : معاذ اللّه، ما كان اللّه عزّ وجلّ ليفعل بك ذاك ، فوالله إنّك لتؤدّي الأمانة وتصل الرحم وتصدّق الحديث .
فلمّا دخل أبو بكر رضي الله عنه وليس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الدار ثم ذكرت خديجة له، وقالت: يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل، فلمّا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده، وقال: انطلق بنا إلى ورقة.
فقال : « من أخبرك؟ »
فقال: خديجة.
فانطلقا إليه فقصّ عليه فقال : « إذا خلوت وحدي سمعت نداءً خلفي : يا محمد يا محمد فأنطلق هارباً في الأرض » .
فقال له : لا تفعل ، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني، فلمّا خلا ناداه يا محمد قل : { بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ * الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } حتّى بلغ { وَلاَ الضآلين }). ذكره الثعلبي في الكشف والبيان.
2: عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا برز سمع مناديًا يناديه: (يا محمد)، فإذا سمع الصوت انطلق هاربًا فقال له ورقة بن نوفل: إذا سمعت النداء فاثبت حتى تسمع ما يقول لك قال: فلما برز سمع النداء: يا محمد فقال: لبيك قال: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله ثم قال: قل {الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَ الرَحمَنِ الرَحيمِ مالِكِ يَومِ الدينِ} حتى فرغ من فاتحة الكتاب). ذكره الواحدي في أسباب النزول.
3: ومن طريق أبي ميسرة أحد كبار التابعين أن رسول الله كان إذا برز سمع مناديا ينادي: يا محمد، فإذا سمع الصوت انطلق هاربا فقال له: ورقة بن نوفل إذا سمعت النداء فاثبت حتى تسمع ما يقول لك، فلما برز سمع النداء فقال: لبيك، قال: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم قل الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم.. حتى فرغ من فاتحة الكتاب. ذكره ابن حجر في العجاب، وقال: وهو مرسل ورجاله ثقات.
4: قال أبو ميسرة: أول ما أقرأ جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب إلى آخرها. وقال ابن عباس: نزلت بمكة بعد: {يا أيها المدثر} ثم نزلت {تبت يدا أبي لهب}). ذكره السخاوي في جمال القراء
قال الشيخ عبد العزيز بن داخل المطيري: (هذا خبر منكر، وقد اضطربت أسانيده لدى الواحدي والثعلبي).
القول الخامس: البسملة
1: عن يزيد النحوي عن عكرمة والحسن قالا: أول ما نزل من القرآن:{بِسمِ اللهِ الرَحمَنِ الرَحيمِ}، فهو أول ما نزل من القرآن بمكة وأول سورة {اِقرَأ بِاِسمِ رَبِّكَ}). ذكره الواحدي في أسباب النزول.
2: عن يزيد النحوي عن عكرمة والحسن قالا: أول ما نزل من القرآن بسم الله الرحمن الرحيم.
ذكره ابن حجر في العجاب وقال: وهذا مرسل.
3: أول ما نزل بعد فترة الوحي الأولى
سورة المدثر:
1: عن جابر بن عبد الله، قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي فقال: ((بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه رعبا، فأتيت خديجة فقلت: زملوني زملوني قال فزملوني، فأنزل الله عز وجل{ يا أيها المدثر، قم فأنذر }). رواه أبو عبيد في فضائل القرآن.
4: أقوال العلماء في بيان أول ما نزل من القرآن
ورد في ذلك أقوال أربعة:
القول الأول: أنه صدر سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى قوله سبحانه: {عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}
وهو ما عليه جمهور العلماء، ودليله ما يأتي:
1: روى البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: إقرأ. قلت: "ما أنا بقارئ". فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: اقرأ. قلت: "ما أنا بقارئ". فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: "ما أنا بقارئ". فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} وفي بعض الروايات حتى بلغ {مَا لَمْ يَعْلَمْ} . فرجع بها إلى خديجة يرجف فؤاده إلى آخر الحديث وهو طويل.
2: وصحح الحاكم في مستدركه والبيهقي في دلائله عن عائشة أيضا رضي الله عنها أنها قالت: (أول سورة نزلت من القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}).
3: وصحح الطبراني في الكبير بسنده عن أبي رجاء العطاردي قال: (كان أبو موسى يقرئنا فيجلسنا حلقا وعليه ثوبان أبيضان فإذا تلا هذه السورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} قال: (هذه أول سورة نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم)).
القول الثاني: أن أول ما نزل إطلاقا: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} .
واستدل أصحاب هذا الرأي بالآتي:
- ما رواه الشيخان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: (سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبل؟ فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فقلت: أو {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وفي رواية نبئت أنه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . فقال: أحدثكم ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني جاورت بحراء فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي)) زاد في رواية: ((فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي ثم نظرت إلى السماء فإذا هو)) - يعني جبريل- زاد في رواية: ((جالس على عرش بين السماء والأرض فأخذتني رجفة فأتيت خديجة فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} )) .
توجيه العلماء لحديث جابر رضي الله عنه:
الأول: أن المدثر من جملة ما نزل أول القرآن، وبالتالي لا تعارض بين الحديث وبين حديث عائشة.
الثاني: أن مراد جابر بالأولية أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي لا أولية مطلقة.
الثالث: أن وقع السؤال عن نزول بقية اقرأ والمدثر، فأجابه أبو سلمة عن جابر بما تقدم.
الرابع: أن السؤال كان عن نزول سورة كاملة، فبين أن سورة المدثر نزلت بكمالها قبل نزول تمام سورة اقرأ فإنها أول ما نزل منها صدرها
الخامس: أن المراد أولية مخصوصة بالأمر بالإنذار، وعبر بعضهم عن هذا بقوله: أول ما نزل للنبوة: {اقرأ باسم ربك}، وأول ما نزل للرسالة: {يا أيها المدثر}.
السادس: أن المراد أول ما نزل بسبب متقدم وهو ما وقع من التدثر الناشئ عن الرعب، وأما {اقرأ} فنزلت ابتداء بغير سبب متقدم.
السابع: أن جابرا استخرج ذلك باجتهاده، وليس هو من روايته فيقدم عليه ما روته عائشة.
الثامن: أن جابرا سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكر قصة بدء الوحي فسمع آخرها ولم يسمع أولها فتوهم أنها أول ما نزلت.
قال ابن تيمية: (قال ابن شهابٍ الزّهريّ: سمعت أبا سلمة بن عبد الرّحمن قال: أخبرني جابر بن عبد اللّه أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحدّث عن فترة الوحي: ((فبينما أنا أمشي سمعت صوتاً فرفعت بصري قبل السّماء , فإذا الملك الّذي جاءني بحراءٍ قاعدٌ على كرسيٍّ بين السّماء والأرض، فجثثت حتّى هويت إلى الأرض، فجئت أهلى فقلت: زمّلوني زمّلوني. فزمّلوني، فأنزل اللّه تعالى: {يا أيّها المدّثّر قم فأنذر}. إلى قوله: {والرّجز فاهجر})).
فهذا يبيّن أنّ (المدّثّر) نزلت بعد تلك الفترة، وأنّ ذلك كان بعد أن عاين الملك الّذي جاءه بحراءٍ أوّلاً، فكان قد رأى الملك مرّتين.
وهذا يفسّر حديث جابرٍ الّذي روي من طريقٍ آخر كما أخرجاه من حديث يحيى بن أبي كثيرٍ قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرّحمن عن أوّل ما نزّل من القرآن، قال: {يا أيّها المدّثّر}.
قلت: يقولون: {اقرأ باسم ربّك الّذي خلق}.
فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد اللّه عن ذلك وقلت له مثل ما قلت؛ فقال جابرٌ: لا أحدّثك إلاّ ما حدّثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ((جاورت بحراءٍ، فلمّا قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً فأتيت خديجة فقلت: دثّروني وصبّوا عليّ ماءً بارداً. فدثّروني وصبّوا عليّ ماءً بارداً، قال: فنزلت {يا أيّها المدّثّر قم فأنذر وربّك فكبّر})).
فهذا الحديث يوافق المتقدّم , وأنّ (المدّثّر) نزلت بعد أن هبط من الجبل، وهو يمشي , وبعد أن ناداه الملك حينئذٍ، وقد بيّن في الرواية الأخرى أنّ هذا الملك هو الّذي جاءه بحراءٍ، وقد بيّنت عائشة أنّ (اقرأ) نزلت حينئذٍ في غار حراءٍ، لكن كأنّه لم يكن علم أنّ (اقرأ) نزلت حينئذٍ، بل علم أنّه رأى الملك قبل ذلك، وقد يراه ولا يسمع منه، لكن في حديث عائشة زيادة علمٍ، وهو أمره بقراءة (اقرأ).
وفي حديث الزّهريّ أنّه سمّى هذا (فترة الوحي), وكذلك في حديث عائشة (فترة الوحي)، فقد يكون الزّهريّ روى حديث جابرٍ بالمعنى , وسمّى ما بين الرّؤيتين (فترة الوحي) كما بيّنته عائشة، وإلاّ فإن كان جابرٌ سمّاه (فترة الوحي) فكيف يقول: إنّ الوحي لم يكن نزل؟
وبكلّ حالٍ فالزّهريّ عنده حديث عروة عن عائشة وحديث أبي سلمة عن جابرٍ، وهو أوسع علماً وأحفظ من يحيى بن أبي كثيرٍ لو اختلفا، لكنّ يحيى ذكر أنّه سأل أبا سلمة عن الأولى فأخبر جابرٌ بعلمه، ولم يكن علم ما نزل قبل ذلك، وعائشة أثبتت وبيّنت.
والآيات - آيات {اقرأ} و {المدّثّر} - تبيّن ذلك، والحديثان متصادقان مع القرآن , ومع دلالة العقل على أنّ هذا الترتيب هو المناسب). [مجموع الفتاوى لابن تيمية].
القول الثالث: أن أول ما نزل هو سورة الفاتحة.
وقد استدل أصحاب هذا الرأي بما رواه البيهقي في الدلائل بسنده عن ميسرة عمر بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: ((إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء فقد والله خشيت على نفسي أن يكون هذا أمرا)) . قالت: معاذ الله ما كان الله ليفعل بك إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث. فلما دخل أبو بكر ذكرت خديجة حديثه له وقالت: اذهب مع محمد إلى ورقة. فانطلقا فقصا عليه فقال: ((إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأفق)) . فقال: لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى ما يقول. ثم ائتني فأخبرني. فلما خلا ناداه: يا محمد قل:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . حتى بلغ {وَلا الضَّالِّينَ}
توجيه العلماء لهذه الرواية:
أولا: مذهب الجمع بينه وبين حديث عائشة:
قال القاضي أبو بكر في "الانتصار": (وهذا الخبر منقطع وطريق الجمع بين الأقاويل أن أول ما نزل من الآيات {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} الآية [العلق: 1] وأول ما نزل من أوامر التبليغ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر: 1] وأول ما نزل من السور سورة الفاتحة). ذكره الزركشي
وقال البيهقي: (هذا منقطع وإن كان محفوظاً فيحتمل أن يكون خبراً عن نزولها بعد ما نزلت عليه (اقرأ) و(المدثر) قلت: وإن صح أخذ منه أنها من أوائل ما نزل كما لا يخفى). ذكره السيوطي في التحبير.
ثانيا: مذهب الترجيح
قال الزرقاني: (هذا الحديث لا يصلح للاحتجاج به على أولية ما نزل مطلقا وذلك من وجهين:
أحدهما: أنه لا يفهم من هذه الرواية أن الفاتحة التي سمعها الرسول كانت في فجر النبوة أول عهده بالوحي الجلي وهو في غار حراء بل يفهم منها أن الفاتحة كانت بعد ذلك العهد وبعد أن أتى الرسول إلى ورقة وبعد أن سمع النداء من خلفه غير مرة وبعد أن أشار عليه ورقة أن يثبت عند هذا النداء حتى يسمع ما يلقى إليه.
الثاني: أن هذا الحديث مرسل سقط من سنده الصحابي فلا يقوى على معارضة حديث عائشة السابق في بدء الوحي وهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فبطل إذا هذا الرأي الثالث وثبت الأول أيضا.
القول الرابع: أن أول ما نزل البسملة
دليله: واستدل قائلوه بما أخرجه الواحدي بسنده عن عكرمة والحسن قالا: أول ما نزل من القرآن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وأول سورة اقْرَأْ.
وأخرج ابن جرير وغيره من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: (أول ما نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد استعذ ثم قل: {بسم الله الرحمن الرحيم}).
توجيه العلماء لهذه الرواية:
هذا الاستدلال مردود من ناحيتين أيضا:
الأولى: أن الحديث مرسل كسابقه فلا يناهض المرفوع. ذكره الزرقاني
الثانية: أن البسملة كانت بطبيعة الحال تنزل صدرا لكل سورة إلا ما استثني. إذن فهي نازلة مع ما نزل من صدر سورة (اقرأ) فلا يستقيم اعتبار الأولية في نزولها قولا مستقلا برأسه). ذكره السيوطي والزرقاني
5: العتاق الأُوَل
● من أوائل ما أنزل بمكة: الإسراء والكهف وطه.
عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (إنهن من تلادي من العتاق الأول) رواه البخاريّ.
ذكره السيوطي في التحبير.
6: أوائل مخصوصة
● أول ما نزل بالمدينة
القول الأول: سورة المطففين
- عن علي بن الحسين بن واقد قال: حدثني أبي قال: سمعت علي بن الحسين يقول: (أول سورة نزلت بالمدينة: {ويل للمطففين}).
ذكره الواحدي في أسباب النزول، والبلقيني في مواقع العلوم وقال: مرسل بغير إسناد.
القول الثاني: سورة البقرة
قال عكرمة: (أول سورة نزلت بالمدينة سورة البقرة).
ذكره البلقيني وقال: مرسل بغير إسناد.
قال السيوطي: (أما مرسل فصحيح، وأما بلا إسناد فقد تقدم مسنداً عن عكرمة والحسن أن أول ما نزل بها: {ويل للمطففين}[المطففين: 1]، ثم {البقرة} بل وعن ابن عباس فانتفى إرساله أيضاً).
- عن أمية الأزدي عن جابر بن زيد وهو من علماء التابعين بالقرآن، قال: (أول ما أنزل الله على محمد – صلى الله عليه وسلم –من القرآن بمكة: (اقرأ) ثم: (ن) وسرد سائر السور المتقدمة في النوع الأول عن عكرمة [...] ثم {ويل للمطففين}؛ فذاك ما نزل بمكة، ثم قال: وأنزل بالمدينة سورة البقرة فذكر سائر السور كما تقدم)، رواه أبو داوود. ذكره السيوطي في التحبير.
القول الثالث: سورة القدر.
وفي "تفسير النسفي" عن الواقدي: (إن أول سورة نزلت بالمدينة سورة القدر). ذكره السيوطي في الإتقان.
● أول سورة معلنة بمكة
- علي بن الحسين: (وأول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة النجم). رواه الواحدي في أسباب النزول، ونقله عنه السيوطي في الإتقان.
● أول ما نزل في الأطعمة
- أول آية نزلت في الأطعمة بمكة: آية الأنعام: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما} الآية [الأنعام: 145]، ثم آية النحل: {فكلوا مما رزقكم الله} الآية [النحل: 114] إلى آخرها،
- وبالمدينة آية البقرة: {إنما حرم عليكم الميتة} الآية [البقرة: 173]، ثم آية المائدة {حرمت عليكم الميتة} الآية [المائدة: 3].
قاله ابن الحصار، وذكره السيوطي في الإتقان.
● أول ما نزل في الخمر
- عن ابن عمر قال: (نزل في الخمر ثلاث آيات فأول شيء:{يسألونك عن الخمر والميسر}الآية [البقرة: 219]
فقيل: حرمت الخمر، فقالوا: (يا رسول الله دعنا ننتفع بها كما قال الله فسكت عنهم، ثم نزلت هذه الآية: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}الآية [النساء: 43] فقيل: حرمت الخمر فقالوا: يا رسول الله لا نشربها قرب الصلاة فسكت عنهم، ثم نزلت:{يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر}الآية [المائدة: 90] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((حرمت الخمر))). رواه الطيالسي في مسنده، وذكره السيوطي في الإتقان والزرقاني في المناهل.
● أول ما أنزل في القتال
- عن معمر، عن الزهري، قال: أول آية أنزلت في القتال: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} الآية، ثم ذكر القتال في آي كثير). رواه أبو عبيد في فضائل القرآن.
- عن ابن عباس: (أول آية أنزلت فيه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ}الآية [الحج: 39])). رواه الحاكم في المستدرك، ذكره الزركشي.
- أول آية نزلت في القتال مطلقاً: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} الآية [الحج: 39]. رواه الحاكم وغيره عن ابن عباس. ذكره السيوطي في التحبير وفي الإتقان.
- أول آية أنزلت في الإذن بالقتال قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الآية [التوبة: 111]. رواه الحاكم في الإكليل. ذكره الزركشي في البرهان والسيوطي في الإتقان
- أول آية نزلت فيه بالمدينة: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم}[البقرة: 190] حكاه ابن جرير عن أبي العالية.ذكره السيوطي في التحبير وفي الإتقان. وذكره الزرقاني في المناهل.
● أول ما نزل في شأن القتل
أول ما نزل في شأن القتل آية الإسراء: {ومن قتل مظلوما} الآية [الإسراء: 33] أخرجه ابن جرير عن الضحاك). ذكره السيوطي في الإتقان.
● أول سورة أنزلت فيها سجدة
- عن ابن مسعود قال: (أول سورة أنزلت فيها سجدة النجم)، رواه البخاري. ذكره السيوطي في الإتقان.
● أول ما أنزل من سورة آل عمران
- عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير، قال: أول ما نزل من آل عمران: {هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين} الآية [آل عمران: 138]، ثم أنزلت بقيتها يوم أحد).أخرجه ابن أشته من طريق سفيان وغيره، ذكره السيوطي في الإتقان.
● أول ما أنزل من سورة براءة
القول الأول:
- وعن ابن عباس رحمه الله: أول شيء نزل من سورة التوبة {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة} ثم أنزلت السورة كلها بعد ذلك، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وتلك آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم). ذكره السخاوي في جمال القراء.
- عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة} الآية [التوبة: 25] قال: (هي أول ما أنزل الله من سورة براءة).رواه الفريابي، وذكره السيوطي في الإتقان.
القول الثاني:
- عن مسروق عن أبي الضحى، قال: أول ما نزل من براءة {انفروا خفافا وثقالا} الآية [التوبة: 41]، ثم نزل أولها ثم نزل آخرها. رواه الفريابي.
- عن أبي مالك، قال: كان أول براءة {انفروا خفافا وثقالا} الآية [التوبة: 41] سنوات، ثم أنزلت براءة أول السورة فألفت بها أربعون آية. أخرجه ابن أشته في كتاب المصاحف.
- عن داود عن عامر في قوله: {انفروا خفافا وثقالا} الآية [التوبة: 41] قال: (هي أول آية نزلت في براءة في غزوة تبوك فلما رجع من تبوك نزلت براءة إلا ثمان وثلاثين آية من أولها). أخرجه ابن أشته في كتاب المصاحف.
ذكره السيوطي في الإتقان.
7: إشكال وجوابه
ورد في أول ما نزل حديث آخر روى الشيخان عن عائشة قالت: (إن أول ما نزل سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام)
وقد استشكل هذا بأن أول ما نزل اقرأ، وليس فيها ذكر الجنة والنار.
الجواب: (من) مقدره أي: من أول ما نزل والمراد: سورة المدثر فإنها أول ما نزل بعد فترة الوحي وفي آخرها ذكر الجنة والنار، فلعل آخرها نزل قبل نزول بقية اقرأ). ذكره السيوطي في الإتقان.