قولُه: (ثُمَّ إنَّهُ بِسَبَبِ تَطَرُّفِ هَؤُلاَءِ وَضَلالِهِم دَخَلَتِ الرَّافضةُ الإماميَّةُ ثُمَّ الفَلاَسِفَةُ ثُمَّ القَرَامِطَةُ وَغَيْرُهُم فِيمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذلِكَ، وَتَفَاقَمَ الأَمْرُ في الفَلاَسِفَةِ وَالقَرَامِطَةِ وَالرَّافضةِ؛ فَإِنَّهُم فَسَّرُوا القُرْآنَ بِأَنْواعٍ لاَ يَقْضِي مِنْهَا العَالِمُ عَجَبًا، فَتَفْسِيرُ الرَّافِضَةِ كَقَوْلِهِم: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب ٍ} وَهُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ! و: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك} أَيْ: بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ فِي الْخِلاَفَةِ !{إِِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } هِيَ عَائِشَةُ! وَ: {قَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} طَلْحَةُ وَالزُّبيرُ! و: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ } عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ، و َ: {اللُّؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ! .{ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ } فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. و :{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } عليُّ بنُ أبي طالبٍ. و: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} ، هُوَ عَلِيٌّ، وَيَذْكُرُونَ الْحَدِيثَ الْمَوْضُوعَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ تَصَدُّقُه بِخَاتَمِهِ فِي الصَّلاةِ، وكذلك قولُهُ: {أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} ، نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ لمَّا أُصِيبَ بِحَمْزَةََ).
هذه التفسيراتُ المنكَرَةُ لا تُوجدُ في مثلِ كتابِ " مَجمعِ البيانِ " لأنها لو وُجِدَتْ لاستَنكَرَها أهلُ السُّنةِ، وإن كانت منها بعضُ الأشياءِ القليلةِ، لكن مثلُ هذه التفسيراتِ تجِدُها في كُتُبِهم الأخرى التي اعتمَدوا عليها في التفسيرِ.
وشيخُ الإسلامِ هنا ينَبِّهُ إلى أنَّ المعتزلةَ كان لَهم أَثرٌ كبيرٌ جدًّا فيمَن جاءَ بعدَهم؛ لأنَّهم اعتمَدوا مبدأَ التأويلِ فصاروا يأوِّلون كلامَ اللَّهِ سبحانه وتعالى على حسَبِ ما يعتقدون.
وقد دخلَ مِن هذا البابِ - بابِ التأويلِ - الرافضةُ الإماميةُ أو الفلاسفةُ أو القرامطةُ، ووسَّعُوا دائرةَ التأويلِ والأخذِ بالمجازِ, وتوسيعُ هذه الدائرةِ بهذا الأسلوبِ يُجيزُ لكلِّ أحدٍ أن يفسِّرَ القرآنَ بما يشاءُ من غيرِ ضابِطٍ.
فإذا كان المقصودُ بـ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} أبا بكرٍ وعُمرَ فعلَى أيِّ شيءٍ يَرجِعُ الضَّمِيرُ في قولِه: {ما أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ ومَا كَسَبَ}؟! تأويلاتٌ غريبةٌ يتعجَّبُ منها الإنسانُ ولا ينقضي عَجَبُه فهي لا تَلتَئِمُ إطلاقًا مع السياقِ ولا يَقبَلُها عاقلٌ، وإنما يَقبَلُها الجُهَّالُ من أصحابِها، لا شكَّ أنَّ هذا افتراءٌ على اللَّهِ سبحانه وتعالى.
والفلاسفةُ أيضًا اعتَمَدوا على مبدأِ التأويلِ الذي قال به المعتزلةُ وقال به الأشاعرةُ وأوَّلُوا حتى نصوصَ المَعادِ، فما جَعلوا شيئًا في الشريعةِ من بابِ الحقائِقِ، فصارت الشريعةُ كُلُّها من بابِ المجازاتِ عندَهم؛ ولهذا يَرَوْنَ أنه لا تُوجدُ جنَّةٌ ولا نارٌ، وإنما أَخْبَرَ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بذلك من بابِ المجازِ، وليس له وجودٌ في الحقيقةِ.
والمقصودُ أنَّ هذه الطوائفَ دَخلَتْ من هذا البابِ الذي اعتمَدَه المعتزلةُ وهو بابُ التأويلِ، وإذا انفتحَ بابُ التأويلِ الفاسِدِ فإنَّ الشريعةَ لا يبقى منها شيءٌ، فكلٌّ يقولُ ما شاءَ ويجعلُه من بابِ التأويلِ، ويَقْلِبُ به حقائقَ الشريعةِ.
قولُه: (ومِمَّا يُقارِبُ هَذَا مِنْ بَعْضِ الوُجُوهِ مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِن الْمُفسِّرِينَ في مِثْلِ قولِهِ: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} : إنَّ الصَّابرين رَسُولُ اللَّهِ، وَالصَّادِقِينَ أَبُو بَكْرٍ، وَالقَانِتِينَ عُمَرُ، وَالْمُنفِقِينَ عُثْمَانُ، وَالْمُسْتَغْفِرِينَ عليٌّ.
وَفِي مِثْلِ قَولِهِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ }: أَبُو بَكْرٍ , {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}: عُمَرُ، {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}: عُثمانُ، {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّدًا }: عليٌّ .
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِِهِم: {وَالتِّينِ}: أَبُو بَكْرٍ، {وَالزَّيْتُونِ} : عُمَرُ، {وَطُورِ سِينِينَ}: عُثْمَانُ , { وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ }: عليٌّ .
وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ تَارَةً تَفْسِيرَ اللَّفْظِ بِمَا لاَ يَدُلُّ عَليْهِ بِحَالٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الأَلْفَاظََ لاَ تَدُلُّ عَلَى هَؤُلاَءِ الأَشْخَاصِ ِبحالٍ، وَقَوْلُُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا }. كُلُّ ذَلِكَ نَعْتٌ لِلَّذِينَ مَعَهُ، وَهِيَ الَّتِي يُسَمِّيها النُّحَاةُ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا أنَّهَا كُلَّهَا صِفَاتٌ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍٍٍِ وَهُم الَّذِين مَعَهُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا مُرَادًا بِهِ شَخْصٌ وَاحِدٌ).
هنا يُلاحِظُ المصنِّفُ أنَّ هذه التفسيراتِ التي قطَّعتِ الآيةَ، وجعلَتْ كلَّ واحدٍ من الأوصافِ المذكورةِ فيها مُرادًا به شخصٌ بعينِه، أنَّ هذا تحكُّمٌ من غيرِ دليلٍ، ولكن لو أنَّ مفسِّرًا قال: {والَّذِين مَعَهُ أَشدَّاءُ على الكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُم} الآيةَ كلَّها، قال: أبو بكرٍ، فإنَّ هذا التفسيرَ يُقبَلُ منه على أنه مثالٌ، ولكن لو قال: إنه أبو بكرٍ على سبيلِ التخصيصِ، فإنه يُقالُ له: أين دليلُ التخصيصِ؟
فيُقبلُ هذا التفسيرُ إذا كان من بابِ المثالِ، ولا يُقبلُ إذا كان مِن بابِ التخصيصِ، والفرقُ بينَهما ظاهِرٌ .
قولُه: (وَتَتَضَمَّنُ تَارَةً جَعْلَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ العَامِّ مُنْحَصِرًا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ , كَقَوْلِهِم: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } أُرِيدَ بِهَا عَلِيٌّ وَحْدَهُ. وَقَوْلِ بَعْضِهِم: إِنَّ قَوْلَهُ: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } أُرِيدَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَحْدَهُ.
وَقَوْلَهُ: { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } أُرِيدَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَحْدَهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ).
المصنِّفُ هنا يريدُ أن يُنَبِّهَ على أنَّ هذا التخصيصَ ليس صحيحًا، لكن لو ذُكِرَت على سبيلِ المثالِ لجازَ ذلك، يقولُ بعضُ المفسِّرينَ يقولُ: إنما أُريدَ به عليٌّ وحدَه أو أبو بكرٍ وحدَه، فهذا تخصيصٌ ليس عليه دليلٌ، وإنما هو راجعٌ إلى التفسيرِ بالمثالِ.