تفسير سورة الشرح - مكية
لابن كثير والسعدي والأشقر رحمهم الله
تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)}
المسائل التفسيرية:
-معنى الاستفهام في قوله : (ألم نشرح لك صدرك).
-المراد بالشرح في الآية .
-الأقوال في معنى الوزر.
-معنى الإنقاض في قوله (الذي أنقض ظهرك).
-معنى قوله (ورفعنا لك ذكرك).
-صور رفع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
-معنى قوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)) وذكر (مع) يدل على المقارنة والمصاحبة.
-سبب تكرار الآية.
-فائدة تنكير لفظ (يسرا) وتعريف لفظ (العسر)
-معنى قوله تعالى (فإذا فرغت فانصب).
-أمثله لما يفرغ منه وينصب فيه من الأعمال.
-معنى قوله (وإلى ربك فارغب)
تفسير قوله تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) )
-معنى الاستفهام : تقريري يعني: أما شرحنا لك صدرك؟ .
-معنى الشرح المعنوي:
نوّرنا صدرك يامحمد وجعلناه فسيحاً رحيباً واسعاً وسعناهُ لشرائعِ الدينِ والدعوةِ إلى اللهِ، والاتصافِ بمكارمِ الأخلاقِ، والإقبالِ على الآخرةِ، وتسهيلِ الخيراتِ .
وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحاً واسعاً سمحاً سهلاً، لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق. } أي: ، فلمْ يكنْ ضيقاً حرجاً لا يكادُ ينقادُ لخيرٍ، ولا تكادُ تجدهُ منبسطاً.
في هذا الشرح المعنوي إشارة إلى الشرح الحسي فقد قيل المراد بقوله: {ألم نشرح لك صدرك} المعنى الحسي: شرح صدره ليلة الإسراء ولكن لا منافاة؛ فإنّ من جملة شرح صدره الذي فعل بصدره ليلة الإسراء، وما نشأ عنه من الشرح المعنويّ أيضاً. والله أعلم.
عن أبيّ بن كعبٍ: أن أبا هريرة كان حريًّا على أن يسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أشياء لا يسأله عنها غيره، فقال: يا رسول الله، ما أوّل ما رأيت من أمر النّبوّة؟ فاستوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالساً.
وقال: ((لقد سألت يا أبا هريرة، إنّي لفي الصّحراء ابن عشر سنين وأشهرٍ، وإذا بكلامٍ فوق رأسي، وإذا رجلٌ يقول لرجلٍ: أهو هو؟ فاستقبلاني بوجوهٍ لم أرها لخلقٍ قطّ، وأرواحٍ لم أجدها من خلقٍ قطّ، وثيابٍ لم أرها على أحدٍ قطّ، فأقبلا إليّ يمشيان، حتّى أخذ كلّ واحدٍ منهما بعضدي، لا أجد لأحدهما مسًّا، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه. فأضجعاني بلا قصرٍ ولا هصرٍ، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره. فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دمٍ، ولا وجعٍ، فقال له: أخرج الغلّ والحسد. فأخرج شيئاً كهيئة العلقة، ثمّ نبذها فطرحها، فقال له: أدخل الرّأفة والرّحمة. فإذا مثل الّذي أخرج، شبه الفضّة، ثمّ هزّ إبهام رجلي اليمنى فقال: اغد واسلم. فرجعت بها أغدو رقّةً على الصّغير ورحمةً للكبير))
قوله تعالى: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2))
الأقوال في معنى الآية:
القول الأول أنه بمعنى: {ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر}أي: ذنبكَ.
القول الثاني: حَطَطْنَا عَنْكَ الَّذِي سَلَفَ مِنْكَ فِي الجاهليّة.
القول الثالث: الوِزْرُ حَمْلُ أعباءِ النُّبُوَّةِ، سَهَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى تَيَسَّرَتْ لَهُ
تفسير قوله تعالى: (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3))
معنى الإنقاض: الصوت.
وقال غير واحدٍ من السلف في قوله: {الّذي أنقض ظهرك} أي: أثقلك حمله.
تفسير قوله تعالى: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4))
أعلينَا قدركَ، وجعلنَا لكَ الثناءَ الحسنَ العالي، الذي لمْ يصلْ إليهِ أحدٌ منَ الخلقِ.
-صور رفع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم:
1-وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيبٌ، ولا متشهّدٌ، ولا صاحب صلاةٍ إلاّ ينادي بها: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمداً رسول الله.
قال مجاهدٌ: لا أذكر إلاّ ذكرت معي: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمداً رسول الله.
عن أبي سعيدٍ، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: ((أتاني جبريل فقال: إنّ ربّي وربّك يقول: كيف رفعت ذكرك؟ قال: الله أعلم. قال: إذا ذكرت ذكرت معي)).
وقال آخرون: رفع الله ذكره في الأوّلين والآخرين، ونوّه به حين أخذ الميثاق على جميع النبيّين أن يؤمنوا به، وأن يأمروا أممهم بالإيمان به، ثمّ شهر ذكره في أمّته، فلا يذكر الله إلاّ ذكر معه.
2-أمر الله لأمته بطاعته , والصلاة والسلام عليه.
تفسير قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6))
بشارةٌ عظيمةٌ، أنَّهُ كلما وجدَ عسرٌ وصعوبةٌ، فإنَّ اليسرَ يقارنُهُ ويصاحبهُ، حتى لو دخلَ العسرُ جحرَ ضبٍّ لدخلَ عليهِ اليسرُ فأخرجهُ، كمَا قالَ تعالى:{سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} وكمَا قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:((وإنَّ الفرجَ معَ الكربِ، وإنَّ معَ العسرِ يسراً))
.-سبب تكرار الآية : أخبر تعالى أنّ مع العسر يوجد اليسر، ثمّ أكّد هذا الخبر.
-فائدة تنكير اليسر وتعريف العسر:
وقال سعيدٌ، عن قتادة: ذكر لنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشّر أصحابه بهذه الآية، فقال: ((لن يغلب عسرٌ يسرين)).
ومعنى هذا: أن العسر معرّفٌ في الحالين؛ فهو مفردٌ , واليسر منكّرٌ فتعدّد، ولهذا قال: ((لن يغلب عسرٌ يسرين)) يعني: قوله: {فإنّ مع العسر يسراً إنّ مع العسر يسراً} فالعسر الأوّل هو الثاني، واليسر تعدّد.
-وفي تعريفهِ بالألفِ واللامِ، الدالةِ على الاستغراقِ والعمومِ، ما يدلُّ على أنَّ كلَّ عسرٍ - وإنْ بلغَ منَ الصعوبةِ مَا بلغَ - فإنهُ في آخرهِ التيسيرُ ملازمٌ لهُ.
تفسير قوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7))
والمعنى إذا فرغتَ من عملٍ أن تَنْصَبَ في عملٍ آخرَ من أعمالِ الخير.
أمثلة لما يفرغ منه وينصب فيه:
1-إذا فرغت من أمور الدّنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب في العبادة، وقم إليها نشيطاً فارغ البال، وأخلص لربّك النيّة والرغبة.
ومن هذا القبيل قوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتّفق على صحّته: ((لا صلاة بحضرة طعامٍ، ولا وهو يدافعه الأخبثان)). وقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((إذا أقيمت الصّلاة وحضر العشاء فابدؤوا بالعشاء))
قال مجاهدٌ في هذه الآية: إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة فانصب لربّك.
وفي روايةٍ عنه: إذا قمت إلى الصلاة فانصب في حاجتك.
2- وعن ابن مسعودٍ: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام اللّيل.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {فإذا فرغت فانصب} يعني: في الدعاء.
3-وقال زيد بن أسلم والضحّاك: {فإذا فرغت} أي: من الجهاد {فانصب} أي: في العبادة.
4-فَإِذَا فَرَغْتَ منَ الصلاةِ وأكملتهَا فَانْصَبْ في الدعاءِ .
واستدلَّ مَنْ قالَ بهذا القولِ، على مشروعيةِ الدعاءِ والذكرِ عقبَ الصلواتِ المكتوباتِ، واللهُ أعلمُ بذلكَ.
5-أَيْ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ التبليغِ، أَوْ مِنَ الغَزْوِ؛ فَاجْتَهِدْ فِي الدُّعَاءِ، وَاطْلُبْ من اللَّهِ حَاجَتَكَ، أَوْ: فَانْصَبْ فِي العبادةِ.
تفسير قوله تعالى: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8))
المعنى : أخلص لربّك النيّة والرغبة.قال الثّوريّ: اجعل نيّتك ورغبتك إلى الله عزّ وجل
و أعظم الرغبةَ في إجابةِ دعائكَ وقبولِ عباداتِكَ، ولا تكنْ ممن إذا فرغوا وتفرغوا لعبوا وأعرضوا عن ربِّهمْ وعن ذكرهِ، فتكونَ من الخاسرينَ.