العقد الخامس
ما يرجع إلى مباحث المعاني المتعلقة بالأحكام، وهو أربعة عشر نوعاً
النوع الأول: العام الباقي على عمومه
العام: هو ما عم شيئين فصاعداً، من غير حصر، وضده الخاص، وهو: ما لا يتناول شيئين فصاعدا من غير حصر (وعز) أي: العام الباقي على عمومه، إذ ما من عام إلا وخص (إلا قوله) تعالى (والله بكل شيء أي عليم)، فإنه باق على عمومه، إذ الشيء عام غير مخصوص: فالله سبحانه وتعالى عليم بكل شيء: من الكليات والجزئيات (ذا هو) أي هذا هو العام الباقي على عمومه، (وقوله) بالنصب، عطفاً على قوله المتقدم (خلقكم من نفس واحدة، فخذه دون لبس) أي فإن الخطاب بقوله خلقكم لجميع البشر، وكلهم من ذرية آدم بلا تخصيص، ثم ظاهر كلام الناظم حصر العام الباقي على عمومه في هذين فقط تبعاً للنقاية إذ قال فيها: ولم يوجد لذلك مثال، مما لا يتخيل فيه تخصيص، إلا قوله تعالى، وذكر الآيتين، وليس كذلك، فإن الأصوليين ذكروا أمثلة لهذا العام غير ما ذكر، بل السيوطي نفسه نقل في الإتقان عن الزركشي آيات، عمومها لم يخص، منها قوله تعالى: {إن الله لا يظلم الناس شيئا}. ومنها قوله تعالى: {ولا يظلم ربك أحداً}. ومنها قوله تعالى: {الله الذي جعل لكم الأرض قراراً}.
فإن قيل: إن هذه الآيات في غير الأحكام الفرعية، ومراد الناظم بالحصر المذكور، آيات الأحكام الفرعية، قلنا: ما ذكره في النظم أيضاً ليس منها، وأما هي كما استخرجها في الإتقان، فقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم ...} الآية، فإنه لا تخصيص فيها، والله أعلم.
النوع الثاني والثالث: العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص (وأول) أي العام المخصوص (شاع) أي: كثر (لمن أقاسا) بألف الإطلاق أي: تتبع، وذلك كتخصيص قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} أي: الحامل، والآيسة، والصغيرة، بقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ...} الآية، وبقوله تعالى: {واللائي يئسن ...} الآية. (والثان) أي: العام الذي أريد به الخصوص (نحو) قوله تعالى: (يحسدون الناس) أي النبي صلى الله عليه وسلم، لجمعه ما في الناس من الخصال الحميدة، ونحو قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ...} الآية، والمراد بالناس الأول نعيم بن مسعود الأشجعي، لقيامه مقام كثير في تثبيط المؤمنين عن الخروج بما قاله، وبالناس الثاني: أبو سفيان، لقيامه مقام كثير أيضاً في تحريض الكفار على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أراد الناظم أن يفرق بين العامين المذكورين، بثلاثة أمور، أشار لأولها بقوله (وأول) أي: العام المخصوص (حقيقة) لأنه إنما استعمل فيما وضع له، ثم خص منه البعض بمخصص.
(والثاني) أي العام الذي أريد به الخصوص: (مجاز) لأنه استعمل ابتداء في بعض ما وضع له، وهذا البعض غير الموضوع له، (الفرق) المذكور ظاهر (لمن يعاني) أي يعتني به، وأشار إلى ثانيهما بقوله (قرينة الثاني) أي: العام الذي أريد به الخصوص.
(ترى عقليه) إذ هي حالية مثلاً (وأول) أي: العام المخصوص، أي قرينته (قطعا) أي جزماً (ترى لفظيه) وذلك كالاستثناء والشرط، والصفة، وغيرها من المخصصات المتصلة والمنفصلة، وأشار إلى ثالثها بقوله (والثان) بحذف الياء للوزن، وهو العام المراد به الخصوص (جاز) بلا خلاف (أن يراد) به الفرد (الواحد) فقوله (فيه) أي: به، متعلق بيراد، (وأول) وهو العام المخصوص (لهذا) الجواز المذكور (فاقد) أي: فلا يجوز فيه قصر العام على فرد واحد من أفراده، جوازاً متفقاً عليه، بل على خلاف، والأصح، كما في اللب وغيره: جوازه، إلى أن يبقى أقل الجمع إن كان جمعاً، والى واحد إن كان مفرداً – والله أعلم.
النوع الرابع: ما خص منه، أي من الكتاب، بالسنة
(تخصيصه) أي الكتاب (بسنة) صحيحة أو ما هو بمنزلتها (قد وقعا) بألف الإطلاق، أي وقع وقوعاً كثيراً، وذلك كتخصيص قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم} بحديث ((أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال)) رواه الحاكم وابن ماجه، من حديث ابن عمر مرفوعاً، وكتخصيص آيات المواريث بغير القاتل، والمخالف في الدين، المأخوذ من الأحاديث الصحيحة، إذا عرفت ذلك (فلا تمل) بفتح التاء، وكسر الميم، من الميل (لقول من قد منعا) بألف الإطلاق، كأبي حنيفة وغيره، مستدلين بأن الكتاب قطعي، والسنة ظنية، والقطعي لا يخصص بالظني، كما أنه لا ينسخ به، إذ التخصيص نسخ الحكم عن بعض الأفراد، ويجاب بأن النسخ أشد من التخصيص، إذ هو رفع الحكم عن المحكوم به، رأساً، بخلاف التخصيص، فإنه قصر الحكم على البعض، وبأن محل التخصيص إنما هو دلالته لا متنه وثبوته، ودلالة العام على كل فرد بخصوصه ظنية، بخلاف ثبوت ذلك العام ومتنه في القرآن، فإنه قطعي، وليس الكلام فيه.
ثم قال: (آحادها) أي السنة (وغيرها) أي الآحاد (سواء) أي: مستوفى جواز تخصيص الكتاب بها؛ فإذا علمت ذلك (فبـ) حديث (العرايا)، وهو ما رواه الشيخان، أنه صلى الله عليه وسلم رخص بيع العرايا، والعرايا: هو بيع تمر برطب، فيما دون خمسة أوسق، قد (خصت الرباء) أي: آية الربا، وهي قوله تعالى: {وحرم الربا ...} الآية، فإنها شاملة للعرايا ولغيرها، فأخرج العرايا من التحريم، بالحديث المذكور، وهو آحاد. والله أعلم.
النوع الخامس: ما خص به من السنة
(وعز) أي قل (لم يوجد) تخصيص السنة بالكتاب (سوى أربعة) من الآيات، قد خص بها أربعة أحاديث، وذلك (كآية الأصواف) في سورة النحل، عند قوله تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين ...} الآية.
(أو) هي بمعنى الواو (كـ) آية (الجزية) في سورة التوبة، عند قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون ...} إلى قوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عند يد وهم صاغرون}.
(و) آية (الصلوات حافظوا عليها) في سورة البقرة، عند قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (و) آية (العاملين) في سورة التوبة، عند قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء ...} إلى قوله: {والعاملين عليها}، وقوله (ضمها) أي آية العاملين (إليها) أي: إلى الثلاث المتقدمة، تكملة، ثم بين الأحاديث المخصصة بتلك الآيات فقال: (حديث ما أبين) من حي فهو ميت. رواه الحاكم، عن أبي سعيد، وصححه على شرط الشيخين (في أولاها) أي: أولى الآيات، وهي آية الأصواف (خص) أي: عموم ذلك الحديث، فإنه دال على أن ما انفصل من حي، فحكمه حكم الميت، سواء كان صوفاً أو وبراً أو غيرهما، بآية الأصواف الدالة على طهارة الصوف والوبر، وإن انفصلا من حي (وأيضاً) أي: وكما خص ذلك (خص) بالبناء للفاعل (ما تلاها) أي: تلا الآية الأولى، وهي آية الجزية (لقوله) صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتلا) بألف الإطلاق (من لم يكن لما أردت) من النطق بالشهادتين (قابلا) وناطقاً بهما، وذلك ما رواه الشيخان، من قوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله))، فإنه عام شامل لمن أعطى الجزية ومن لم يعطها، فخص بالآية المتقدمة، الدالة على عدم جواز مقاتلة من أعطى الجزية (وخصت الباقية) من الآيتين، وهما آية حافظوا على الصلوات، وآية العاملين (النهي) بالنصب مفعول به (عن حل الصلاة): راجع لآية حافظوا، (والزكاة للغني) راجع لآية العاملين، والمعنى: أن قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات} مخصصة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في الأوقات المكروهة، المروي في الصحيحين وغيرهما، فإنه عام للصلوات المكتوبة وغيرها، فخصته الآية في غيرها، وأما هي فمأمور بمحافظتها مطلقاً، وأن قوله تعالى: {والعاملين عليها} مخصصة لنهيه صلى الله عليه وسلم عن إعطاء الزكاة للغنى، وهو كما رواه النسائي وغيره بلفظ: ((لا تحل الصدقة للغني)) فإنه عام شامل للعاملين وغيرهم. فخصته الآية بغيرهم فقط، أما هؤلاء فيحل لهم أخذها، لأنها أجرة لهم. والله أعلم.