وَهَذَا دِينُ الْإِسْلاَمِ الَّذِي لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُطَاعَ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِذَا أَمَرَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ الصَّخْرَةِ ثُمَّ أَمَرَ ثَانِيًا بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، كَانَ كُلٌّ مِنَ الفِعْلَيْنِ حِينَ أَمَرَ بِهِ دَاخِلًا فِي دِينِ الْإِسْلاَمِ، فَالدِّينُ هُوَ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ لَهُ فِي الْفِعْلَيْنِ، وَإِنَّمَا تَنَوَّعَ بَعْضُ صُوَرِ الْفِعْلِ وَهُوَ وِجْهَةُ الْمُصَلِّي، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ دِينُهمْ وَاحِدٌ، وَإِنْ تَنَوَّعَتِ الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ وَالْوِجْهَةُ وَالْمَنْسَكُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ وَاحِدًا، كَمَا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ فِي شِرْعَةِ الرَّسُولِ الْوَاحِدِ.
وَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ أَنَّ أَوَّلَهُمْ يُبَشِّرُ بِآخِرِهِمْ وَيُؤْمِنُ بِهِ، وَآخِرُهُمْ يُصَدِّقُ بِأَوَّلِهِمْ وَيُؤْمِنُ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ.
وَقَالَ تَعَالَى:( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا).
وَجَعَلَ الْإِيمَانَ بِهِمْ مُتَلاَزِمًا، وَكَفَّرَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ آمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ، قَالَ تَعَالَى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا)، وَقَالَ تَعَالَى: ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، وَقَدْ قَالَ لَنَا: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فَأَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ آمَنَّا بِهَذَا كُلِّه وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، فَمَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُقِرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَلاَ مُؤْمِنًا، بَلْ يَكُونُ كَافِرًا، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَوْ مُؤْمِنٌ.
كَمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالى: ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ) قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: فَنَحْنُ مُسْلِمُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) فَقَالُوا: لاَ نَحُجُّ فَقَالَ تَعَالَى: ( وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ).
فَإِنَّ الِاسْتِسْلاَمَ لِلَّهِ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِالْإِقْرَارِ بِمَا لَهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ حَجِّ الْبَيْتِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بُنِيَ الْإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ)؛ وَلِهَذَا لَمَّا وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِينًا).
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى وَعِيسَى هَلْ هُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ لاَ؟ وَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ، فَإِنَّ الْإِسْلاَمَ الْخَاصَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمُتَضَمِّنَ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ - لَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِسْلاَمُ الْيَوْمَ عِنْدَ الْإِطْلاَقِ يَتَنَاوَلُ هَذَا، وَأَمَّا الْإِسْلاَمُ الْعَامُّ، الْمُتَنَاوِلُ لِكُلِّ شَرِيعَةٍ بَعَثَ اللَّهُ بِهَا نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ - فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ إِسْلاَمَ كُلِّ أُمَّةٍ مُتَّبَعَةٍ لِنَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ.