شرح المسألة الثالثة: وهي الدعوة إليه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين أما بعد:
فهذا هو الدرس الثاني من دروس شرح ثلاثة الأصول وأدلتها ألقيه يوم الإثنين الحادي والعشرين من شهر جمادى الأولى من السنة الثانية والثلاثين بعد الأربعمائة والألف من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم .
وأبدؤها بشرح المسألة الثالثة: وهي الدعوة .
قال رحمه الله: (الثالثة : الدعوة إليه).
مرجع الضمير إلى العلم الذي عمل به.
أي إن مما يجب على العبد إذا علم وعمل أن يدعو إلى الهدى ودين الحق.
فضائل الدعوة إلى الله تعالى
• والدعوة إلى الله هي مهمة الرسل والأنبياء، والدعاة إلى الله تعالى على بصيرة هم وارثون للأنبياء متبعٌون لسبيلهم كما قال الله تعالى: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}، وقال تعالى: {وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ} وقال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}،
• وقد حث الله المؤمنين أن تنتدب منهم طائفة للدعوة إلى الخير فقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أسباب الفلاح ، والفلاح يطلق في اللغة في الأصل على البقاء
ومنه قول الشاعر:
لكـل هـم مـن الهـمـوم سـعـة.......والمسـي والإصبـاح لا فـلاح معـه
أي لا بقاء معه.
ثم كثر إطلاق هذا اللفظ على معنيين مشهورين:
المعنى الأول: الفوز بالمطلوب.
والمعنى الثاني: النجاة من المرهوب.
وهذه المعاني الثلاثة تجتمع في حق المؤمنين المتبعين لهدى الله عز وجل فإنهم ينالون مطلوبهم من فضل الله ورحمته وعظيم ثوابه، وينجون مما يخافون من عذاب الله وأليم عقابه، وهم باقون في النعيم المقيم الذي لا ينفد.
• وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
فجعل الله قول الداعي إليه أحسن القول.
• وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي يوم خيبر: (( انْفُذْ على رِسْلِكَ، حتى تنزلَ بساحتِهِم ، ثُمَّ ادْعُهم إِلى الإِسلامِ ، وَأخبِرهم بما يجبُ عليهم مِن حق الله عز وجل فيهم، فواللهِ لأن يهديَ الله بكَ رجلا واحدا خير لكَ من حُمْر النَّعَم)). متفق عليه.
وحمر النعم هي الإبل الحُمْر ، وهي كرام الإبل عند العرب، وأنفسها وأغلاها ثمناً، وسميت حُمْراً على عادة العرب في التوسع في التسميات وإلا فهي ليست حمراء اللون خالصةً ، وإنما تقاربه.
كما يقولون الإبل الصفر للتي يميل لونها إلى السواد.
والمقصود أن اهتداء رجل واحد على يديه خير له من هذه الإبل الكرام النفيسة، وهذا يفيد الداعي أن يجعل همته لما هو خير له عند ربه وأنفع، وأن يقدم الثواب الباقي على العاجل ولو أمكن أن يحصل هذا الثواب العاجل بطريقة قد يتأول فيه من لا يفقه الدعوة على النهج الصحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتريث ولا يستعجل مبادرتهم بالقتال بل يدعوهم رجاء أن يهديهم الله، فإذا أجابوا فقد عصموا دماءهم وأموالهم ودخلوا في دين الله وحرم على المسلمين قتالهم وأخذ غنائمهم، وإذا كانت الهمة للدعوة لا لأخذ الغنيمة والتشفي بقتال العدو كان القصد صالحاً ، وكان القائم على هذه الدعوة متسماً بالفقه الصحيح، فإن أبى أولئك المدعوون إلا القتال جاز قتالهم وكان المؤمنون موعودين بالنصر عليهم.
فإن خالفوا الهدي واستعجلوا القتال كان ذلك سبباً قد تحصل به الهزيمة فإن من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه.
• وعن أَبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أجْرِ فَاعِلِهِ )) رواه مسلم.
• وهذا يدلك على عظيم ثواب الدعوة، فرب كلمة يقولها المرء لا يلقي لها بالاً ينتفع بها غيره فيمتثلها وتخرجه من الظلمات إلى النور فيكون للداعي بها مثل أجر من دعاهم وأرشدهم.
• بل لو بلغ هذا المنتفع بدعوته غيره لكان للداعي الأول مثل أجره، وهكذا ما تسلسل به الأمر ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
• ولهذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم مثل أجر جميع من يعمل صالحاً من أمته لأنه هو الذي دلهم على هذه الأعمال الصالحة.
• وكذلك رواة الأحاديث الصحيحة التي بلغونا إياهاً ورووها لنا يكون لهم مثل أجور من دعوهم إلى الهدى.
• فانظروا إلى عظيم فضل الله لمن جعل نيته لله ، وقصد ثواب الله ، وابتغى وجه الله.
• وانظروا ماذا خسر من أراد بدعوته الرياء والسمعة ولم يرد إلا الحياة الدنيا.نعوذ بالله من الخذلان.
• وعن أَبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( مَنْ دَعَا إِلَى هُدَىً كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَه لاَ يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ أجُورِهمْ شَيئاً، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيئاً)) رواه مسلم.
• وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يقول: (( نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئاً ، فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى مِنْ سَامِعٍ )) . رواه الترمذي
• قال أبو سليمان الخطابي: (قوله: ((نضر الله)) معناه الدعاء له بالنضارة وهي النَّعمة والبهجة).
• ولذلك تجد الدعاة إلى الله من أشرح الناس صدراً، وأنضرهم ، وأبهجهم، فإنهم وإن ابتلوا ببعض ما يبتلي الله به عباده إلا أن قلوبهم في نعيم بمعرفة الله عز وجل والأنس به والاشتياق لرؤيته ونيل رضوانه الذي كتبه لأهل محبته وذكره، وهم في حياة طيبة ، قلوبهم مطمئنة بذكر الله، تغمرهم السكينة، ويجدون في قلوبهم حلاوة الإيمان، وبرد اليقين ، وعزة الطاعة ، فهم من أحسن الناس حياة على الحقيقة.
• حتى إنه ليقولُ قائلهم: (مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها ؟ محبةَ الله تعالى ومعرفَتَه وذكرَه)
• والداعي الذي يدركُ هذه الفضائل أحسنَ إدراك إنما هو الذي يقوم بما تقتضيه من الشروط والواجبات والآداب، وهي أمور يسيرة لمن يسرها الله تعالى له.
شروط الدعوة:
• فمن شروط الدعوة أن يكون الداعي على بصيرة فيما يدعو إليه ، وعلى بصيرة بصحة طريقة الدعوة ، وعلى بصيرة بحال المدعو فيدعوه بما يناسب حاله، فيأتسي بهدي النبي صل الله عليه وسلم في ذلك، ولا يحدث الناس بما لا تقبله أفهامهم من دقيق العلم، قال علي بن أبي طالب: (حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله).
• وعلى الداعي أن يراعي المصلحة الشرعية في الدعوة إلى الله؛ فإذا خشي السآمة على المدعوين أمسك حتى لا يُمِلَّهم، وإذا ترتب على إنكار المنكر مفسدة أعظم فإن الحكمة تقتضي عدم الإنكار.
• وهذا باب يتعلمه طالب العلم بتوسع فيما بعد في فقه الدعوة لكنني أحببت أن ألخص لكم أهم المسائل التي يذكرها أهل العلم في هذا الباب.
• لأن طلاب العلم عموماً وطلاب علم العقيدة على وجه الخصوص يحتاجون كثيراً إلى فقه مسائل الدعوة إلى الله.
آداب الدعوة
• من آداب الداعية في نفسه: أن يكون ممتثلاً ما يدعو إليه، ملتزماً تقوى الله تعالى ظاهراً وباطناً، متحلياً بمكارم الأخلاق مجتنباً مساوئها، فإن وقع في شيء من المعاصي والتقصير بادر إلى التوبة والاستغفار وإتباع السيئة الحسنة فإنها تمحوها.
• فالداعية ليس بمعصوم بل قد يقع في الذنوب والمعاصي، لكن يجب عليه أن يتوب إلى الله إذا وقع في شيء من تلك المعاصي حتى لو كانت كبيرة من الكبائر، فالتوبة تجب ما قبلها، والله تعالى يفرح بتوبة عبده، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}.
• فلا يمنعنه وقوعه في الذنب من مواصلة الدعوة.
• وقد أنشد بعض الصالحين:
لو لم يعظ في الناس مـن هـو مذنـب.......فمن يعظ العاصين بعد محمد
• قيل للحسن البصري: إن فلاناً لا يعظ ويقول: أخاف أن أقول ما لا أفعل، فقال الحسن: وأينا يفعل ما يقول، ود الشيطان أنه ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر.
• وقال مالك عن ربيعة: قال سعيد بن جبير: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر، قال مالك: وصدق! ومن ذا الذي ليس فيه شيء.
• قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
(فَكُلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف. وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف، وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية؛ فإنه لا حجة لهم فيها. والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف، وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه).ا.هـ.
وهو كلام صحيح مسدد، لأن الذي يتركُ المعروف ولا يأمر به عند وجوب الأمر به يكون قد ارتكب معصيتين، وكذلك الذي يفعل المنكر ولا ينكره قد وقع في معصيتين:
معصية فعل المنكر، ومعصية ترك الإنكار.
- لكنه إذا قام بالدعوة والإنكار كان ذلك سبباً معيناً له على امتثال ما يأمر به من المعروف وواجتناب ما ينهى عنه من المنكر، ولا سيما إذا تضرع لله تعالى أن ينجيه مما وقع فيه من المخالفة، وبذل أسباب الإقلاع عن الذنب، وأكثر من الاستغفار، فإنه يرجى له أن يوفق للتوبة النصوح.
- فالتقصير في العمل لا يبرر التقصير في الدعوة، وليس ذلك لأحد بعذر في ترك الدعوة إذا علم وجوبها عليه.
• ومن آداب الداعية في دعوته: أن يبدأ بالأهم، وأن يحدث الناس بما يناسب أفهامهم، ويستعملَ الحكمة في جميع أموره فيلين في موضع اللين، ويغلظ حين يحسن أن يغلظ، وإذا وعظ أحسن الموعظة واقتصد فيها فلا يكثر فيملهم ولا يجفو فيطول عليهم الأمد فتقسو قلوبهم، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا الموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا) متفق عليه.
• والدعوة لها مراتب بعضها مقدم على بعض فمن كانت تجدي معه الموعظة الحسنة لا يحسن أن يجادَل ، لأنه مستجيب منقاد للحق ليس لديه شبهة تمنعه من الانقياد له فهذا يذكَّر فتنفعُه الذكرى إن شاء الله كما قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}.
- وأما من كانت لديه شبهة تصده عن الحق فهذا ينتقل معه إلى مرتبة المجادلة بالتي هي أحسن.
- وأما الظالمون المعتدون الذين لا يليق بهم إلا الغلظة والشدة فيغلظ عليهم .
وكذلك بعض من يرتكب المنكرات ويجاهر بها ولا يستجيب للنصح الرفيق فمثل هذا يغلظ عليه إذا كان أهل الحق في موقف قوة، لأن ذلك من حسن السياسة الشرعية، ولأن الإغلاظ في موضعه من وسائل التربية الصحيحة إذا قام به من هو أهل لذلك.
والمقصود أن الدعوة لها مراتب لكل حال مرتبة تناسبها كما تدل على ذلك أدلة الشريعة.
ولا يقتضي أن تكون على التدرج مطلقاً ، بل قد يقدم تلك المراتب على بعض لمصلحة شرعية تقتضيه ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) فبدأ بالإنكار باليد وذلك حين يكون للإنسان ولاية أو وجاهة تخوله الإنكار باليد ولم يخش فتنة أكبر.
• وهذا الإنكار يختلف حاله ، فأحياناً يناسب أن يكون باللين والرفق ، وأحياناً يناسب أن يكون بالغلظة والشدة بحسب ما تقتضيه المصلحة الشرعية، وإن كان الغالب أن الرفق مقدم على الشدة، وهذا أصل أن الرفق مقدم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (الرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه). رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها.
• والمرجع في هذا هو اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أحياناً يحسن بالداعية أن يغلظ في الخطاب ليبين للمدعو شناعة ما أقدم عليه ، كما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمر في قصة صحيفة أهل الكتاب ، وكما أنكر على أسامة بن زيد في شفاعته في حد من حدود الله ، وكما أنكر عليه أيضاً قتله من قال لا إله إلا الله في المعركة حتى تمنى أسامة أنه لم يسلم إلا ذلك اليوم .
• وعامة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الغلظة في الإنكار تجده لبيان مراعاة حد من حدود الله ، وحرمة من حرماته ليزجر المدعو عن ذلك ويبين له عظم شان تلك القضية.
وغالب ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم هو استعمال الرفق واللين ولذلك فهو الأصل إلا حين تقتضي المصلحة الشرعية الغلظة والشدة، وهذا كما يجده الإنسان في تعامله مع أولاده ومن تحت يده من الصبيان ونحوهم فيجد أن بعض الأمور يناسب فيها الرفق واللين ، وبعض الأمور تقتضي الشدة والغلظة وعدم التهاون والتلطف معهم فيها ليميز أؤلئك الصبية أن بعض الأمور من الخطر عليهم اقترابها ، وليتربوا على مراعاة الحدود والحرمات.
لكن مما ينبغي التنبه له أن هذا الإغلاظ متضمن لمعنى الرحمة لأن سببه والداعي له نصحُ المنكر عليه وزجرُه عما يضرُّه في دينه، ولذلك لا يجوز أن يفضيَ به الإغلاظُ إلى السب والشتم وقولِ ما لا يجوز قوله، ولا يجوز له أن يكون قصده الإضرار بالمنكر عليه.
إلا في الإغلاظ للكفار والمنافقين كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
وهؤلاء إنما شرع الإغلاظ في حقهم لبغيهم طغيانهم ومشاقتهم لله ولرسوله، وإلا لو أنهم استجابوا لله ورسول لما جاز الإغلاظ عليهم كما قال الله تعالى في المنافقين: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}.
وما أحسن ما قاله بعض أهل العلم:
ولو أن فرعون لما طغـى.......وقال على الله إفكاً وزورا
أناب إلـى الله مستغفـراً.......لما وجد الله إلا غفـورا
• هذا خلاصة ما يتعلق بأحوال جواز الإغلاظ وهو مبني في أصله على الرحمة كما تقدم، وله تفصيل تدرسونه فيما بعد في فقه الدعوة إن شاء الله تعالى.
أنواع الدعوة:
• والدعوة لها أنواع منها: دعوة الكافر إلى الإسلام، ودعوة المسلم إلى مزيد من الهداية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم الشرعي، والنصيحة لكل مسلم كل ذلك من أنواع الدعوة إلى الله تعالى.
وسائل الدعوة:
• وينبغي للداعية أن يعتني بما ييسره الله له من وسائل الدعوة وهي كثيرة متنوعة ولله الحمد، وأوَّل ذلك أن يتمثل الداعية ما يدعو إليه فيكونَ إماماً يؤتم به ويقتدى به في الخير، ومن أكثر ما يؤثر في المتعلمين قيام المعلمين بما يقتضيه العلم، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس عملاً وخير الناس دعوة كما كان أحسنهم علماً.
• ومن وسائل الدعوة: إلقاء الخطب والدروس والمواعظ وكتابة المقالات والرسائل وتأليف الكتب النافعة واستخدام تقنيات العصر في الدعوة إلى الله كالإذاعات والفضائيات ومواقع الانترنت وغيرها.
• وفي هذا المجال من أبواب الخير العظيم ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، فليحرص المؤمن أن يأخذ منه بنصيب وافر.
• ووسائل الدعوة كثيرة ومتيسرة ولله الحمد؛ فمن فتح له في وسيلة من الوسائل فليعتنِ بها لعلها تكون له سبباً موصلاً إلى رضوان الله تعالى وجنات النعيم.
• وكم من عمل اجتهد المرء فيه فأتقنه ورعى أمانته وقام به حق القيام فكان سبباً في فوزه برضوان الله عز وجل ودخول جنته.
وفي الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من الدلائل بالإخبار عن بعض من كتب الله له دخول الجنة بسبب عَمَلٍ عَمِلَه ما يدلك على أهمية العناية بهذا الأمر.
• وإنَّ أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلَّ.
حكم الدعوة:
*وأما حكم الدعوة إلى الله تعالى فهو فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}، وقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.
هذا الحكم من حيث الأصل، وقد تتعين في أحوال:
- فمن رأى منكراً وجب عليه تغييره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه.
- ومن سئل عن علم وجب عليه بيانه وحرم عليه كتمانه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)) رواه أبو داوود والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
- ومن استنصحه أخوه المسلم وجبت عليه نصيحته.
- وكذلك إذا دعت الحاجة إلى البيان لم يجز تأخيره.
فهذه مواضع تجب فيها الدعوة.
وما هو القدر الذي إذا أداه العبد يكون داعياً إلى الله ؟
- الجواب: إذا قام بالقدر الواجب من الدعوة فهو من الدعاة إلى الله؛ وكلما ازداد تقرباً إلى الله تعالى بالدعوة إليه زاد نصيبه من فضل الله والزلفى لديه.
- ومن وقع في شيء من التقصير فيما وجب عليه من الدعوة فتاب وأناب وأتبع السيئة الحسنة فهو من الدعاة إلى الله.
وينبغي للطالب أن يعتني بفقه مقاصد الدعوة ، وقد لخصها بعض أهل العلم في ثلاثة مقاصد:
المقصد الأول: إقامة حجة الله تعالى على خلقه كما قال الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.
المقصد الثاني: براءة ذمة الداعية والإعذار إلى الله بامتثاله أمر الدعوة وقيامه بما وجب عليه كما دل عليه قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
فقدموا المقصد الأول وهو الإعذار إلى الله تعالى، وبراءة ذمتهم.
المقصد الثالث: رجاء أن ينتفع المدعو بالدعوة فيستجيبَ لما ينجيه من العذاب ويوفق بسببه لنيل الثواب كما دل عليه قوله تعالى في الآية السابقة: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ولعل حرف ترجي، والتقوى تكون بامتثال الأمر واجتناب ما نهي عنه.
وفقه مقاصدة الدعوة يفيد في الحكم على وسائل الدعوة المعاصرة فما كان منها يحقق هذه المقاصد فهو من الوسائل المشروعة.
وكل وسيلة تتضمن محذوراً في نفسها أو يترتب عليها مفسدة أعظم فإنها لا تحقق مقاصد الدعوة.