بَابُ مَا يَخْتَلِفُ بِهِ عَدَدُ الطَّلاَقِ
يَمْلِكُ مَنْ كُلُّهُ حُرٌّ، أَوْ بَعْضُهُ ثَلاَثاً، وَالعَبْدُ اثْنَتَيْنِ ............
الزوجان لا يخلوان من ثلاث حالات:
إما أن يكونا حرَّين، أو رقيقين، أو أحدهما حرّاً، والآخر رقيقاً، وهذه الأخيرة تنقسم قسمين: الزوج حر، والزوجة رقيقة، أو الزوجة حرة، والزوج رقيق، فالصور إذاً أربع، فهل يختلف عدد الطلاق باختلاف هذه الصور أو لا يختلف؟.
المشهور عند أهل العلم: أنه يختلف بالحرية والرق؛ فالرقيق طلاقه اثنتان والحر طلاقه ثلاث، ولكن مَنْ المعتبر؟ هل هي الزوجة، بمعنى إذا كان الزوج حراً والزوجة رقيقة اختلف الحكم أو المعتبر الزوج؟
يقول المؤلف: «يملك مَنْ كُلُّهُ حُرٌّ أو بعضُهُ ثلاثاً» يعني ثلاث تطليقات إذا كان حرّاً أو بعضه حرّاً، أما إذا كان حرّاً فالأمر واضح لقول الله تعالى: {{اَلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}} ـ إلى قوله ـ: {{فَإِنْ طَلَّقَهَا}} يعني الثالثة {{فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}} [البقرة: 229، 230] ، وإذا كان بعضه حرّاً وبعضه رقيقاً، فهل نقول: إنا نعطيه بقدره، أو نكمل له العدد؟ يقول المؤلف: إنه يكمل له العدد؛ لأن الطلاق لا يتبعض فإما اثنتان وإما ثلاث.
قوله: «والعبد اثنتين» يعني يملك العبد تطليقتين؛ وذلك لأن الرقيق على النصف من الحر، فعدة الأمة نصف عدة الحرة، وجلد الزاني في الإماء والعبيد نصف جلد الأحرار، وهلم جراً، ولماذا لم يُجعل للعبد واحدة ونصف؟ لأن الطلاق لا يمكن أن يتبعض، ولماذا لم يجعل واحدة احتياطاً؟ لأن في هذا هضماً لحق العبد؛ ولهذا كان القول الآخر في هذه المسألة أن العبد له ثلاث لعدم الأدلة.
حُرَّة كَانَتْ زَوجَتَاهُمَا أَوْ أَمَةً، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ الطَّلاَقُ، أَوْ طَالِقٌ، أَوْ عَلَيَّ، أَوْ يَلْزَمُنِي، وَقَعَ ثَلاَثاً بِنِيَّتِهَا، وَإِلاَّ فوَاحِدَةٌ،................
قوله: «حرة كانت زوجتاهما أو أمة» «زوجتاهما» أي الحر والعبد، ولننظر: كون زوجة الحر حرة واضح، ولكن هل يمكن أن تكون زوجة الحر أمة؟ يمكن لكن بشروط، قال الله تعالى: {{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}} [النساء: 25] ، فيجوز للحر أن يتزوج أمة إذا خاف المشقة بترك النكاح ولم يجد مهراً للحرة.
وهل يمكن للعبد أن يتزوج حرة؟ نعم، وبدون شروط كالحر تماماً، فاعتبار العدد بحسب الأزواج، وهذه المسألة فيها خلاف:
فالمشهور من المذهب: أنه يعتبر بالرجال، فإذا كان الرجل حراً ولو كانت زوجته أمة ملك ثلاثاً، وإن كان رقيقاً ولو كانت زوجته حرة ملك اثنتين فقط، فإذا طلق اثنتين لم تحل له الزوجة حتى تنكح زوجاً غيره.
القول الثاني: إن المعتبر الزوجة، فإذا كانت حرة ملك الزوج ثلاثاً، وإن كانت أمة ملك اثنتين، سواء كان الزوج حراً أو رقيقاً.
القول الثالث: إنه يعتبر بهما، فإن كانا حرين فثلاثاً وإن كانا رقيقين فاثنتين، وإن كان أحدهما حرّاً والآخر رقيقاً فإنه يملك ثلاثاً.
القول الرابع: يملك الزوج ثلاثاً، سواء كان حرّاً أم رقيقاً، وسواء كانت الزوجة حرة أم رقيقة، وهذا مذهب أهل الظاهر، وكأن ابن القيم رحمه الله يميل إليه في «زاد المعاد»؛ لأن النصوص عامة، ولم يستثنِ الله ـ تعالى ـ شيئاً، ولأن وقوع الطلاق من الحر والعبد على حد سواء، كل منهم يطلق راغباً أو راهباً، وكل منهم له تعلق بالمرأة، والآثار المرفوعة في ذلك ضعيفة لا تقوم بها حجة، والآثار الموقوفة عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ متضاربة مختلفة، فتطرح ونبقى على العموم، والحمد لله أن هذه المسألة في أوقاتنا فرضية، إلا أن يفتح الله تعالى على المسلمين جهاداً في سبيله، ويحصل الاسترقاق.
قوله: «فإذا قال: أنت الطلاق، أو طالق، أو عليَّ، أو يلزمني وقع ثلاثاً بنيتها وإلا فواحدة» إذا قال: أنت الطلاق، فـ «أل» هنا يحتمل أن تكون للاستغراق، ويحتمل أن تكون للجنس، فإن قال: نويت بقولي: أنت الطلاق ثلاثاً، قلنا: يقع الثلاث؛ لأن اللفظ صالح لهذه النية، ونجعل «أل» للاستغراق، وإذا لم ينو ثلاثاً، بل نوى واحدة، أو قال: ما عندي نية يقع واحدة؛ لأن «أل» للجنس، وأقل ما يقع عليه الجنس واحدة.
وقوله: «أنت الطلاق» الطلاق هنا مصدر، وهو من باب المبالغة، كأنها هي الطلاق، كما يقولون: رجل عدل، ورجل رضاً، فيجعلون الرجل نفس المصدر، وهنا جعل الزوجة نفس الطلاق، أو نقول: إن الطلاق مصدر مؤول، والمصدر يصح تأويله باسم الفاعل، أو اسم المفعول، فاسم الفاعل مثل قوله تعالى: {{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}} [البقرة: 177] على تقدير: ولكن البارَّ من آمن بالله واليوم الآخر، واسم المفعول كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [(1)]، أي: مردود.
وقوله: «أو طالق» وفي نسخة: «أنت طلاق» إذا قال: أنت طالق، فطالق اسم فاعل إن نوى به الثلاث وقعت، وإن لم ينوِ الثلاث فواحدة، وإن لم ينو شيئاً فواحدة.
وقوله: «أو عليَّ» إذا قال: عليَّ الطلاق، فهو إلزام لنفسه به، فيشبه النذر، فإذا قال ذلك طلقت امرأته ثلاثاً إن نواها، وإن لم ينوِ ثلاثاً فواحدة، هذا ما ذهب إليه المؤلف.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: إن هذا يمين باتفاق أهل اللغة والعرف، وليس بطلاق.
وقال بعضهم ـ وهو الأصح ـ: إن هذا ليس بشيء إذا لم يذكر متعلقاً؛ لأن قوله: «علي الطلاق» التزام به، وهو إن كان خبراً بالالتزام فإنه لا يقع، وإن كان التزاماً به فإنه ـ أيضاً ـ لا يقع إلا بوجود سببه، مثل ما لو قال: علي أن أبيع هذا البيت، فما ينعقد البيع، فإذا قال: علي الطلاق، نقول: ما دام أنك أوجبته على نفسك فطلق، وإذا لم تطلق فإنه لا يقع الطلاق، وهذا القول هو الصحيح أنه ليس بطلاق، وليس يميناً إلا إن ذكر المحلوف عليه، بأن قال: عليَّ الطلاق لأفعلن كذا.
لكن لو صار في العرف عند الناس أن الإنسان إذا قال: عليَّ الطلاق، فهو مثل قوله: أنت طالق فحينئذٍ نرجع إلى القاعدة العامة، أن كلام الناس يحمل على ما يعرفونه من كلامهم ولغتهم العرفية، وعلى هذا فيكون طلاقاً، أما بالنظر للمعنى اللغوي فإنه ليس بطلاق، كما لو أن إنساناً قال: عليَّ بيع هذا البيت، أو عليَّ توقيف هذا البيت، أو عليَّ تأجير هذا البيت، وما أشبه ذلك، فلا ينعقد، ولو قال: عليَّ أن أفسخ بيع هذا البيت، فما ينفسخ.
إذاً مثل هذه الصيغة لا تعد عقداً ولا فسخاً، وإنما هي إن كانت خبراً فليست بشيء، وإن كانت التزاماً فنقول: أوجد السبب حتى يوجد المُسبَّب.
وقوله: «أو يلزمني» أي: يلزمني الطلاق، فهي كالأولى، فالمذهب أنها طلاق، والقول الصحيح أن هذا التزام وليس بإيقاع، إن كان خبراً عن أمر مضى نقول: بأي شيء لزمك؟! وإن كان التزاماً بشيء مستقبل، نقول له: أوجد السبب، أو طلق حتى تطلق.
فهذه أربع مسائل هي: أنت الطلاق، أنت طالق، أو أنت طلاق على اختلاف النسخ، عليّ الطلاق، يلزمني الطلاق.
فالمذهب أن الحكم في هذه المسائل الأربع واحد، وهو أن الطلاق يقع ثلاثاً بنيته، وإن نوى واحدة فواحدة، أو لم ينو شيئاً فواحدة، ولو قال: أنت طالق ثلاثاً، وقال: أردت واحدة لا يقبل؛ لأنه أتى بصريح العدد، ولو قال: أنت طالق واحدة، وقال: أردت ثلاثاً لا يقبل؛ لأنه أتى بصريح العدد، فالنية لا تغير الصريح، وإنما تعتبر فيما كان محتملاً، أما ما كان صريحاً فلا.
وقوله: «وقع ثلاثاً بنيتها وإلا فواحدة» والقول الراجح في هذه المسائل كلها: أنه ليس هناك طلاق ثلاث أبداً، إلا إذا تخلله رجعة، أو عقد، وإلا فلا يقع الثلاث، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو الصحيح.
وَيَقَعُ بِلَفْظِ كُلِّ الطَّلاَقِ، أَوْ أَكْثَرِهِ، أَوْ عَدَدِ الحَصَى، أَو الرِّيحِ، أَوْ نَحْوِ ذلِكَ ثَلاَثٌ، وَلَوْ نَوَى وَاحِدَةً، وَإِنْ طَلَّقَ عُضْواً، أَوْ جُزْءاً مُشَاعاً، أَوْ مُعَيَّناً، أَو مُبْهَماً، أَوْ قَالَ: نِصْفَ طَلْقَةٍ، أَوْ جُزْءَاً مِنْ طَلْقَةٍ طَلَقَتْ، وَعَكْسُهُ الرُّوحُ، والسِّنُّ، والشَّعْرُ، والظُّفُرُ، وَنَحْوُهُ، .............................
قوله: «ويقع بلفظ كل الطلاق أو أكثره أو عدد الحصى أو الريح أو نحو ذلك ثلاث ولو نوى واحدة» لأنه أتى بالصريح فنيته لا يحتملها اللفظ.
فـ «كل» تدل على الاستغراق، فتشمل الطلاق الثلاث، أو قال: أنت طالق أكثر الطلاق، فهذه مثلها.
وإذا قال: أنت طالق عدد الحصى يقع الثلاث؛ لأن الحصى لا يحصيه إلا الله عزّ وجل.
وقوله: «أو الريح» أي: عدد الريح، فإن أراد الأجناس فهي أربع بالاختصار، وثمان بالبسط، بالاختصار: شرق وغرب وشمال وجنوب، وبالبسط ما بين هذه الجهات، وإن أراد هبوب الرياح فهذه ما تحصى.
وقوله: «أو نحو ذلك» مثل لو قال: عدد النجوم، عدد أيام السنة، عدد أيام الشهر، عدد ساعات اليوم، فيقع ثلاثاً.
وقوله: «وقع ثلاثاً ولو نوى واحدة» لوجود الصريح، والنية لا تؤثر في الصريح، والقول الراجح أنه يقع واحدة ولو نوى ثلاثاً، عكس كلام المؤلف تماماً؛ لأنه لو صرح بالثلاث صارت واحدة.
وخلاصة ما تقدم أن الإنسان إذا أتى بلفظ صريح في العدد لا يقبل منه إرادة خلافه، فإذا قيده بواحدة لم تقبل إرادة الثلاث، وإن قيده بثلاث لم تقبل إرادة الواحدة، وإن قيده بثنتين لم تقبل إرادة الواحدة ولا الثلاث، وإن أتى بلفظ يحتمل ويصلح فهو على نيته، إن نوى ثلاثاً فثلاث، وإن لم ينوِ شيئاً فالأصل واحدة، وما زاد فمشكوك فيه فلا يكون شيئاً.
ثم انتقل المؤلف ـ رحمه الله ـ إلى طلاق جزء من امرأته هل تطلق أو لا؟ فقال المؤلف:
«وإن طلق عضواً» أي: من زوجته وقع الطلاق؛ لأنه لا يتبعض، لا في ذاته، ولا في محله، فإذا قال لها: أصبعك السبابة طالق تطلق المرأة، فيسري الطلاق إلى جميعها، مثل ما لو قال لعبده: أعتقت أصبعك يعتق كله.
قوله: «أو جزءاً مشاعاً» مثل لو قال: طالق منك واحد في المائة، فهذا جزء مشاع تطلق كلها، أو واحد في العشرة، أو ربعك، أو نصفك تطلق كلها؛ والعلة في ذلك أن الطلاق لا يتبعض، فإذا وجد في جزء من البدن سرى إلى كله.
قوله: «أو معيناً» أي: جزءاً معيناً، قال في الروض: «كنصفها الفوقاني»[(2)]، قال: نصفك الفوقاني طالق، والتحتاني غير طالق، تطلق كلها.
قوله: «أو مبهماً» بأن قال: بعضك طالق، أو جزؤك طالق، أو ما أشبه ذلك تطلق.
والحاصل: أنه إذا أوقع الطلاق على جزءٍ منها معيناً كان أو غير معين، مبهماً أو مبيناً فإنه يقع الطلاق على جميعها؛ والعلة في ذلك واحدة: أن الطلاق لا يتبعض في محله، فإذا وقع على جزء سرى إلى الجميع.
ثم انتقل المؤلف إلى تجزئة الطلقة لما ذكر تجزئة المُطلَّق فقال:
«أو قال: نصف طلقة» أي: أنت طالق نصف طلقة تطلق واحدة؛ لأنها لا تتبعض، ولو قلنا: إنها تتبعض لصارت الثلاث ستاً، وهذا لا يمكن، فإذا قال: أنت طالق نصف طلقة تطلق طلقة كاملة؛ لأنها ما تتبعض.
قوله: «أو جزءاً من طلقة» تطلق، أو بعض طلقة تطلق، ولهذا قال: «طلقت» .
قوله: «وعكسه» يعني عكس ذلك.
قوله: «الروح والسن والشعر والظفر ونحوه» لو قال: روحك طالق فإنها لا تطلق؛ لأن الروح تنفصل عن البدن، لكن لا تنفصل إلا بالموت، فما دامت حية فروحها باقية، وأيهما أعظم الروح، أو أنملة من أصبع؟! الروح أعظم فلا يمكن أن تبقى بدون روح، لكن يمكن أن تبقى بدون إصبع، ولهذا فإن القول الصحيح في هذه المسألة أنه إذا أضاف الطلاق إلى روحها طلقت؛ إذ لا يمكن أن تنفصل الروح إلا بالموت.
قوله: «والشعر» لو قال: شعرك طالق ما تطلق؛ لأن الشعر في حكم المنفصل.
قوله: «والظفر» كذلك لو قال: ظفرك طالق ما تطلق؛ لأن الظفر في حكم المنفصل ما تحله الحياة.
قوله: «والسن» فلو قال: أسنانك كلها طالق لا تطلق؛ لأن هذه كلها في حكم المنفصل، ولهذا لو مَسَّها الإنسان وهو متوضئ ـ على القول بأن مس المرأة بشهوة ينقض ـ فإن وضوءه لا ينتقض، ولو مس بشرتها بظفره لشهوة لم ينتقض وضوؤه؛ لأن هذه ليست بأجزاء، هذه فواصل تنفصل، وتزول، ولا تحلها الروح.
قوله: «ونحوه» مثل سمعك وبصرك وريقك طالق فإنها لا تطلق، فالسمع لأنه صفة معنوية، والبصر صفة معنوية، والريق جسم لكن منفصل، والعرق جسم لكن منفصل، لكن لو قال: أذنك طالق تطلق؛ لأنه جزء وعضو.
إذاً طلاق البعض كطلاق الكل، إلا إذا كان هذا البعض في حكم المنفصل، مثل الظفر والشعر والسن والريق والعرق وما أشبهها فإنها لا تطلق، أما الروح، فالصواب أنها تطلق إذ لا يمكن أن تنفصل إلا بالموت.
وَإِذَا قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، وَكَرَّرَهُ وَقَعَ العَدَدُ، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ تَأْكِيداً يَصِحُّ أَوْ إِفْهَاماً،........................
قوله: «وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق وكرره وقع العدد، إلا أن ينوي تأكيداً يصح أو إفهاماً» إذا قال الإنسان لمدخول بها، وهي التي تلزمها العدة سواء جامعها أو خلا بها، فإذا قال لها: أنت طالق وكرره وقع العدد، فإن كرره مرتين وقع طلقتين، وإن كرره ثلاثاً فثلاث طلقات، واعلم أن هذه المسألة تارة يكرر الجملة كلها، وتارة يكرر الخبر وحده، فإن كرر الجملة: أنت طالق، أنت طالق، يقع العدد، وإن كرر الخبر فقط فقال: أنت طالق، طالق، طالق، فإنه واحدة، ما لم ينوِ أكثر حتى على المذهب، وكثيرٌ من طلبة العلم يغلطون في هذه المسألة، يظنون أن تكرار الخبر كتكرار الجملة، وليس كذلك، فإذا قال: أنت طالق طالق طالق فإنه يقع على المذهب واحدة، ما لم ينوِ أكثر؛ فإن نوى أكثر فالأعمال بالنيات، إذاً فالتكرار له وجهان:
الأول : أن يكون تكرار جملة، فيقع الطلاق بعدد التكرار.
الثاني : أن يكون تكرار خبر فقط، فيقع واحدة ما لم ينو أكثر، فإن نوى أكثر وقع حسب التكرار.
فإذا قال: أنت طالق طالق ونوى أكثر يقع اثنتين، وإذا قال: أنت طالق طالق طالق يقع ثلاثاً، وهذا إذا لم يكن هناك عطف، فإن كان عطف وقع بحسب التكرار، فلو قال: أنت طالق وأنت طالق وأنت طالق، أو أنت طالق وطالق وطالق يقع بعدده.
وقوله: «وقع العدد إلا أن ينوي تأكيداً يصح أو إفهاماً» . «توكيداً» أفصح من «تأكيداً» لقوله تعالى: {{وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}} [النحل: 91] ويجوز في اللغة العربية تأكيد.
فإذا نوى توكيداً يصح أو إفهاماً فإنه لا يقع بعدده، وانتبه لقوله: «توكيداً يصح» متى يصح التوكيد؟ يصح التوكيد بشرطين:
الأول: أن يكون بلفظ المؤكد ولو بالمعنى.
الثاني: وأن يكون متصلاً.
فإذا قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، يقع ثلاثاً، لكن لو قال: أردت التوكيد نقبل منه، ويقع واحدة؛ لأن التوكيد هنا يصح، فاللفظ واحد ومتصل.
فإن قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، وقال: أردت توكيد الأولى بالثالثة يقع ثلاثاً؛ لأنه هنا فصل بين الجملة الأولى والثالثة بالثانية فلم يصح.
ولو قال: أنت طالق، ثم كلمها بكلام آخر، ثم قال: أنت طالق ثم كلمها بكلام آخر، ثم قال: أنت طالق، وقال: أردت التوكيد فلا يقبل؛ لوجود الفصل.
ولو قال: أنت طالق، أنت مفارقة، أنت مسرَّحة، وما أشبه ذلك، فيصح التوكيد؛ لأن المعنى واحد.
ولو قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وقال: أردت توكيد الأولى بالثانية فيقع ثنتين؛ لأن التوكيد هنا صحيح، فلما أكد الأولى بالثانية صارت واحدة، ثم جاءت الثالثة فصارت ثانية.
وقوله: «أو إفهاماً» يعني قال: ما كررتها إلا لأني خشيت أنها ما فهمت، فيقع واحدة؛ لأنه أراد أن يفهمها، كذلك لو فرض أنه قال: أنت طالق، وهي تسمع وسمعها جيد، ولكنها لاهية تشتغل فقال: أنت طالق، أنت طالق، فيقع واحدة ما دام أنه قصد الإفهام.
وظاهر كلام المؤلف وغيره: أنه لا فرق بين أن توجد قرينة تدل على أنها محتاجة إلى الإفهام، أو لا توجد، وقيل: إذا لم يكن قرينة فإنه لا يقبل منه قصد الإفهام إلا تديناً، يعني يُديَّن، أما في الحكم فلا.
ولكن على القول الراجح في هذه المسائل أنه لا يقع إلا طلقة واحدة، حتى لو قال: أردت الطلاق بالثانية وبالثالثة، قلنا: هذه إرادة فاسدة ولا تؤثر شيئاً.
وَإِنْ كَرَّرَهُ بِبَلْ، أَوْ بِثُمَّ، أَوْ بِالْفَاءِ، أَوْ قَالَ بَعْدَهَا، أَوْ قَبْلَهَا، أَوْ مَعَها طَلْقَةٌ وَقَعَ اثنْتَانِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا بَانَتْ بِالأُْولَى، وَلَمْ يَلْزَمْهُ مَا بَعْدَهَا، وَالمُعَلَّقُ كَالمُنَجَّزِ فِي هـذَا.
قوله: «وإن كرره ببل أو بثم أو بالفاء» إن كرره ببل، فقال: أنت طالق، بل طالق، بل طالق، يقع ثلاثاً؛ لأنه أتى بالعطف، فإن قال: أردت توكيد الأولى بالثانية، قلنا: ما يصح؛ والسبب أن اللفظ ليس بواحد، ولو قال: أردت توكيد الثانية بالثالثة يقبل ويصح؛ لأن اللفظ واحد ومتصل، ولو قال: أردت توكيد الأولى بالثالثة ما يصح لوجود الفصل، واختلاف اللفظ؛ لأن حرف العطف يقتضي أن يكون الثاني غير الأول، كيف تقول: إني أريد التوكيد، وأنت أتيت بحرف العطف؟! لأن معنى التوكيد أن الثاني هو الأول، وحرف العطف يقتضي المغايرة.
وقوله: «أو بثُم» وما أكثرها عند البادية، أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق، يقع الطلاق بعدده، فلو قال: أردت توكيد الأولى بالثانية قلنا: لا يصح، ولو قال: أردت توكيد الثانية بالثالثة يصح.
وقوله: «أو بالفاء» بأن قال: أنت طالق فطالق وقع اثنتان.
قوله: «أو قال بعدها أو قبلها أو معها طلقة وقع اثنتان» أي قال: أنت طالق بعدها طلقة، أو أنت طالق قبلها طلقة، أو أنت طالق معها طلقة يقع اثنتان.
والخلاصة: إذا كرر اللفظ فإما أن يكون التكرار بعطف، أو بغير عطف، فإن كان بعطف وقع بعدده، وإن كان بغير عطف، فإن كرر الجملة كلها وقع بعدده، وإن كرر الخبر فقط وقع واحدة ما لم ينوِ أكثر.
قوله: «وإن لم يدخل بها» أو لم يخل بها.
قوله: «بانت بالأولى ولم يلزمه ما بعدها» هذا الطلاق البائن ليس بينونة كبرى لا تحل له إلا بعد زوج، لكنها بينونة صغرى لا تحل له إلا بعقد.
مثال ذلك: إنسان عقد على امرأة، وصار بينه وبين وليها سوء تفاهم، فقال: أنت طالق ثم طالق في نفس المجلس، فتطلق واحدة وليس له عليها رجعة؛ والسبب أنه لما قال الجملة الأولى: أنت طالق طلقت فصادفتها الجملة الثانية بائناً؛ لأنه إذا طلقها قبل الدخول والخلوة، فبمجرد ما يقول: أنت طالق تطلق، وتحل للأزواج، فلا يقع عليها الطلاق الثاني، فتلزمه الطلقة الأولى ولا يلزمه ما بعدها.
والدليل على أنه إذا طلق المرأة قبل الدخول بانت منه، وما له عليها عدة قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}}[الأحزاب: 49] .
وإذا قال: أنت طالق طلقة معها طلقة، فإن ظاهر كلام المؤلف: أنها لا يلحقها إلا طلقة واحدة؛ لأنه قال: «وإن لم يدخل بها بانت بالأولى» ولكن المذهب خلاف ذلك، وأنه تقع اثنتان؛ لأن «مع» تفيد المقارنة، مثل ما لو قال للمدخول بها: أنت طالق طلقتين فيقع اثنتان، والمذهب أصح مما ذهب إليه المؤلف، لكن وجه ما قاله المؤلف أن المُصاحِب غير المُصاحَب، فهناك طلقتان، فتطلق بواحدة وتبقى الثانية لا محل لها، ولكن يقال: إن الطلقتين وقعتا معاً في آن واحد على محل قابل للطلاق، فتطلق طلقتين.
وإذا قال: أنت طالق وطالق لغير المدخول بها، فمثل أنت طالق طلقة معها طلقة؛ لأن الواو تفيد الاشتراك ولا تفيد الترتيب؛ فيقع بها اثنتان كما يقع في المدخول بها أيضاً.
إذاً يستثنى من تلك الصور التي ذكر المؤلف صورتان: إذا قال: أنت طالق طلقة معها طلقة أو قال: أنت طالق وطالق؛ فإن كلام المؤلف يقتضي أن تبين بإحدى الطلقتين ولا تحسب الطلقة الثانية، والمذهب أنها تطلق طلقتين.
قوله: «والمعلق كالمنجز في هذا» المعلق هو الذي علق وقوعه على شيء بـ«إنْ» أو إحدى أخواتها، مثل أن يقول: إن فعلت كذا فأنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فتطلق ثلاثاً، كذلك لو قال: إذا طلعت الشمس فأنت طالق، ثم أنت طالق، ثم أنت طالق فثلاث، وعلى هذا فقس؛ لأن المعلق كالمنجز.
وسيأتينا ـ إن شاء الله تعالى ـ في باب تعليق الطلاق بالشروط أن التعليق على القول الراجح ينقسم إلى ثلاثة أقسام، تعليق محض، ويمين، ودائر بينهما.
[1] سبق تخريجه ص(13).
[2] الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/523).