بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أنفُسِهِم مَا لا يُبدونَ لكَ يَقُولونَ لَو كانَ لنَا مِنَ الأمرِ شَيءٌ مَّا قُتِلنَا هَاهُنا قُل لَّو كُنتُمْ فِي بُيوتِكُم لَبَرزَ الَّذينَ كُتِبَ عليهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِم ولِيَبتليَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُم ولِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُم وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عِمْرَانَ:154].
وَقَوْلِهِ: {الظَّآنِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وغَضِبَ اللهُ عَلَيهِم ولَعَنَهُم وأعدَّ لهم جَهنَّمَ وسَآءتْ مَصِيرًا}[الْفَتْحُ:6].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الآيَةِ الأُولَى: (فُسِّرَ هَذَا الظَّنُّ بَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لاَ يَنْصُرُ رَسُولَهُ وَأَنَّ أَمْرَهُ سَيَضْمَحِلُّ، وَفُسِّرَ بِأَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ بِقَدَرِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ، فَفُسِّرَ بِإِنْكَارِ الْحِكْمَةِ وَإِنْكَارِ الْقَدَرِ، وَإِنْكَارِ أَنْ يَتِمَّ أَمْرُ رَسُولِهِ، وَأَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَهَذَا هُوَ ظَنُّ السَّوْءِ، الَّذِي ظَنَّ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا ظَنَّ السَّوْءِ؛ لأَِنَّهُ ظَنُّ غَيْرِ مَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَمَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ وَوَعْدِهِ الصَّادِقِ.
فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدِيلُ الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ إِدَالَةً مُسْتَقِرَّةً يَضْمَحِلُّ مَعَهَا الْحَقُّ، أَوْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مَا جَرَى بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، أَوْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَدَرُهُ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْحَمْدَ، بَلْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لِمَشِيئَةٍ مُجَرَّدَةٍ، فَذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَظُنُّونَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِمْ، وَفِيمَا يَفْعَلُهُ بِغَيْرِهِمْ، وَلاَ يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ عَرَفَ اللهَ وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَمُوجِبَ حِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ.
فَلْيَعْتَنِ اللَّبِيبُ النَّاصِحُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا، وَلْيَتُبْ إِلَى اللهِ وَلْيَسْتَغْفِرْهُ مِنْ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَلَوْ فَتَّشْتَ مَنْ فَتَّشْتَ؛ لَرَأَيْتَ عِنْدَهُ تَعَنُّتًا عَلَى الْقَدَرِ وَمَلاَمَةً لَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا، فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ، وَفَتِّشْ نَفْسَكَ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ).
فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي = عَظِيمَةٍ وَإِلاَّ فـــَإِنِّي لاَ إخــَالــُكَ نـــــَاجِيًا
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ.
الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ الْفَتْحِ.
الثَّالِثَةُ: الإِخْبَارُ بِأَنَّ ذَلِكَ أَنْوَاعٌ لاَ تُحْصَرُ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ لاَ يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ عَرَفَ الأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ وَعَرَفَ نَفْسَهُ.