(التَّعْلِيقَاتُ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ)
وَتَكَلَّمَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو عَلَى التَّعْلِيقَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ, وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا, لَكِنَّهَا قَلِيلَةٌ, قِيلَ إِنَّهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَوْضُوعًا.
وَحَاصِلُ الْأَمْرِ: أَنَّ مَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ فَصَحِيحٌ إِلَى مَنْ عَلَّقَهُ عَنْهُ, ثُمَّ النَّظَرُ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَمَا كَانَ مِنْهَا بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ فَلَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا صِحَّةٌ، وَلَا تُنَافِسُهَا أَيْضًا; لِأَنَّهُ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَهُوَ صَحِيحٌ, وَرُبَّمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمَا كَانَ مِنَ التَّعْلِيقَاتِ صَحِيحًا فَلَيْسَ مِنْ نَمَطِ الصَّحِيحِ الْمُسْنَدِ فِيهِ, لِأَنَّهُ قَدْ وَسَمَ كِتَابَهُ (بِالْجَامِعِ الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ الْمُخْتَصَرِ فِي أُمُورِ رَسُولِ اللَّهِ r وَسُنَنِهِ وَأَيَّامِهِ).
فَأَمَّا إِذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: "قَالَ لَنَا"، أَوْ "قَالَ لِي فُلَانٌ كَذَا", أَوْ "زَادَنِي" وَنَحْوَ ذَلِكَ, فَهُوَ مُتَّصِلٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ.
وَحَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ بَعْضِ الْمَغَارِبَةِ أَنَّهُ تَعْلِيقٌ أَيْضًا, يَذْكُرُهُ لِلِاسْتِشْهَادِ لَا لِلِاعْتِمَادِ, وَيَكُونُ قَدْ سَمِعَهُ فِي الْمُذَاكَرَةِ.
وَقَدْ رَدَّهَ ابْنُ الصَّلَاحِ, فَإِنَّ الْحَافِظَ أَبَا جَعْفَرِ بْنَ حَمْدَانَ قَالَ: إِذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: "وَقَالَ لِي فُلَانٌ" فَهُوَ مِمَّا سَمِعَهُ عَرْضًا وَمُنَاوَلَةً.
وَأَنْكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ رَدَّهُ حَدِيثَ الْمَلَاهِي حَيْثُ قَالَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ: "وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ"، وَقَالَ: أَخْطَأَ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ وُجُوهٍ, فَإِنَّهُ ثَابِتٌ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ.
(قُلْتُ): وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ, وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَخَرَّجَهُ البُرْقَانِيُّ فِي صَحِيحِهِ, وَغَيْرُ وَاحِدٍ, مُسْنَدًا مُتَّصِلًا إِلَى هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ وَشَيْخِهِ أَيْضًا, كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ (الْأَحْكَامِ), وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
ثُمَّ حَكَى أَنَّ الْأُمَّةَ تَلَقَّتْ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ بِالْقَبُولِ, سِوَى أَحْرُفٍ يَسِيرَةٍ, انْتَقَدَهَا بَعْضُ الْحُفَّاظِ, كَالدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِ, ثُمَّ اسْتَنْبَطَ مِنْ ذَلِكَ الْقَطْعَ بِصِحَّةِ مَا فِيهِمَا مِنَ الْأَحَادِيثِ; لِأَنَّ الْأُمَّةَ مَعْصُومَةٌ عَنِ الْخَطَأِ, فَمَا ظَنَّتْ صِحَّتَهُ وَوَجَبَ عَلَيْهَا الْعَمَلُ بِهِ, لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَهَذَا جَيِّدٌ.
وَقَدْ خَالَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ, وَقَالَ: لَا يُسْتَفَادُ الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ مِنْ ذَلِكَ.
(قُلْتُ): وَأَنَا مَعَ ابْنِ الصَّلَاحِ فِيمَا عَوَّلَ عَلَيْهِ وَأَرْشَدَ إِلَيْهِ واللهُ أَعْلَمُ.
"حَاشِيَةٌ" ثُمَّ وَقَفْتُ بَعْدَ هَذَا عَلَى كَلَامٍ لِشَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ ابْنِ تَيْمِيَةَ مَضْمُونُهُ: أَنَّهُ نَقَلَ الْقَطْعَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ, وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَائِينِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ, وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ, وَابْنُ حَامِدٍ, وَأَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ, وَأَبُو الْخَطَّابِ, وَابْنُ الزَّاغُونِيِّ, وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الْحَنَابِلَةِ, وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: قَالَ: "وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ كَأَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَائينِيِّ, وَابْنِ فُورَكٍ، قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَاطِبَةً وَمَذْهَبُ السَّلَفِ عَامَّةً".
وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ اسْتِنْبَاطًا فَوَافَقَ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ.