فأَمَّا الْمُتَوَسِّطُون مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فَيَخَافُ عَلَيْهِم مَا لاَ يَخَافُ عَلَى مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ، وَعَلَى مَنْ قَدْ أَنْهَاهُ نِهَايَتَهُ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ هُوَ فِي عَافِيَةٍ، وَمَنْ أَنْهَاهُ قَدْ عَرَفَ الْغَايَةَ، فَمَا بَقِيَ يَخَافُ عليه مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ وَهُوَ عَطْشَانُ إِلَيْهِ قَبِلَهُ، وَأَمَّا الْمُتَوَسِّطُ فَمُتَوَهِّمٌ بِمَا تَلَقَّاهُ مِنَ الْمَقَالاَتِ الْمَأْخُوذَةِ تَقْلِيدًا لِمُعْظَمِهِ تَهْوِيلاً.
وَقَدْ قَالَ بعض النَّاسُ: أَكْثَرُ مَا يُفْسِدُ الدُّنْيَا: نِصْفُ مُتَكَلِّمٍ، وَنِصْفُ مُتَفَقِّهٍ، وَنِصْفُ مُتَطَبِّبٍ، وَنِصْفُ نَحْوِيٍّ، هَذَا يُفْسِدُ الأَدْيَانَ، وَهَذَا يُفْسِدُ الْبُلْدَانَ، وَهَذَا يُفْسِدُ الأَبْدَانَ، وَهَذَا يُفْسِدُ اللِّسَانَ.
وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ هُمْ فِي الْغَالِبِ ( فِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) يَعْلَمُ الذَّكِيُّ مِنْهُم والْعَاقِلُ: أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ فِيمَا يَقُولُهُ عَلَى بِصِيرِةٍ، وَأَنَّ حُجَّتَهُ لَيْسَتْ ببَيِّنَةً وَإِنَّمَا هِيَ كَمَا قِيلَ فِيهَا:
حُجَجٌ تَهَافَتُ كَالزُّجَاجِ تَخَالُهَا ...... حَقًّا وَكُلُّ كَاسِرٍ مَكْسُورُ
وَيَعْلَمُ الْعَلِيمُ البصير بهم أَنَّهُمْ مِنْ وَجْهٍ مُسْتَحِقُّونَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ. حَيْثُ قَالَ: ( حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَيُطَافَ بِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ وَيُقَالَ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ أَعْرَضَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلامِ ).
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ الْقَدْرِ – وَالْحِيرَةُ مُسْتَوْلِيَةٌ عَلَيْهِمْ، وَالشَّيْطَانُ مُسْتَحْوِذٌ عَلَيْهِمْ - رَحِمْتَهُمْ وَرَفِقْتَ عَلَيْهِمْ، وَأُوتُوا ذَكَاءً وَمَا أُوتُوا زُكَاءً، وَأُعْطُوا فُهُومًا وَمَا أُعْطُوا عُلُومًا وَأُعْطُوا سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}.
وَمَنْ كَانَ عِلِيمًا بِهَذِهِ الأُمُورِ تَبَيَّنَ لَهُ بِذَلِكَ حِذْقُ السَّلَفِ وَعِلْمُهُمْ وَخِبْرَتُهُمْ حَيْثُ حَذَّرُوا عَنِ الْكَلامِ وَنَهَوْا عَنْهُ، وَذَمُّوا أَهْلَهُ وَعَابُوهُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ مَن ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَمْ يَزْدَدْ من الله إِلاَّ بُعْدًا.
فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ، آمِينَ..، والحمد لله رب العالمين , وصلاة وسلاما على محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين(1).