وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عثمان الْمَكِّيِّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ ( التَّعَرُّفَ بِأَحْوَالِ الْعُبَّادِ وَالْمُتَعَبِّدِينَ )قَالَ: ( بَابُ مَا يَجِيءُ بِهِ الشَّيْطَانُ لِلتَّائِبِينَ ) وَذَكَرَ أنَّه يُوقِعُهُمْ فِي الْقُنُوطِ، ثُمَّ فِي الْغُرُورِ وَطُولِ الأمد والأَمَلِ، ثُمَّ فِي التَّوْحِيدِ، فَقَالَ: مِنْ أَعْظَمِ مَا يُوَسْوِسُ فِي التَّوْحِيدِ بِالتَّشْكِكِ أَوْ فِي صِفَاتِ الرَّبِّ بِالتَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ، أَوْ بِالْجَحْدِ لَهَا وَالتَّعْطِيلِ. فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ الْوَسْوَسَةِ: وَاعْلَمْ - رَحِمَكَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ كُلَّ مَا تَوَهَّمَهُ قَلْبُكَ، أَوْ سَنَحَ فِي مَجَارِي فِكْرِكَ، أَوْ خَطَرَ فِي مُعَارَضَاتِ قَلْبِكَ مِنْ حُسْنٍ أَوْ بَهَاءٍ، أَوْ ضِيَاءٍ، أَوْ إِشْرَاقٍ، أَوْ جَمَالٍ، أَوْ سُنْحٍ مَائِلٍ، أَوْ شَخْصٍ مُتَمَثِّلٍ: فَاللَّهُ تَعَالَى بِغَيْرِ ذَلِكَ بَلْ هُوَ تَعَالَى أَعْظَمُ وَأَجَلُّ وَأَكْبَرُ، أَلاَ تَسْمَعُ لقَوْلِهِ تَعَالَى {َيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }، وَقَوْلِهِ {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } أَيْ لاَ شَبِيهَ وَلا نَظِيرَ وَلا مُسَاوِيَ لاَ مِثْلَ، أَوَلَمْ تَعْلَمْ أنَّه تَعَالَى لَمَّا تَجَلَّى لِلْجَبَلِ تَدَكْدَكَ لِعِظَمِ هَيْبَتِهِ، وَشَامِخِ سُلْطَأنَّه، فَكَمَا لاَ يَتَجَلَّى لِشَيْءٍ إِلاَّ انْدَكَّ، كَذَلِكَ لاَ يتَوَهَّمَهُ أَحَدٌ إِلاَّ هَلَكَ، فَرُدَّ بِمَا بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ نَفْسهِ عَنْ نَفْسِهِ التَّشْبِيهَ وَالْمِثْلَ وَالنَّظِيرَ وَالْكُفْؤَ.
فَإِن اعْتَصَمْتَ بِهِا وَامْتَنَعْتَ مِنْهُ أَتَاكَ مِنْ قِبَلِ التَّعْطِيلِ لِصِفَاتِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم فَقَالَ لَكَ: إِذَا كَانَ موْصُوفًا بِكَذَا أَوْ وَصَفْتَهُ أَوْجَبَ لَه التَّشْبِيهَ فَأَكْذِبْهُ; لأنَّه اللَّعِينَ إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَزلَّكَ وَيُغْوِيَكَ وَيُدْخِلَكَ فِي صِفَاتِ الْمُلْحِدِينَ الزَّائِغِينَ الْجَاحِدِينَ لِصِفَةِ الرَّبِّ تَعَالَى.
وَاعْلَمْ -رَحِمَكَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ اللَّهَ تعالى وَاحِدٌ لاَ كَالآحَادِ فَرْدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. إِلَى أَنْ قَالَ: خَلَصَتْ لَهُ الأَسْمَاء السَّميَّةُ فَكَانَتْ وَاقِعَةً فِي قَدِيمِ الأَزَلِ بِصِدْقِ الْحَقَائِقِ، لَمْ يَسْتَحْدِثْ تَعَالَى صِفَةً كَانَ مِنْهَا خاليا، واسْمًا كَانَ مِنْهُ بَرِيًّا تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَكَانَ هَادِيًا سَيَهْدِي، وَخَالِقًا سَيَخْلُقُ، وَرَازِقًا سَيَرْزُقُ، وَغَافِرًا سَيَغْفِرُ، وَفَاعِلاً سَيَفْعَلُ، ولَمْ يَحْدُثْ لَهُ الاسْتِوَاءُ إِلاَّ وَقَدْ كَانَ فِي صِفَةِ أنَّه سَيَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ فَهُوَ يُسَمَّى بِهِ فِي جُمْلَةِ فِعْلِهِ كَذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } بِمَعْنَى أنَّه سَيَجِيءُ فَلَمْ يَسْتَحْدِثِ الاسْمَ بِالْمَجِيءِ، وَتَخَلَّفَ الْفِعْلُ لِوَقْتِ الْمَجِيءِ، فَهُوَ جَاءَ سَيَجِيءُ، وَيَكُونُ الْمَجِيءُ مِنْهُ مَوْجُودًا بِصِفَةٍ لاَ تُلحِقُهُ الْكَيْفِيَّةُ وَلا التَّشْبِيُه؛ لأَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الرُّبُوبِيَّةِ فَيَسْتَحْسِرُ الْعَقْلُ وَتَنْقَطِعُ النَّفْسُ عِنْدَ إِرَادَةِ الدُّخُولِ فِي تَحْصِيلِ كَيْفِيَّةِ الْمَعْبُودِ، فَلا تَذْهَبْ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لاَ مُعَطِّلاً، وَلا مُشَبِّهًا، وَارْضَ لِلَّهِ بِمَا رَضِيَ بِهِ لِنَفْسِهِ وَقِفْ عَنْد خَبَرِهِ لِنَفْسِهِ مُسَلِّمًا مُسْتَسْلِمًا مُصَدِّقًا، بِلا مُبَاحَثَةِ التَّمثيل وَلا مُنَاسَبَةِ التَّنْقِيرِ.
إِلَى أَنْ قَالَ: فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْقَائِلُ: (أَنَا اللَّهُ لاَ الشَّجَرَةُ )، الْجَائِي قَبْلَ أَنْ يَكُونَ جَائِيًا لاَ أَمْرُهُ، الْمُتَجَلِّي لأَوْلِيَائِهِ فِي الْمَعَادِ; فَتَبْيَضُّ بِهِ وُجُوهُهمْ، وَتُفْلَجُ بِهِ عَلَى الْجَاحِدِينَ حُجَّتُهُمْ، الْمُسْتَوِي عَلَى عَرْشِهِ بِعَظَمَةِ جَلاَلِهِ فَوْقَ كُلِّ مَكَانٍ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَأَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ، فَسَمِعَ مُوسَى كَلاَمَ اللَّهِ؛ لأنَّه قَرَّبَهُ نَجِيًّا، تَقَدَّسَ أَنْ يَكُونَ كَلاَمُهُ مَخْلُوقًا أَوْ مُحْدَثًا أَوْ مَرْبُوبًا، الْوَارِثُ بِخَلْقِهِ السَّمِيعُ لأَصْوَاتِهِمْ، النَّاظِرُ بِعَينهِ إِلَى أَجْسَامِهِمْ، يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ، وَهُمَا غَيْرُ نِعْمَتِهِ، خَلَقَ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ - وَهُوَ أَمْرُهُ - تَعَالَى وَتَقَدَّسَ أَنْ يَحُلَّ بِجِسْمٍ، أَوْ يُمَازِجَ بِجِسْمٍ أَوْ يُلاصِقَ بِهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، الشَّائِي لَهُ الْمَشِيئَةُ، الْعَالِمُ لَهُ الْعِلْمُ، الْبَاسِطُ يَدَيْهِ بِالرَّحْمَةِ، النَّازِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، لِيَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ خَلْقُهُ بِالْعِبَادَةِ، وَلِيَرْغَبُوا إِلَيْهِ بِالْوَسِيلَةِ، الْقَرِيبُ فِي قُرْبِهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، الْبَعِيدُ فِي عُلُوِّهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ بَعِيدٍ، وَلا يُشَبَّهُ بِالنَّاسِ.
إِلَى أَنْ قَالَ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } الْقَائِلُ {ءأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } تَعَالَى وَتَقَدَّسَ أَنْ يَكُونَ فِي الأَرْضِ كَمَا هو فِي السَّمَاءِ جَلَّّ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. أ هـ(1).