وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زَِمَنِِينَ - الإِمَامُ الْمَشْهُورُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ - فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي ( أَصُولِ السُّنَّةِ ) قَالَ فِيهِ:
بَابُ الإِيمَانِ بِالْعَرْشِ
قَالَ: وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْعَرْشَ وَاخْتَصَّهُ بِالْعُلُوِّ وَالارْتِفَاعِ فَوْقَ جَمِيعِ مَا خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَيْهِ كَيْفَ شَاءَ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَقَوْلِهِ تَعَالَى: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ } فَسُبْحَانَ مَنْ بَعُدَ وَقَرُبَ بِعِلْمِهِ، فَسَمِعَ النَّجْوَى. وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ؟ قَالَ: ( فِي عَمَاءٍ، مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ). قَالَ مُحَمَّدٌ: الْعَمَاءُ: السَّحَابُ الْكَثِيفُ الْمُطْبِقُ، فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَلِيلُ.
وَذَكَرَ آثَارًا أُخَرَ، ثُمَّ قَالَ: بَابُ الإِيمَانِ بِالْكُرْسِيِّ(1)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ الْكُرْسِيَّ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ، وأنَّه مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ الَّذِي فِيهِ التَّجَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الآخِرَة وَفِيهِ ( فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ هَبَطَ مِنْ عِلِّيِّينَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، ثُمَّ يَحُفُّ بالْكُرْسِيِّ مَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٌ بِالْجَوَاهِرِ، ثُمَّ يَجِيءُ النَّبِيُّونَ فَيَجْلِسُونَ عَلَيْهَا ).
وَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ يَحْيَى بْنُ سَالمٍ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ الْمَشْهُورِ: حَدَّثَنِي الْعلاء بْنُ هِلالٍ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: ( إِنَّ الْكُرْسِيَّ الَّذِي وَسِعَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ لَمَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَلا يَعْلَمُ قَدْرَ الْعَرْشِ إِلاَّ الَّذِي خَلَقَهُ ).
وَذَكَرَ من حَدِيثَ أَسَدِ بْنِ مُوسَى قال: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ( مَا بَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالَّتِي تَلِيهَا مَسِيرَةُ خَمْسمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْكُرْسِيِّ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ وَالْمَاءِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ).
ثُمَّ قَالَ: في بَابِ الإِيمَانِ بِالْحُجُبِ
قَالَ: وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الله بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ بِالْحُجُبِ فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا } وَذَكَرَ آثَارًا فِي الْحُجُبِ(2).
ثُمَّ قَالَ: فِي بَابِ الإِيمَانِ بِالنُّزُولِ.
قَالَ: وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَيُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحُدُّوا فِيهِ حَدًّا(3).
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَخْبَرَنَي وَهْبٌ، عَنِ ابْنِ وَضَّاحٍ، عَنْ الزهري عن ابْنِ عَبَّادٍ قَالَ: ومَنْ أَدْرَكْتُ مِنَ الْمَشَايِخِ - مَالِكٌ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، وَعِيسَى وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَوَكِيعٌ - كَانُوا يَقُولُونَ: إن النُّزُولُ حَقٌّ.
قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: وسَأَلْتُ يُوسُفَ بْنَ عَدِيٍّ عَنِ النُّزُولِ، قَالَ: ( نَعَمْ، أُؤْمِنُ بِهِ وَلاَ أَحَدُّ فِيهِ حَدًّا ) وَسَأَلْتُ عَنْهُ ابْنَ مَعِينٍ، فَقَالَ: (نعم أُقِرُّ بِهِ وَلاَ أَحُدُّ فِيهِ حَدًّا )(4).
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى العَرْشِِ فِي السَّمَاءِ دُونَ الأَرْضِ، وَهُوَ أيضًا بَيِّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَفِي غَيْرِ حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، قَالَ الله تَعَالَى:{يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } وَقَالَ تَعَالَى: {ءأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ }، وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وَقَالَ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ }، وَقَالَ تَعَالَى: {يا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } وَقَالَ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ }.
وَذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ قَوْلَ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لِلْجَارِيَةِ " أَيْنَ اللَّهُ؟ " قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: " مَنْ أَنَّا؟ " قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم. قَالَ: " فَأَعْتِقْهَا فأنَّها مُؤْمِنَةٌ ".
قَالَ وَالأَحَادِيثُ مِثْلُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَسُبْحَانَ مَنْ عِِلْمُهُ بِمَا فِي السَّمَاءِ كَعِلْمِهِ بِمَا فِي الأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ(5).
وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الإِيمَانِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ قَالَ: وَاعْلَمْ بِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ، يَرَوْنَ الْجَهْلَ بِمَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ عِلْمًا، وَالْعَجْزَ عَنْ مَا لَمْ يَدْعُ إِلَيْهِ إِيْمَانًا، وأنَّهمْ إِنَّمَا يَنْتَهُونَ مِنْ وَصْفِهِ بِصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ إِلَى حَيْثُ انْتَهَى فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ(6).
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: - وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ -: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ }، وَقَالَ: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } وَقَالَ: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي }، وَقَالَ: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا }، وَقَالَ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } وَقَالَ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ }، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالأَرْضُ جَمِيعـًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى }، وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا }، وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
فَهُوَ تُبَارَكَ وَتَعَالَى نُورُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَهُ وَجْهٌ وَنَفْسٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَيَسْمَعُ وَيَرَى وَيَتَكَلَّمُ، هو الأَوَّلُ وَلا شَيْءَ قَبْلَهُ، والآخِرُ الْبَاقِي إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ وَلا شَيْءَ بَعْدَهُ، وَالظَّاهِرُ الْعَالِي فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْبَاطِنُ بَطَنَ عِلْمَهُ بِخَلْقِهِ فَقَالَ: {وَهُوَ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ }، قَيُّومٌ حَيٌّ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ.
وَذَكَرَ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ صِفَاتُ رَبِّنَا الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، وَوَصَفَهُ بِهَا نَبِيُّهُ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا تَحْدِيدٌ وَلا تَشْبِيهٌ وَلا تَقْدِيرٌ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }، لَمْ تَرَهُ الْعُيُونُ فَتَحُدَّهُ كَيْفَ هُوَ، وَلَكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ فِي حَقَائِقِ الإِيمَانِ. أ هـ.