وَفِي كِتَابِ ( الْفِقْهِ الأَكْبَرِ) الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي رَوَوْهُ بِالإِسْنَادِ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيِّ؛ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ الْفِقْهِ الأَكْبَرِ.
فَقَالَ: لاَ تُكَفِّرَنَّ أَحَدًا بِذَنْبٍ، وَلا تَنْفِ أَحَدًا بِهِ مِن الإِيمَانِ، وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ. وَلا تَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وَلا تُوَالِي أحدًا دُونَ أَحَدٍ، وَأَنْ تَرُدَّ أَمْرَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ( الْفِقْهُ الأَكْبَرُ فِي الدِّينِ خَيْرٌ مِنَ الْفِقْهِ فِي الْعِلْمِ، وَلئنْ يَفْقَهَ الرَّجُلُ كَيْفَ يَعْبُدُ رَبَّهُ خَيْرٌ له مِنْ أَنْ يَجْمَعَ الْعِلْمَ الْكَثِيرَ ). أ هـ.
قَالَ أَبُو مُطِيعٍ: ( الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ) قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَفْضَلِ الْفِقْهِ قَالَ: تُعَلِّمُ الرَّجُلَ الإِيمَانَ وَالشَّرَائِعَ وَالسُّنَنَ، وَالْحُدُودَ، وَاخْتِلافَ الأَئِمَّةِ. وَذَكَرَ مَسَائِلَ الإِيمَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَسَائِلَ الْقَدَرِ، وَالرَّدَّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ بِكَلامٍ حَسَنٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ.
ثُمَّ قَالَ: قُلْت: فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فَيَتَّبِعُهُ عَلَى ذَلِكَ أُنَاسٌ فَيَخْرُجُ عَلَى الْجَمَاعَةِ هَلْ تَرَى ذَلِكَ؟ قَالَ: لاَ. قُلْتُ: وَلِمَ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالأَمْرِ الْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَهُوَ فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ؟ قَالَ: هو كَذَلِكَ، وَلَكِنْ مَا يُفْسِدُونَ أَكْثَرُ مَا يُصْلِحُونَ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَاسْتِحْلالِ الْحَرَامِ.
قَالَ: وَذَكَرَ الْكَلامَ فِي قِتَالِ الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ إِلَى أَنْ قَالَ: قَالَ ( أَبُو حَنِيفَةَ ) عَمَّنْ قَالَ: لاَ أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الأَرْضِ: فَقَدْ كَفَرَ؛ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ.
قُلْت: فَإِنْ قَالَ: إِنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: لاَ أَدْرِي، الْعَرْشُ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: هُوَ كَافِرٌ؛ لأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فِي السَّمَاءِ؛ لأَنَّهُ تَعَالَى فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لاَ مِنْ أَسْفَلَ - وَفِي لَفْظٍ - سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّنْ يَقُولُ: لاَ أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الأَرْضِ؟. قَالَ: قَدْ كَفَرَ؛ قال: لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، قَالَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَلَكِنْ لاَ يَدْرِي الْعَرْشَ فِي الأَرْضِ أَوْ فِي السَّمَاءِ، قَالَ: إِذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ فَقَدْ كَفَرَ(1).
فَفِي هَذَا الْكَلامِ الْمَشْهُورِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ كَفَّرَ الْوَاقِفَ الَّذِي يَقُولُ: لاَ أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الأَرْضِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْجَاحِدُ النَّافِي الَّذِي يَقُولُ: لَيْسَ فِي السَّمَاءِ [ أَوْ لَيْسَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ] وَاحْتُجَّ عَلَى كُفْرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } قَالَ: وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ.
وَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَأَنَّ الاسْتِوَاء عَلَى الْعَرْشِ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ بنَفْسه فَوْقَ الْعَرْشِ.
ثُمَّ إنَّه أَرْدَفَ ذَلِكَ بِتَكْفِيرِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى. وَلَكِنْ تَوَقَّفَ فِي كَوْنِ الْعَرْشِ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: لأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ؛ لأَنَّ اللَّهَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لاَ مِنْ أَسْفَلَ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ بِتَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ، وَاحْتُجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لاَ مِنْ أَسْفَلَ، وَكُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الْحُجَّتَيْنِ فِطْرِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَفْطُورَةٌ عَلَى [ الإِقْرَارِ ] بِأَنَّ اللَّهَ تعالى فِي الْعُلُوِّ، وَعَلَى أَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لاَ مِنْ أَسْفَلَ، وَقَدْ جَاءَ اللَّفْظُ الآخَرُ صَرِيحًا عَنْهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: إِذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ فَقَدْ كَفَرَ.
وَرَوَى هَذَا اللَّفْظَ بإسناد عَنْهُ شَيْخُ الإِسْلامِ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الأَنْصَارِيُّ الْهَرَوِيُّ فِي كِتَابِ ( الْفَارُوقُ ).
وَرَوَى أَيْضًا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ هِشَامَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيَّ - صَاحِبَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، قَاضِيَ الرَّيِّ، حَبَسَ رجلاً فِي التَّجَهُّمِ، فَتَابَ فَجِيءَ بِهِ إِلَى هِشَامٍ لِيُطْلِقَهُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى التَّوْبَةِ، فَامْتَحَنَهُ هِشَامٌ فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ، وَلا أَدْرِي مَا بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ،قَالَ:( رُدُّوهُ إِلَى الْحَبْسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتُبْ )(2).
وَرَوَى أيضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيِّ أَنَّهُ قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ بَائِنٌ مِن الْخَلْقِ)، وَقَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا، لاَ يَشُكُّ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ إِلاَّ جَهْمِيٌّ رَدِيءٌ ضِلِّيلٌ، وَهَالِكٌ مُرْتَابٌ، يَمْزُجُ اللَّهَ بِخَلْقِهِ وَيَخْلِطُ مِنْهُ الذَّاتَ بِالأَقْذَارِ وَالأَنْتَانِ.
وَرَوَى أَيْضًا عَنِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ لَمَّا سُئِلَ مَا قَوْلُ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ؟ قَالَ: ( يُؤْمِنُونَ بِالرُّؤْيَةِ وَالْكَلامِ، وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) فَسُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } فَقَالَ: اقْرَأْ مَا قَبْلَهَا { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ }(3).
وَرَوَى أيضًا عَنْ أَبِي عِيسَى التِّرمِذِيِّ قَالَ: ( هُوَ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا وَصَفَ فِي كِتَابِهِ، وَعِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ).
وَرَوَى عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ أَنَّهُ لما سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } فَقَالَ: ( تَفْسِيرُهُ كَمَا يُقْرَأُ، هُوَ عَلَى الْعَرْشِ، وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، ومَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ.
وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ اللاَّلَكَائِيُّ – الحافظ الطبري صَاحِبُ أَبِي حَامِدٍ الإِسْفَرَايِينِيِّ - فِي كتابه المشهور في ( أُصُولِ السُّنَّةِ) بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ - قَالَ: ( اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ عَلَى الإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ والأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فِي صِفَةِ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ: مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ وَلا وَصْفٍ وَلا تَشْبِيهٍ، فَمَنْ فَسَّرَ الْيَوْمَ شَيْئًا مِنْها فَقَدْ خَرَجَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَصِفُوا وَلَمْ يُفَسِّرُوا، وَلَكِنْ أَفْتَوْا بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ثُمَّ سَكَتُوا، فَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فَقَدْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ، لأَنَّهُ قَدْ وَصَفَهُ بِصِفَةِ لاَ شَيْءَ ). أ هـ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَخَذَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَطَبَقَتِهِمَا مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَقَدْ حكَى هَذَا الإِجْمَاعَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ تَصِفُهُ بالأُمُورِ السَّلْبِيَّةِ غَالِبًا، أَوْ دَائِمًا.
وقَوْلُهُ: ( مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ ) أَرَادَ بِهِ تَفْسِيرَ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعَطِّلَةِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا تَفْسِيرَ الصِّفَاتِ بِخِلافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِن الإِثْبَاتِ(4).