دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > إدارة برنامج إعداد المفسر > القراءة المنظمة في التفسير وعلوم القرآن

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #34  
قديم 1 جمادى الأولى 1443هـ/5-12-2021م, 12:19 AM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,754
افتراضي

(56) عيسى:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (56) عيسى
«عيسى» هو الاسم المسمى به المسيح عليه السلام في القرآن، بينما هو في أصول الأناجيل اليونانية يجيء على Iesou (يِسُو) تضاف إليه السين في حالة الرفع وتضاف إليه النون في حالة النصب فيصبح Iesous أو Iesoun (يِسُوس أو يِسُون). والمجمعُ عليه أنه من العبرية «يشوع». ذهبت عينها الخاتمة عند اليونان وانقلبت شينُها سينًا. ومن «يشوع» العبرية هذه جاء الرسم «يسوع» بالسين الذي تقرؤه اسمًا للمسيح في الترجمات العربية للأناجيل اليونانية الأصل، استئناسا بأن الشين تنقلب إلى سين في العربية، غالبًا، وهذا صحيح بالنسبة إلى الاسم العبري «يشوع» بالذات لأنه من المادة العبرية «يشع» التي تكافئ «وسع» العربية.
والمحقق الثابت أن العرب لم يسمعوا من نصرانييهم هذا الاسم عيسى الذي جاء به القرآن، وإنما سمعوها منهم «يسوع» بالسين على اللفظ الذي ينطق به نصارى السريان تحولاً عن الشين التي في «يشوع» العبرانية إلى السين التي في Iesous اليونانية في أصول الأناجيل.
أما لماذا قال القرآن «عيسى» ولم يقل «يسوع» التي عرفها العرب اسمًا للمسيح، فهذا من فرائد إعجاز القرآن في أعلامه الأعجمية: لو قالها «يسوع» على ما شاعت به، لفهمها العرب من العربية على معنى «الذي ساع» من ساع يسوع سوعًا، يعني ضاع وهلك، ولم يهلك المسيح على الصيب كما يؤمن الذين شبه لهم، فما قتلوه وما صلبوه، بل توفاه الله رافعًا إياه إليه، أي توفاه بأن رفعه إليه، سليمًا معُعافى لم تهلك منه شعرة، ولم يخدش منه ظفر، جسدًا حيًا ولم يزل، لا يموت إلا والساعة قريب، فهو من أعلام الساعة وأشراطها، ينزل في الناس بالحق الذي جاء به القرآن فيه ويصحح مقولة الذين شبه لهم، ثم يموت على دين خاتم النبيين كما مات الرسل من قبله ليبعث معهم يوم يقوم الأشهاد: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا} [النساء: 159].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/263]
وليس في أصل معنى «التوفي» في اللغة هو الإماتة، كما يخطئ مفسرون، وإنما «التوفي» في أصل معناه، بل وفي معناه القرآني بالذات، هو «الاستيفاء»، أي «الاستخلاص» كاملاً غير منقوص، تقول منه: وفيته حقه، وتوفي هو حقه، يعني أخذه كاملاً، ومن هذه قوله عز وجل: {وإنما توفون أجوركم يوم القيامة} [آل عمران: 185]. ومنه أيضًا: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42]. وإنما جاز «التوفي» بمعنى الإماتة لأن الموت مترتب عليه، أعني الذي مات إنما مات لأن الله «توفى» نفسه أي قبضها إليه، أي استخلصها من هذا الجسد. والذي في المسيح ليس من هذا، وإنما هو في المسيح على أصل معناه: التوفي بمعنى الاستخلاص كاملاً غير منقوص، دليلك في هذا قوله عز وجل: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55]، لو فهمتها بمعنى «إني مميتك ورافعك إلي» لما كان لكلامك معنى، فالله لا يرفع إليه جسدًا ميتًا، وهو أيضًا لا يرفع إليه نفسًا أميت جسدها بالتوفي، أي بتوفي النفس، وإنما هو يقبض الأنفس ولا يرفعها. وحتى إن سوغت لك نفسك هذا الفهم السقيم فقلت أن «الرفع» هاهنا بمعنى «القبض» فقد أمات الله إذن المسيح على هذه الأرض وقبض نفسه كما يقبض الله الأنفس، فماذا يبقى لديك من معنى الآية، وقد تقدمها مباشرة قول الله عز وجل: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} [آل عمران: 54] أي أرادوا صلبه وأراد الله بالمسيح شيئًا آخر؟ أفيصح أن يكون هذا الشيء الآخر هو أن يميت الله عيسى كيلا ينالوه حيًا، وكأن المعنى لم يقتلوه ولم يصلبوه وإنما أمتناه نحن بأيدينا لا بأيديهم؟ فما الإعجاز في هذا؟ أفي هذا إنجاء وتخليص؟ وما قيمة هذا في جنب مكر الله عز وجل وتدبيره وهو «خير الماكرين»، هذا هراء بالطبع لا يصح أن تقع فيه إن وقعت على مثله. وخلاصة قول المفسرين في هذا (راجع تفسير القرطبي للآية 55 من سورة آل عمران) أن المسيح عليه السلام رفع بجسده ونفسه معًا، أي رفع جسدًا حيًا، وأنه لم يزل كذلك، إلى أن يهبطه الله إلى الأرض ليموت عليها كما مات الأنبياء وكما يموت البشر وكل ذي نفس، لأن كل نفس ذائقة الموت كما أخبر القرآن. أما قولهم في التوفي ففريق على أنه بمعنى القبض، أي إني قابضك إلي ورافعك إلي، وكأن الرفع هو التوفي. وهذا من الحشو الذي لا يضيف جديدًا، فأنا وأنت ننزه القرآن عنه. أما الفريق الآخر الذي يصر على أن التوفي بمعنى الإماتة، فهو يقول أن في الآية تقديمًا وتأخيرًا، أي إني رافعك إلي
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/264]
ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد ذلك، أي حين يعيده إلى الأرض مرة أخرى ليشهد على الذين خاضوا في عبده ورسوله. وليس هذا أيضًا – أي التقديم والتأخير – بمقبول، لأنه يعكس ترتيب الأحداث منذ الرفع إلى التوفي وبينهما فجوة اتسعت حتى يومنا هذا لحوالي عشرين قرنًا من الزمان والله أعلم متى تلتئم الفجوة، ولا يصح في هذا تقديم وتأخير، وإنما هو خلط وتخليط ننزه أنا وأنت القرآن عنهما: لا حيلة لمن أراد التوفي في الآية بمعنى الإماتة إلا أن يسلم بخطئه، إن وقع التوفي بمعنى الموت أولاً على الترتيب الذي جاء به القرآن، فقد امتنع الرفع والتطهير، وإن افترض فيه تقديمًا يراد به التأخير، أي أراد معكوس الترتيب الذي في القرآن، فلا يصح له هذا إلا بافتعال لا يليق بجلال القرآن.
على أن هناك من قال كما نقول نحن أن التوفي في الآية هو بمعنى الاستيفاء على أصل معناه، ولكنه لم يوفق إلى استجلاء مراد القرآن من هذا الاستيفاء: قال إن الله عز وجل وقد رفع عيسى إليه حيًا لم يمت، إنما استوفى عمره في الدنيا، أي استكمله له، أي استوفى حياته على الأرض بين الناس. ولا يصح هذا من وجهين، الأول أن المسيح المرفوع لم يستكمل حياته على الأرض، بل سيعود إليها ليستوفي ما بقي له من عمره. والوجه الثاني أن هذا القول لا يصح في اللغة، لأن المفعول في «متوفيك» هو المسيح نفسه، لا عمر المسيح ولا حياته، فالمستوفي (بفتح الفاء) الذي استوفاه الله هو المسيح لا عمر المسيح، واستيفاء المسيح يعني استخلاصه مما أرادوه به، أي القتل والصلب، فهو الإنجاء والتخليص، الذي فسره القرآن المعجز بقوله عقيب هذا مباشرة: {ومطهرك من الذين كفروا} أي أسلك منهم كما يسل الحق من الباطل، وكما ينفض الوسخ عن الثوب. وقد ظن المفسرون – ولم يوفقوا – أن التطهير في الآية يعني إبراؤه من ذنب ما قالوه فيه، إله أو ابن إله، ولا يصح هذا أيضًا لأن قالة هذه المقالة ما كانوا قد ولدوا بعد، بل حتى إن سلمت كما يؤمن النصارى بأنهم قالوها وهو بين ظهرانيهم فما كانوا هم الذين طلبوا قتله على الصليب.
أما الذي لم يعلمه المفسرون جميعًا فهو أن القرآن المعجز يفسر بالتوفي، أي الاستنقاذ والتخليص، هذا الاسم العَلَم «عيسى» («يِشُوع» عبريًا) كما سترى، وسبحان العليم الخبير.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/265]
ينص القرآن على أن الله هو الذي سمى المسيح ابن مريم، لا والدته وذووه: {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين} [آل عمران: 54]، كما سمى الله يحيى من قبل لأبيه. والذي تلاحظه من هذه الآية في سورة آل عمران أن القرآن لا يسميه بالاسم عيسى فحسب، وإنما يلقبه أيضًا بهذا اللقب الذي غلب عليه من بعد: «المسيح». وهو لا يسميه ويلقبه فحسب، وإنما هو أيضًا ينسبه: «ابن مريم»، إن أردت أن تدعوه بأبيه فلا أب له غيرها.
أما اللقب، «المسيح» (مَشيح عبريًا)، فمعناهُ في مصطلح اليهود الممسوحُ، يريدون الذي مسح بدهن البركة (زيت الزيتون)، أي الذي صب الدهن على رأسه، ملكًا كان أو كاهنًا أو نبيًا، فيصير بهذه المسحة «قديسا»، يعني صديقا في لغة أهل القرآن وإن لغط بعض أهله في هذا العصر بالقديس والقديسين متابعة لأهل الكتاب الذين يقرءون لهم ولا قداسة ثم، وإنما هي الصديقية لا غير. وقد كانت هذه المسحة طقسًا من طقوس اليهود في كهنوتهم، يرسم بها الكاهن كاهنًا مثله، أو يرسم بها نبيًا «اعتمد» الكهنوت نبوته، أو يرسم بها الكاهن أو النبي ملكًا نصبوه على بني إسرائيل، أو يرسم النبي نبيًا يخلفه في النبوة، فهي الرسامة، أي التنصيب في الكهانة أو الملك أو النبوة. وقد آل اللفظ في مجاز العبرية إلى معنى «الصديق» وإن لم يرسمه كاهن أو نبي، فهو المبارك. ومسحاء الرب، يعني أولياؤه ومباركوه. «المسيح» إذن عربية بلفظها فقط، ولكنها أعجمية بمعناها، رغم التقارب اللفظي الشديد بين «مسيح» العربية وبين «مَشيح» العبرية – الآرامية، لغة المسيح ولغة أهله وعشيرته وحوارييه، لتخصيص معنى «المسح» بما ليس فيه عند أهل الكتاب، فينبهم عليك المعنى المراد من هذا الوصف، إلا إن كنت متضلعًا من مصطلحات اليهود العبرانيين، ناهيك بأن تكون لغتُك غير سامية، فلا تدري ما المراد من Messiah أو Messie، والانبهام يؤدي إلى التوهم والتضخيم فتذهب بك التوهمات كل مذهب في مدلول لقب «المسيح» دون أن تدري أن قد خَلَت من قبله المسحاءُ في بني إسرائيل بالألوف: إنه فحسب المبارك أو الصديق.
وقد فسر القرآن لفظ «المسيح» على معنى «المبارك» على لسان عيسى يوم أنطقه الله في المهد ليستعلن بنسبه ويتحدث بآلاء الله عليه: {قال إني عبد الله
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/266]
آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} [مريم: 30 – 33].
وتسمية القرآن عيسى ابن مريم بالمسيح يوم البشرى به لمريم، تفيد أنه مسيح من الله، أي مبارك منه جل وعلا، وإن لم يرسمه كاهن أو نبي، بل ولد «مسيحا»، تلك التي غلبت عليه، تعرفه بها وحدها دون أن يسمى لك بالاسم «عيسى» أو عيسى ابن مريم، فهو المسيح بإطلاق. وهي في المسيح عيسى عليه السلام لا تجيء إلا معرفة بالألف واللام، دالة على علميتها فيه وحده، فهي اللقب الذي اختص به.
والذي يدلك على اختصاص عيسى ابن مريم صلوات الله عليه بلقب «المسيح»، اجتزاء القرآن في ثمانية مواضع اجتزاءً مطلقًا عن الاسم «عيسى» بلقبه، «المسيح»، وهي: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله} [النساء: 172]، {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير} [المائدة: 17]، {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [المائدة: 72]، {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} [المائدة: 75]، {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 30 – 31].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/267]
والذي يستوقفك هنا أن هذه المواضع الثمانية بالذات هي الآيات التي شددت النكير على من قالوا إن المسيح إله على البنوة لله، وقد تعمد القرآن المعجز الاجتزاء فيها عن اسم عيسى بلقبه الملازم له، «المسيح»، لينبه من لم ينتبه إلى أن «الممسوح» يقتضي «ماسحا» يمسحه، وأن «المبارك» يقتضي من «يباركه» وأن الذي هو من جوهر الله على قول من قال، لا يحتاج إلى هذه «المسحة» أو هذه البركة من الله بالذات، ناهيك بأن يحتاج إليها من غيره، أو أن يسعى إليها عند يحيى بن زكريا ليعمده في ماء نهر الأردن شأن الساعين إلى هذا العماد على يد يحيى، فلما التقى النبيان امتنع عليه يحيى بتواضع الأنبياء قائلاً له: «أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي غلي؟ فأجاب يسوق وقال له اسمح الآن، لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر» (متى 3/ 14- 15).
وقد اعتل تلاميذ يحيى من بعد على تلاميذ المسيح باعتماد عيسى منه، ولم يعتمد يحيى من المسيح، فيحيى إذًا ارفع رتبة من عيسى وإلا لما احتاج إليه المسيح. ولكن الأناجيل ترد على هذا بأن عيسى لم يباشر مهام نبوته ولم يستعلن بها للناس إلا بعد مقتل يحيى: «وبعد ما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مرقس 1/ 14 – 15)، وهذا منطقيٌّ تمامًا، فلا يصح لمن يدعوان بنفس الدعوة أن يشوش أحدهما على الآخر بنفس المقولة: «وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهود قائلاً توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (متى 3/ 1- 2). ولكن التاريخ لم يحفظ لك ما كتب تلاميذُ يحيى في سيرة معلمهم مثلما حفظ لك في تلك الأناجيل ما كتبه تلاميذُ عيسى في سيرة يحيى والمسيح معًا. وقد حرص كاتبو الأناجيل – وكأنهم يردون على تلاميذ يحيى الذين ضاعت كتابتهم – حرصًا شديدًا على إثبات ما يعلي رتبة المسيح ابن زكريا، وبالغوا في هذا إلى حد الإغراق، من مثل قولهم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/268]
على لسان يحيى إنه ليس أهلاً لحمل حذاء عيسى (متى 3/ 11) ولا يجمل هذا بالأنبياء حتى في تواضعهم، بل هو اتضاع مقيت لا يليق البتة بمن اعتمد منه المسيح وشهد له بالنبوة ووصفه في تلك الأناجيل بأنه لم يقم في المولودين من النساء من هو أعظم من يوحنا (متى 11/ 9- 12)، ولكنه يستدرك فيقول في نفس الموضع «ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه»، يعني نفسه في قول شراح المسيحية، وحتى إن سلمت هذا فلا يصح أن ترتب عليه أن يحيى ليس أهلاً لحمل حذاء عيسى، لأنه تصاغر يسلب يحيى نبوته، ولأنه لا يصح الاتضاع ويكرم إلا لله عز وجل، فلا يصح اتضاع الأنبياء لغيره جل وعلا، ولا يصح أيضًا تفاخرهم على الناس أنبياء وغير أنبياء. وقد كان عيسى عليه السلام غاية في التواضع، يأبى على أتباعه أن يعظموه: «وفيما هو خارج إلى الطريق ركض واحد وجثا لهو سأله أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية. فقال له يسوع لماذا تدعوني صالحًا. ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله» (مرقس 10/ 17- 18). الذي يقول هذا لا تنتظر منه أن يعظم نفسه.
غالت الأناجيل إذن في تعظيم المسيح حتى أشرفت على المنزلق الخطر. ومن هذا حذر النبي الخاتم: «لا تفضلوني على يونس بن متى!» فالنبوة من الله عز وجل، يرفع درجات من يشاء، والموحي واحد، الفضل له والمنن فلا فاضل ولا مفضول.
وقد جرت هذه المغالاة في المسيح كما تعلم إلى شر كبير.
أما الاسم «عيسى» فقد جاء في القرآن على الإبدال من «يشوع» العبرية التي نطقها نصارى السريان للعرب على اللفظ «يسوع» تبركًا بسين «يشوع» التي في الرسم البياني في أصول الأناجيل، واحتفظت بها الترجمات العربية فقالت هي أيضًا «يسوع».
وأنت لا تظن بالطبع أن الملائكة يوم بشرت مريم بالمسيح كانوا يخاطبونها بهذا اللفظ العربي الذي في القرآن: «اسمه المسيح عيسى ابن مريم» وإنما خاطب الملائكة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/269]
مريم بلسان مريم، أي بالعبرية – الآرامية، فيقولون لها بالعبرية مثلاً: «ويقرا شمو همشيح يشوع بن - مريم»، أو يقولون لها بالآرامية: «شميه مشيحا يشوعا بار - مريم»، لم ينطقوها عيسى بالقطع، وإنما قالوها «يشوع».
قد علم القرآن هذا، كما علم أيضًا أن نصارى العرب يقولونها «يسوع». فلماذا تحول بها إلى «عيسى»؟
مر بك في تضاعيف هذا الكتاب أن القرآن يرفض التعريب حين يسيء التعريب إلى المعنى. أي حين تلتبس صورة الاسم في لفظه المعرب بلفظ عربي يغاير معناه معنى الاسم الأعجمي في لغة صاحبه، فما بالك بتعريب يفيد الضد من معناه؟
لم يرتض القرآن إذن هذا التعريب الذي وجده جاهزًا عند نصارى العرب ونصارى السريان: يشوع = يسوع. لأن «يسوع» هذه تعني في العربية «السائع الهالك» وما كان الله ليسمي المسيح بهذا المعنى المذموم يوم البشرى به، فلا يصح هذا في نبي مرسل من الله، بل لا يصح من آحاد الناس في مواليد الناس، وإلا لانقلبت البشرى إلى فاجعة. بل لا يصح هذا التعريب الببغائي أصلاً، لأن الله سماه بالعبرانية «يشوع» المراد منها العكسُ الصريح السائع الهالك الذي في صنوها اللفظي «يسوع» عربيًا.
ومر بك أيضًا أن القرآن حين يعدل عن التعريب فهو يعدل عنه إلى الترجمة.
أفتكون «عيسى» هي الترجمة العربية لمعنى الاسم العبراني «يشوع»؟ فما معنى عيسى عربيًا وهي لم تقع قط في كلام العرب؟
لا يصح اشتقاق عيسى عربيًا إلا من فعل ثلاثي أجوف معتل الوسط بالواو أو بالياء، عاس/ يعوس أو عاس/ يعيس. أما عاس/ يعوس بالواو فمعناه طاف بالليل، وعاس على عياله يعني كد وكدح عليهم، وعاس ماله يعني أحسن القيام عليه، وعوس يعوس عوسًا فهو أعوس، يعني دخل شدقاه عند الضحك. وأما عاس/ يعيس بالياء فالمستعمل منه «أعيس» (الزرع) أي لم يكن فيه رطب، «تعيست» (الإبل) يعني صار لونها أبيض تخالطه شقرة، فهي عيس. وليس في أي من هذه المعاني جميعًا – كما سترى – شيء يقارب، ناهيك بأن يطابق، معنى الاسم العبراني «يشوع»، وأصله «يهوشوع»، أي يهوا خلاص، أي خلاص الله.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/270]
قال بعض الصوفية أيضًا أن «عيسى» تجيء من «عسى»، ذلك الفاعل الناقص الذي يفيد الرجاء، فهو المرجو الذي فيه الرجاء. وفي هذا القول جمال كما ترى، ولكنه خطأ محض من حيث اللغة، فلا تصح عيسى التي بالياء بعد العين إلا من فعل أجوف معتل الوسط بالواو أو الياء كما مر بك، ولا تجيء قط من فعل معتل الآخر فحسب كالفعل «عسى». هذا الصوفي إن تمعنت، ينسق مقولته على تفسير النصارى لمعنى الاسم «يشوع»، التي يقولون إن معناها «المخلص» الذي يكون به الخلاص. وهذا أيضًا – على الجانب المسيحي – تفسير صوفي يفسر الاسم، لا بمعناه في اللغة، وإنما بما يراد له أن يكون.
لم تجيء «عيسى» إذن في القرآن على الترجمة من «يشوع»، ولم تجيء أيضًا على التعريب لبعد ما بين الصورتين «عيسى»، «يشوع» («يسوع» في الأناجيل العربية التي نطق بها نصارى العرب قبل القرآن). فمم جاءت «عيسى»؟
الصحيح أن القرآن لم يعتمد هذه الصورة المعربة «يسوع» التي نطق بها نصارى العرب، التي وجدها جاهزة عند نزوله، لأنها – إن حسبت عربية – تجيء من ساع/ يسوع يعني ضاع وهلك، فهو السائع الهالك، على الضد من معنى «يشوع» العبرانية، خلاص الله أي الذي يخلصه الله وينجيه، فجاء القرآن بالاسم «عيسى» على غير مثال في العربية، مقلوبًا لاسم «يسوع» لإفادة عكس معناه: ليس هو السائع الهالك وإنما هو المخلص الناجي. وأصل المقلوب التام لاسم «يسوع» نطقا هو «عوسى» (بفتح السين وسكون الياء) وليس من أوزان العربية، فعدل به القرآن إلى «عيسى»، زنة «سيما»، اكتفاءً في القلب بدلالة نقل عين «يسو» الخاتمة من آخر الاسم إلى أوله. وبقيت «عيسى» أعجمية غير عربية، تمامًا كأصلها العبري «يشوع»، يفسرها القرآن بالمرادف: «يا عيسى إني متوفيك» أي مستخلصك.
لم يتسم المسيح عليه السلام بالاسم «يشوع» على غير سابقة في أعلام العبرانيين وإنما تقدمه أكثر من يشوع، أول وأبرز من تسمى به قبله عَلَمُ سبق مولد المسيح بنحو ثلاثة عشر قرنا، هو «يشوع بن نون» فتى موسى في سورة الكهف، الذي خلف موسى على رأس بني إسرائيل. كان اسم يشوع بن نون في الأصل (عدد 13/ 8) «هوشيع»، ولكن موسى عليه السلام لم يرتضه له فأبدله منه (عدد
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/271]
13/ 16) الاسم «يهوشوع»، ثم تخفف «يهوشوع» فصار إلى «يشوع» اختصارًا، وهذه الصورة الأخيرة «يشوع» هي المعتمدة في الترجمة العربية للعهد القديم (سفر يشوع) لاسم فتى موسى يشوع بنون نون.
هذه الصور الثلاث: هوشيع – يهوشوع – يشوع، منحوتة كلها من الجذر العبري «يشع» (المبدل من «وسع» العربي)، ومعناه من الإيساع والسعة، مقصورًا في العبرية بالذات على معنى واحد، وهو الخروج من الضيق إلى السعة، يعني الخلاص والتخليص، وبهذه المادة العربية (الخلاص والتخليص) يترجم المترجم العربي للعهد القديم كل مشتقات مادة «يشع» العبرية في توراة الأنبياء والكتبة.
أما الصورة الأولى «هوشيع» (التي لم يرتضها موسى اسمًا لفتاه فأبدله منها يهوشوع) فهي – أي «هوشيع» - تسمية بالمصدر من «يشع» بعد تعديته عبريًا بالهاء (وهي التعدية بالهمزة في العربية) فيكون المعنى «إيساع» أي التخليص والإنجاء، فهو خلاص ونجاء.
وأما الصورة الثانية «يهوشوع» فقد نحتها موسى عليه السلام من مقطعين عبريين هما: يهو + شوع، الأول مختصر يهوآ، اسم الله عز وجل في العبرية منذ موسى عليه السلام كما مر بك، والمقطع الثاني «شوع» مصدر بمعنى السعة، أي الخلاص والنجاء، فيكون معنى هذا التركيب المزجي هو «الله خلاص ونجاء». أراد موسى عليه السلام بهذا التعديل الذي أدخله على اسم فتاه يشوع بن نون التنبيه إلى أن الله عز وجل هو «الفاعل» في هذا الخلاص وهذا النجاء، أي لست يا «هوشيع» خلاصًا ونجاء، وإنما بالله عز وجل الخلاصُ والنجاء، فالله هو مخلصك ومنجيك.
ولأن الصورة الثالثة لاسم فتى موسى (أعني صورته بالرسم «يشوع») هي نفسها الاسم «يهوشوع» مختصرًا كما يقول علماء العبرية وعلماء التوراة، فهي لا تحتاج إلى مزيد بيان: إنها نفسها «يهوشوع» التي نحتها موسى عليه السلام، «الله خلاص ونجاء» يعني الله مخلصه ومنجيه.
هذا هو معنى «يشوع» عبريًا، اسم المسيح عيسى عليه السلام: «الله مخلصه ومنجيه». وهي من الله عز وجل تسميةٌ على النبوءة، لأنه هكذا كان: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا} [آل عمران: 55]. وقد تقدم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/272]
ورغم أن علماءَ المسيحية يعلمون كما تعلم أنت الآن أن «يشوع» المسيح عليه السلام سمى لفتى موسى يشوع بن نون، وأن معنى يهوشوع قبل اختصاره إلى يشوع هو «الله خلاص ونجاء» أي أن الله مخلصه ومنجيه، فقد نحوا منحى آخر في تفسير اسم يشوع المسيح من دون كل «يشوع»: قالوا إنه ليس من «يهوا + شوع»، ولكنه «يهى – يهى + شوع» يعني «هو – يكون - خلاصا» أي هو المخلص الذي يكون به الخلاص، وهو تفسير مفتعل، لأن هذا بالذات هو الذي نعاه موسى على اسم فتاه «هوشيع» كما مر بك. ولو أريد للمسيح أن يكون بذات اسمه «يشوع» هو الخلاص والنجاء، تسمية بالمصدر، فهو المخلص المنجي، لسمى «هوشيع» على ما كان عليه اسم فتى موسى «هوشيع بن نون» قبل تعديله إلى «يهوشوع» التي آلت إلى «يشوع» كما يقول علماء العبرية وعلماء التوراة، دون الحاجة إلى افتعال إضمار «يِهِيِ – يِهيِ» (أي «هو يكون») قبل المقطع «شوع».
ثم لماذا ينفرد «يشوع المسيح» بهذا الإضمار المخصوص «يِهِي – يِهي» من دون كل «يشوع» سبقه أو تلاه، بل وما الدليل على هذا من التسمية؟ ألأن «ملك الرب» الذي ظهر ليوسف النجار في الحلم قال له: «فستلد ابنًا وتدعو اسمه يسوع. لأنه يخلص شعبه من خطاياهم» (متى 1/ 21)؟ فلماذا لم يسمه جبريل لمريم على أصل هذا المعنى «هوشيع» أي الخلاص، أو يسمه «المخلص» مباشرة أي «موشيع» زنة الفاعل؟ ولكن لم يلتفت أحد لقول الملك ليوسف النجار عقيب هذا مباشرة: «وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا» (متى 1/ 22- 23). أفليست «عمانوئيل» هذه تعني «الله معنا» كما قال متى؟ فما معنى الله معنا؟ أليس معناها الله ناصرنا ومؤيدنا؟ ألا يقترب هذا كل الاقتراب من معنى «يشوع» التي أصلها «يهوشوع» أي الله خلاصه ونجاؤه؟ ولكن اللاهوت المسيحي لا يرى هذا وإنما يرى أن هذا الطفل المبشر به هو نفسه «الله»، يولد من العذراء ويعيش معنا زمنًا فهو نفسه «الله معنا». وهذا هو التفسير بالعقيدة لا التفسير بمحض اللغة. على أن النبوءة لم تقل إن الله سيعيش معنا، وإنما قالت تحمل العذراء وتلد مولودًا «يسمونه» الله معنا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/273]
فحسب، لا أن الله سيجيء إلينا ليكون معنا. إذا قلت لك: الله معك! فلا يصح أن تفهم عني أن الله معك بذاته، أو أنك أنت من ذات الله، وإنما الذي تفهمه ببساطة أني أدعو لك الله أن تصحبك عنايته، لا أكثر ولا أقل، ولكن هكذا كان.
والذي يعنينا هنا في مقاصد هذا المبحث هو أن نعرف لماذا لم يرد علماء المسيحية – خلافًا لعلماء العبرية – أن يكون معنى الاسم «يشوع» في المسيح وحده هو نفس معناه في غيره، ناهيك بأول من تسمى به: يشوع بن نون، الذي سماه موسى عليه السلام بالاسم «يهوشوع» المختصر من بعد إلى «يشوع»، التي فشت في أعلام العبرانيين من بعده، حتى سمى بها المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام.
أراد علماء المسيحية من المسيح أن يكون بذاته هو الخلاص «هوشيع» الذي يكون به الخلاص، فهو فادى البشر بدمه المسفوح على الصليب، لم يخلصه الله من الصلب كما في القرآن، فلا يصح أن يكون اسمه بمعنى الذي يخلصه الله وينجيه «يهوشوع».
أسقط علماء المسيحية إذن اسم الله «يهوا» المضمر في «يشوع» (التي أصلها «يهوشوع» أي «يهوا + شوع» كما مر بك)، فبقيت «شوع» فأضمروا قبلها – لا يهوا اسم الله في العبرية – وإنما «يِهِي – يِهِي» (أي «هو يكون») فأصبح معناه عندهم «هو يكون الخلاص»، يريدون هو «المخلص المنجي»، لا «المخلص الناجي» كما فسر القرآن هذا الاسم في قوله عز وجل: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا} [آل عمران: 55] يعني الله مستخلصك (وهي نفسها – عبرانيًا – يهوشوع التي جاء منها «يشوع» اسم عيسى في الآية) أي مستوفيك كاملاً غير منقرص.
لم ير علماء المسيحية ضيرًا في هذا «الإبدال»، لأن «الابن» عندهم من جوهر «الآب»، وإذن فهو هو. بل إن الكلمة (أي المسيح) كما قال يوحنا في إنجيليه «كان عند الله، وكان الكلمة الله» (يوحنا 1/1). وقد كفر القرآن قاله هذه المقولة كما تعلم، وتبرأ منها المسيح عليه السلام في القرآن: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فيما توفيتني
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/274]
كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 117]، لم يدع إليها هو، ولم تقل له وهو بين ظهرانيهم، ولكنها قيلت بعده.
فلماذا وكيف، تبدل الناس قولاً غير الذي قيل لهم؟
بعث عيسى عليه السلام ابن ثلاثين سنة رسولاً إلى بني إسرائيل حوالي سنة ست وعشرين ميلادية، وفلسطين يومئذ ولاية رومانية تحكمها روما مباشرة، وروما يومئذٍ والعالم القديم كله، وثني مشرك، إلا بني إسرائيل، الشعب الذي يعبد الواحد الأحد منذ إبراهيم. وقد تندهش كيف يبعث الله الرسل إلى شعب موحد، بل وكيف يخصه بجم غفير من رسله وأنبيائه، فلا يكاد يخلو منهم جيل إلا وقد كان معه طبيب يطببه ويداويه. ولكنك تستدرك على نفسك فتقول أن داء العارف الجاحد أعتى من ضلالة حائر يلتمس من يهديه.
كانت رسالة المسيح إذن – شأنه شأن من سبقه – قاصرة على هذا الجيل الضال من «بني الأنبياء» الذين حار فيهم طب النبوة، لا تعدوهم إلى غيرهم من أهل الأرض وثنيين ومشركين. نص المسيح على هذا في الأناجيل بعبارة قاطعة لا تحتملُ التأويل: «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة» (متى 15/ 24).
لهذا، لم تكن رسالة المسيح إلى قومه رسالة إلى التوحيد، لأن دعوة التوحيد نداء واقر في سمع هذا الشعب من قديم، لا يحتاجون إلى من يدلهم عليه. وإنما كانت دعوته عليه السلام في قومه دعوة إلى توحيد من نوع آخر دأبوا على مخالفته والخروج عليه: التوحيد بين الظاهر والباطن، بين القلب والقول، بين الفكر والجوارح، بين الإيمان وبين العمل على مقتضى هذا الإيمان.
كان عليه السلام في دعوته – كما تنطق بهذا أقواله في الأناجيل – يبني على ما جاء به الذين تقدموه، موسى وإبراهيم، وما كان لك أن تنتظر غير هذا ممن قال ما جئت لأهدم الناموس والأنبياء، وإنما جئت لأكمل، ناهيك بأن تنتظر منه مقولة غير مسبوقة في توحيد الله عز وجل تضيف إليه عيسى وجبريل، كالتي صبغت من
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/275]
بعده مرحلة بعد مرحلة في المجامع، مجمعًا بعد مجمع، تثلم هذا التوحيد الخالص الذي جاء به موسى وإبراهيم، فتبعض ذات الواحد إلى آب وابن وملك.
والذي ينبغي التنبيه إليه، أيا كان الدين الذي به تدين، أن كلمة الرسول في لب العقيدة وجوهرها لا تؤخذ من فم الشراح، تلاميذ وغير تلاميذ، كهنوتا وغير كهنوت، وإنما تؤخذ من فم صاحب الرسالة نفسه، يقولها جلية بينة فيفهم عنه سامعوه مباشرة، دون وسيط، عالمهم وجاهلهم سواء، ثم يتناقلونها من بعده خلفًا عن سلف، اللفظة باللفظة، والحرف بالحرف، لأن النبي لم يقل لهم هذا الكلام من عنده وإنما من عند الذي أرسله، أي من الله عز وجل، لا يجوز فيه التبديل، ولا تجوز فيه الإضافة ولو بقصد التفسير والتوضيح: النبي الذي يحتاج فهم مقولته إلى تفاسير شراح يجيئون بعده بقرون، يتفقون ويختلفون، ويتجادلون ويتناظرون، ثم يقترعون بأغلبية الأصوات في المجامع أيهم المخطيء وأيهم المصيب، ليس بنبي، لأنه لم يحسن تبليغ الرسالة كما أنزلت إليه.
لم يكن هذا بالطبع حال المسيح عليه السلام، حاشاه أن يكون. الذي أبلغ فأدى. يكفيك من محكم قوله في تأصيل عقيدة التوحيد الخالص «لا إله إلا الله» قوله المحفوظ في الأناجيل التي بين يديك حين سُئِل عن أعظم الوصايا في توراة موسى فأجاب: «إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى. وثانية مثلها هي: «تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين»، فقال السائل: «جيدا يا معلم، بالحق قلت، لأنه الله واحد وليس آخر سواه». علم المسيح أن قد اطمأن قلب السائل فقال له: «لست بعيدا عن ملكوت الله»، ولم يجسر أحد بعد ذلك القول الفصل أن يسأله (راجع مرقس 12/ 28 – 34) فقد جاء المسيح على دين موسى.
استحسن السائل قول المسيح، واستحسن المسيح تعقيب السائل فبشره بأنه من الجنة قريب وكأنه يزكيه لقومه، من كان له مثل إيمان هذا السائل فعمل به، فدخل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/276]
الجنة: توحيد الله عز وجل والإحسان إلى الجار، ولو أحسن كل جار إلى جاره لكانت الحسنى في الخلق جميعًا.
بالتوحيد المطلق «لا إله إلا الله» قال المسيح كما رأيت من نص كلامه في هذه الأناجيل، وبالتثليث قال منتسبون إليه في المجامع، فأي الفريقين أولى بالاتباع؟
ولكنك لا تعدم من يقول لك إن التثليث أيضًا توحيد، لأن الآب والابن والروح القدس ثلاثة في واحد. إنهم ثلاثة أوجه للذات الإلهية أو ثلاثة أقانيم، تتمايز لنا نحن البشر، وتجتمع في الله الواحد. وليس هذا من وحي الله في شيء، وإنما هو من تهافت متفلسفة اللاهوت، يرقعون قولاً بقول، جرهم إليه القول بآب وابن وملك. وما كان بهم إلى هذا من حاجة لولا أنهم حكموا المتشابه في المحكم ولم يقيدوه به، ولولا إساءتهم فهم لفظتي الآب والابن العبرانيتين – الآراميتين كما سوف ترى.
وهل أحكم من قوله عليه السلام يردد قول موسى في التوراة: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد؟ أفيقول هذا لمن سأله عن الوصية الأولى والعظمى، وهو يضمر في نفسه أنه وجبريل إلهان إلى جوار الله عز وجل؟ أليس قد وعد المسيح هذا السائل بالجنة إن مات على توحيد الله عز وجل؟ فماذا لو قيل لهذا السائل من بعد المسيح إن الله ثالث ثلاثة؟ أفيصدقهم هم ويكذب المسيح؟ فمن يضمن له الجنة بقولهم؟ أفالضمان عليهم؟ فكيف يترك ضمان المسيح إلى ضمانهم هم؟ ب لمن يضمن لهؤلاء القائلين الجنة وقد خالفوا الوصية الأولى والعظمى التي لقنها المسيح هذا السائل؟
بل علام اتكأ القائلون هذه المقولة؟ أفي الأناجيل الأربعة التي بين يديك قول واحد قاله المسيح ينص على أن الله ثالث ثلاثة، أو ينص على أن الثلاثة في واحد؟
وإذا كان الثلاثة واحدًا، فلماذا يقال أصلاً ثلاثة وهم في النهاية واحد؟
وإذا كان الله اثنين فقط في مقولة أصحاب مجمع نيقية عام 325م، فلماذا، تثلث بإضافة جبريل بعد مجمع نيقية بخمسين سنة؟ وما شأن من قال باثنينية الآب والابن وناضل عنها وجادل بها ومات عليها قبل أن يتأله جبريل أيضًا؟
بل ما شأن موسى والنبيين من قبل ومن بعد الذين تقدموا المسيح وقد دعوا إلى التوحيد الخالص وماتوا عليه؟ أليسوا مع المسيح في الجنة؟ فلماذا تكتم الله
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/277]
التثليث عليهم وعلى من بعثوا فيهم فاستجابوا لهم وماتوا على ما دعوا إليه فدخلوا الجنة؟
أفقد ارتضى الله التوحيد الخالص من الخلق أجمع قبل عيسى، ثم أغلظ على الخلق من بعده فاشترط عليهم التثليث لدخول الجنة؟
وإذا كان القول بالتثليث هو وحده المدخل إلى الجنة كما يقول علماء المسيحية، فلماذا تكتمه المسيح على الناس؟ أفقد جاء ليضلهم عنه أم ليهديهم إليه؟
أفقد تكتمها على هذا السائل عن الوصية الأولى والعظمى، وأسرها في آذان بعض تلاميذه ليستعلنوا بها للناس من بعده؟ أفهو النبي أم هم الأنبياء؟
وهب أنه أسرها لتلاميذه وحوارييه ليعلنوها للناس من بعده، فكيف لم يسجلوها هم أو الآخذون عنهم في هذه الأناجيل وقد كتبت كلها بعد رحيله، أو يحذفوا منها جواب المسيح على هذا السائل عن الوصية الأولى والعظمى: «اسمع يا إسرائيل! الرب إلهنا رب واحد» وتعقيب السائل وقد اطمأن قلبه بهذا الجواب: «بالحق قلت، لأنه الله واحد، وليس آخر سواه!»؟ أليست هذه هي نفسها شهادة المسلم: «لا إله إلا الله»؟ فكيف خفيت على مجمع نيقية وعلى المجامع من بعد نيقية؟ بل كيف خفيت على أساقفة نجران في حوارهم ثلاث ليال مع خاتم النبيين في يثرب؟
هذا الذي أنكر أن يقال له «أيها المعلم الصالح» فقال «ليس صالحًا إلا واحد وهو الله»، الذي أبى أن يكون صالحًا مع الله، كيف يظن به أنه الله أو إله مع الله؟
الذي قال: «أيها الآب! كل شيء مستطاع لك، فأجز عني هذه الكأس! ولكن ليكن لا ما أريد أنا، بل ما تريد أنت» (مرقس 14/ 36)، الذي سجلت الأناجيل له هذا الكلام، الذي يبتهل إلى «الآب» (وهو الرب كما قد علمت) ويسأله ويدعوه ويستغيثه، ثم يفوض الأمر إليه ويذعن للمشيئة، كيف يقال إنه «ابن الآب» وإنه والآب واحد، إله في الله، أو إله مع الله؟
هب أن المسيح صلب بالفعل وقبر ثم قام من قبره في اليوم الثالث كما يؤمن المسيحيون جميعًا، فلمن معجزة القيامة من بين الأموات؟ أللمقبور في قبره، الذي قال على الصليب: «يا أبتاه (يعني يا رباه كما قد علمت) في يديك أستودع روحي» (لوقا 23/ 46)، ولا فعل لميت، أم المعجزة لله الذي لا غله إلا هو الحي الذي لا يموت؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/278]
ولماذا يؤله المسيح وحده بهذه المعجزة؟ أليس سيقوم الخلق جميعًا، برهم وفاجرهم، يوم القيامة لله الواحد القهار؟
ولماذا لم يؤله «لعازر» الذي أحياه عيسى بإذن الله فانشق عنه القبر وخرج يدب على قدميه مدرجًا في أكفانه؟ ولماذا لم يؤله أيضًا عيسى يوم «أحيا» لعازر؟
ولماذا أيضًا لم يؤله نبي الله اليشع (اليسع) والصبي الذي «أحياه» كما تقرأ في العهد القديم (الملوك الثاني 4/ 17- 37)؟
ألأن المسيح ارتفع جسدًا حيًا أمام أعينهم إلى السماء؟ فلماذا لم يؤله أحد نبي الله إيليا (إلياس) الذي تقرأ في العهد القديم (الملوك الثاني 2/ 11- 12)، أنه ارتفع إلى السماء جسدًا حيًا تحت سمع وبصر تلميذه نبي الله اليشع (اليسع)؟
نعم، ثم فرق بين رفع إيليا ورفع المسيح: «أخذ» الله إيليا قبل أن يأخذه أعداؤه، لم يمسوه بسوء، أما المسيح في رواية الأناجيل فقد مكن الله منه أعداءه الذين رفعوه على الصليب حتى الموت، ثم دفن، ليبعثه الله من بعد يطمئن تلاميذه، ثم يأخذه الله إليه. ولكن أيهما أليق وأكرم؟ أفي صلب الأنبياء كرامة؟ ناهيك بأن يقال إن المسيح إله أو ابن إله، فكيف يصلب «الإله» أو يترك «ابنه» للصلب على أيدي بشر ممن خلق؟
لا بد لهذا من علة، هكذا قال مؤلهو المسيح على البنوة لله: شاءت محبة الله الفائقة للبشر الذين عصوه ويعصونه منذ أبيهم آدم، أن يكفر عنهم بقربان يعدل جسامة هذا العصيان، فلم يجد قربانا أكرم من المسيح يبذله فداء للبشر، فضحى بابنه الوحيد فداءً للخلق. وتستطيع أن ترد على هذا بقولك: فلماذا خلق الله جهنم للعصاة وهو ينتوي افتداءهم بالمسيح؟ وإذا كان المسيح قربانًا من ذات الله لله، فمن المضحي وهو نفسه الأضحية؟ وهل يُكَفِّرُ اللهُ المعاصي بالقرابين شأن آلهة الأساطير أم يُكَفِّرُها بالتوبة والطاعة؟ وهل كان الذين صلبوا المسيح يقدمون لله قربانًا، أم أن الله هو الذابح والذبيح؟ وإذا كان المسيح لم يضره هذا الصلب، ولم يفسد له جسد بل انبعث بجسده من قبره لم يمسسه سوء فبم كان الفداء؟ أليس قد شبه الله عليهم؟ وهل يليق بجلال الله عز وجل الذي وسع كرسيه السموات والأرض أن يتحيز في جسد بشر، أو تكون له أم تحنو عليه وترضعه وتفطمه وتغذوه؟ ربما قيل لك إن الله عز وجل إذا ارتضى أمرًا فعله، لا يحد من قدرته شيء، وما جاز لمردة سليمان في
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/279]
قماقمهم أهون على الله عز وجل، الذي اتخذ من مريم العذراء جسدًا تلبس به زمنًا على الأرض، لا يعجزه تصريف ملكه من محبسه وتدبير ملكوته، لأنه سبحانه كُلِّيُ القدرة، يتعاظم فلا تدركه الأبصار، ويتضاءل إن شاء فيتلبس بالنملة والهباءة. هذا من تلبيس إبليس، يزينه لأوليائه. أما أن قدرته عز وجل لا تحد، ما شاء فعل، فهذا مسلم مقطوع به في جنب الله عز وجل بمقتضى ذات ألوهيته. ولكنك تحيل على الله المحال، لأن المحال عدم، والعدم غير مقدور، يعني لا تتعلق به قدرة أو عجز. والمحال في حقه جل وعلا أن يكون إلهًا وغير إله، الخالق والمخلوق، أن يحده الزمان والمكان وهو خالق الزمان والمكان، أن يجلد ويصلب مريدًا بذاته العلية الذلة والمهانة وهو العزيز الجبار، أن يموت ولو للحظة الحي الذي لا يموت، أو يتضع لخلقه الكبير المتعال. ولماذا المحال؟ لأن محبته «الفائقة» للبشر قد غلبته؟ ألا لو ظن هذا البشر فسحقًا للبشر أجمع.
ثم من قال أن الله «شاء» افتداء البشر من معاصيهم بقربان من ذاته يقدمه إليهم لا بقربان منهم يقدمونه إليه ثم يقال إن الله ما شاء فعل؟ من قال إن الله «شاء» هذا؟ لا يصح الخبر بمشيئة الله إلا لنبي، ولا يجوز التزيد على الأنبياء، فما بالك بخائضين في ذات الله يتركون محكم القول إلى متشابهه؟ قد قال المسيح في هذه الأناجيل أنه يأتي بعده أنبياء كذبة كثيرون تعرفونهم من ثمارهم، أي بما يدعون الناس إليه، بل وقال بالنص: «ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات. كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب، أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم» (متى 7/ 21- 23). ليس من يريب المسيح بداخل ملكوت السموات، وإنما يدخله «الذي يعمل إرادة أبي الذي في السموات»، يعني الذي يعمل مشيئة الله، الذي يأتمر بأمره وينفذ وصاياه، فكيف ينفذ وصايا الله الذي يخالف أولى وصاياه: اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد، أي الله واحد وليس آخر سوه، كما قال ذلك السائل المسيح عن الوصية الأولى والعظمى وأخذها من فم المسيح نفسه، لا يسأل عنها أحدًا بعده، فمات عليها، فدخل الجنة.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/280]
كان هذا كله بالطبع مثار جدل عنيف بين المسيحيين من بعد المسيح، مؤلهين وغير مؤلهين. وليس لديك شاهد على ما قاله غير المؤلهين بلسانهم، فلم يحفظ لك التاريخ إلا مقولة المؤلهة وحدهم، الذين استقرت مقولتهم بعد قرون من رفع المسيح، واتهم مخالفوهم بالهرطقة، أن قالوا ليس الابن من ذات جوهر الآب، وطورد قائلو هذه الهرطقة وحرقت أناجيلهم فلم يعد لديك دليل مقطوع به من كتابتهم، كالشأن في تلاميذ يحيى بن زكريا عليهما السلام. ولكن الدليل على مقالتهم المخالفة لمقولة مجمع نيقية المنعقد سنة 325م للفصل في الخلاف حول طبيعة المسيح بن المسيحيين أنفسهم هو مجمع نيقية نفسه، ولو لم يكن على طبيعة المسيح خلاف بين أتباعه لما كانت هناك حاجة أصلاً إلى انعقاد هذا المجمع وما تلاه من مجامع.
هذا يدلك على حكمة الله عز وجل من فتنة الناس بالمسيح: أغزر على يديه الآيات منذ أنطقه في المهد مولودًا بغير أب، وتتابعت على يديه المعجزات حتى إحياء الميت، ثم شبه لهم قتله على الصليب حتى لم تبق لأحد شبهة في أنه الذي مات، ليتراءى لهم من بعد جسدًا حيًا يكلمهم ويؤاكلهم ثم يرتفع أمام أعينهم إلى السماء جسدًا حيًا.
وقد مر بك في تضاعيف هذا الكتاب أن الله عز وجل يفتنُ الناس في هذه الدنيا بما شاء، وكيفما شاء، بل ويفتنهم بالملائكة رضوان الله عليهم كما رأيت من قبل في الفتنة بهاروتَ وماروت، ومر بك أيضًا أن الفتنة من الله عز وجل هي على أصل معناها في اللغة، اختبار وتمحيص، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيي من حي عن بينة.
ولأن المسيح عليه السلام هو آخر رسل الله إلى بني إسرائيل، فقد شاءت حكمته عز وجل أن تكون الفتنة بالمسيح في شعب التوحيد منذ إبراهيم فتنة في هذا التوحيد نفسه الذي تعالوا به على جيرانهم من قديم، ولو كانت بعثة المسيح في شعب وثني يعدد آلهته لما كان لفتنهم بالمسيح من معنى أن أضافوا ابنا جديدًا لكبير آلهة الأولمب وذراريه. بل أراد الله عز وجل التمحيص الأخير لصدق إيمان الذين استتاب
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/281]
موسى آباءهم من عبادة العجل في التيه. الذين قال لهم موسى: «اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد» (تثنية 6/ 4) فأجاب بها المسيح ذلك السائل عن الوصية الأولى في الناموس.
لا يستقيم هذا مع قول من قالوا الآب والابن واحد، ثم أضافوا إليهما من بعد جبريل، ثلاثة أوجه في ذات الواحد أو ثلاثة أقانيم. ترى ماذا يبقى من المسيح الذي عرفوه وقد فنى في ذات الله وفنى جبريل؟ ليس بعد هذا التشبيه تشبيه.
ليس هذا من قول المسيح في الأناجيل التي بين يديك، ومن ثم فهو لا يلزمك. فلا أحد يأخذ دينه من أفواه الفلاسفة أو الشعراء، وإنما يأخذه من فم صاحب الرسالة نفسه، المبلغ عن ربه، الذي قال في هذه الأناجيل يناجي ربه: «أنت الإله الحقيقي وحدك» (يوحنا 17/ 3). هذا هو الأصل المحكم الذي تقيس عليه كل أقوال المسيح في هذه الأناجيل التي بين يديك وإن شبه لك بعضها أو اشتبه عليك.
ترى ما يقول المسيح في «مجيئه الثاني» لهؤلاء الذين شبه لهم؟ أينكر عليهم أن قالوا فيه ما لم يقل، أم يأخذهم بما استحفظهم إياه فنسوه؟
أما أمثال هذا السائل المسيح عن الوصية الأولى والعظمى: الله واحد وليس آخر سواه، فعضوا عليها بالنواجذ، أولئك الذين استمسكوا بالعروة الوثقى لا انفصام لها، فطوبى لهم وحسن مآب.
كان موت المسيح على الصليب فتنة كبرى لمن شبه لهم وقوع الصلب على ذات المسيح، أعني جميع الذين شهدوا هذا الصلب: شانئو المسيح ومبغضوه وطالبو دمه، وأيضًا أنصاره ومحبوه الذين لو خيروا لافتدوه بأنفسهم وأبنائهم.
فأما شانئو المسيح ومبغضوه وطالبو دمه فقد أخذتهم العزة بالإثم أن قتلوا بأيديهم المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، وتباهوا بها مستهزئين: {إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله} [النساء: 157]. وكم قتل اليهود من أنبياء العهد القديم، ثم ختموا بيحيى عليه السلام فيما تروى الأناجيل، فما قامت الدنيا وما قعدت، ولم يقل أحد في نبي قتل إنه أراد هذا القتل وسعى إليه وكان
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/282]
محور رسالته، يُكَفِّر به عن خطايا البشر أو يفتديهم بدمه، كما قيل في المسيح، وإنما قال أتباع النبي المقتول إنه مات شهيدًا، دمه على قاتليه.
وأما أنصار المسيح ومحبوه فقد كان موته على الصليب محنة لهم أي محنة، بل كان فاجعة كبرى لا تعدلها مصيبة: أفقد مات الذي قال لهم إن الله أرجأه إلى قُرب انقضاء الدهر؟ ها هم يرونه بأعينهم يساقُ إلى الصلب مُهانا، ثم يرفع على الصليب مثقوب اليدين والقدمين، ويسلم الروح مطعون الجنب، ليدفنوه بأيديهم. أفقد مات الذي أحيا الميت؟ فلماذا لم ينقذ هو نفسه من القتل على الصليب؟ نعم، قد قطعوا رأس يحيى قبله ولكن ابن زكريا ما أحيا ميتًا ولا أبرأ أكمه أو أبرص، ولم يقل لتلاميذه إنه لا يموت إلى قُرب انقضاء الدهر كما سمعوا هم المسيح يقول. فلماذا تركه الله يموت؟ لِمَ لمْ يَقْبل الله ضراعته: «أيها الآب، نجني من هذه الساعة» (يوحنا 12/ 7) فلم ينجه؟ لماذا يتركه يموت وهو يناديه: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟» (متى 27/ 46)، أفقد مات المسيحُ لا يدري بأي ذنب يقتل؟ أو يموت يتساءل لماذا تركه الله يموت؟
كلهم شك فيه، كما قال لهم ليلة القبض عليه كلكم تشكون في الليلة (مرقس 14/ 27). ترى لماذا شك التلاميذ في المسيح، وفيم كانت شكوكهم؟ أفي نبوته وقد علموا أن الأنبياء تقتل وتموت، وما رأس يحيى على طبق من الفضة ببعيد؟ أم شكوا في «ألوهيته» وقد علموا أن الآلهة خالدة لا تموت، ففيم الفاجعة إذن في «شبهة» إله يموت؟
أما الذي لم يشك فيه أحد، تلاميذ وغير تلاميذ، فهو أن الذي مات على الصليب هو نفسه المسيح. لم يرتب أحد ولو للحظة في أن المرفوع على الصليب ليس هو، وإنما هو يهوذا الذي أسلمه، شبه لهم.
كان التشبيه غاية في الإتقان، لا يستطيعه إلا خير الماكرين: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} [آل عمران: 54].
هذا المائت على الصليب ليس هو المسيح، يكفيك في هذا قول القرآن وليس بعده قول لقائل {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/283]
اختلفوا فيه لفي شك فيه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما} [النساء: 157 – 158]. أما إن أردت الدليل من هذه الأناجيل التي بين يديك، فهاك الدليل من قول المائت على الصليب: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني!» (متى 27/ 46)، وقد حرص متى على إثبات هذه العبارة في إنجيليه بنصها الأصلي: «إيلي، إيلي، لما شبقتني» كأنه يؤكد للقارئ اليوناني أنها هكذا قيلت. وحرص أيضًا مرقس في إنجيله على إثبات نفس العبارة «إلهي إلهي لماذا تركتني» بنصيها الأصلي واليوناني (مرقس 15/ 34) وإن تحول مرقس بلفظة «إيلي» (أي إلهي) العبرية – الآرامية إلى نظيرتها العبرية القح «إلوهي» (بمد الكسر في الهاء وسكون الياء بعدها) ولكن قلمه اليوناني لم يستطع الهاء فحذفها «إلوي» التي مازلت تقرؤها في الترجمات العربية محذوفة الهاء تبركًا بالأصل اليوناني. وحرص الكاتبان كلاهما ألا يشتبه عليك مقصود المائت على الصيب فتظن أنه أراد «إيليا» (إلياس عليه السلام) ولم يرد «إيلي» أو «إلوهي» (أي إلهي) فقال كلاهما أن قوما من الحاضرين لما سمعوا العبارة ظنوا أنه ينادي إيليا (المرفوع حيًا قبله في العهد القديم) كي يأتي ويخلصه، وكأنهما يقولان لك لا تخطئ الفهم كما أخطأ هؤلاء، بل كان المصلوب ينادي «إلهه»!
فطن لوقا ويوحنا – اللذان كتبا إنجيليهما بعد متى ومرقس – إلى خطورة هذا الذي أثبته متى ومرقس في إنجيليهما على دعوى ألوهية المصلوب: كيف يستغيث إلهه؟ أفللإله إله، بل كيف يستغيث من الصلب وهو يعلم أنه لهذا جاء ويعلمه؟
أما لوقا فقد حذف هذه العبارة من إنجيليه وأثبت في موضعها: «يا أبتاه، في يديك أستودع روحي» (لوقا 23/ 46)، وأما يوحنا فقد أسقط العبارة جملة ولم يثبت في موضعها شيئًا.
أنا أنت فتفطن إلى أخطر مما خشيه لوقا ويحونا: هذا المائت على الصليب، الذي يستغيث الله ولا مغيث، ليس بنبي. ولا عليك أن يقال إله أو ابن إله.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/284]
على أن المقبوض عليه عشاء فصح اليهود فحوكم وأدين، ليس هو أيضًا المسيح. دليلك في هذا من الأناجيل عبارة ندت عنه وهو يحاكم، أثبتها متى في إنجيله وهو لا يدري مدى خطورتها في تحديد هوية الذي حوكم فأدين: «وأيضًا أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان (يعني المسيح) جالسًا عن يمين القوة وآتيًا على سحاب السماء» (26/ 64) فكيف يكون الماثل أمامهم هو نفسه في عين الوقت الجالس عن يمين القوة الآتي في سحاب السماء؟ أليس قد أفلت الله المسيح قبل أن يحاكم أو يصلب؟ أفهل تفوتك عبارة «من الآن»؟ تجد مثل هذا في لوقا أيضًا أكثر وضوحًا: «إن كنت أنت المسيح فقل لنا. فقال لهم إن قلت لكم لا تصدقون. وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني. منذ الآن يكون ابن الإنسان جالسًا عن يمين قوة الله. فقال الجميع أفأنت ابن الله. فقال أنتم تقولون إني أنا هو»، (لوقا 22/ 67- 70). مرقس وحده فطن إلى خطورة ما يخطه قلمه، فاسقط «منذ الآن»، وزيادة في الحيطة غير ما قيل في متى ولوقا في جواب الذي حوكم حين سئل هل هو المسيح. قال متى «قال له يسوع أنت قلت» (متى 26/ 64) وقال لوقا «أنتم تقولون» (لوقا 22/ 70)، وقال مرقس «فسأله رئيس الكهنة أيضًا وقال له أأنت المسيح ابن المبارك. فقال يسوع أنا هو» (مرقس 14/ 61- 62). أما يوحنا فقد أسقط هذا وذاك.
تُرىَ هل رُفِعَ المسيح لحظة جاءوا يقبضون عليه وشبه لهم يهوذا الاسخريوطي فأخذوه مكانه؟ هذا هو ما يقوله لك إنجيل برنابا الذي ينكره المسيحيون، ولكنك تجد مثله في إنجيل مرقس ولم يمحصه أحد: «وللوقت وفيما هو يتكلم أقبل يهوذا – واحدٌ من الإثنى عشر – ومعه جمع كثير بسيوف وعصى من عند رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ. وكان مسلمه قد أعطاهم علامة قائلاً الذي أقبله هو. أمسكوه وامضوا به بحرص. فجاء للوقت وتقدم إليه قائلاً يا سيدي يا سيدي. وقبله. فألقوا أيديهم عليه وأمسكوه. فاستل واحدٌ من الحاضرين السيف وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه. فأجاب يسوع وقال لهم كأنه على لصٍ خرجتم بسيوف وعصى لتأخذوني. كل يوم كنت معكم في الهيكل أعلم ولم تمسكوني. ولكن لكي تكمل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/285]
الكتب. فتركه الجميع وهربوا. وتبعه شابٌ لابسًا إزارًا على عريه فأمسكه الشبان. فترك الأزار وهرب منهم عريانًا» (مرقس 14/ 43- 52). والذي يتعين التنبيه إليه في خصوص هذا النص الإنجيلي المعتمد عند المسيحيين كافة، هو أن التلاميذ هربوا جميعًا لحظة القبض على المسيح، فلا تصح لهم شهادة على ما قاله المقبوض عليه للجند لحظة القبض عليه ولا على ما قيل له منذ لحظة القبض عليه، وما جرى له وما جرى منه أثناء المحاكمة التي جرت بين جدران مغلقة ولم تجر علنا، وكذلك ما قاله وقيل له عند هيرودس ملك اليهودية من قبل الرومان أو عند والي روما بيلاطس البُنطي كالذي تقرأ في الأناجيل الأربعة المعتمدة – وهو ما يفسر لك اختلاف الكتبة الأربعة لهذه الأناجيل اختلافًا كبيرًا فيما بينهم حول ما قيل أو حدث. لا تقبل شهادتهم لا لأنك تجرحهم، وإنما لأنهم كانوا عن هذا غائبين، والغائب لا يعتد بشهادته. ربما قلت أنهم أو بعضهم على الأقل شهد الجلد والصلب اللذين وقعا علنا. فتكتفي منهم بما سمعوا أو عاينوا منذ الجلد إلى الموت على الصليب. ولكنهم لم يسمعوا كل الذي قيل، دليلك في هذا تضاربهم فيما رووه، فتقطع بأنهم أكملوا ما لم يسمعوا، وكانت لكل منهم مصادره، وتفاوت قول الرواة، فتفاوتت أقوالهم. بل هناك ما تقطع بأنه لم يحدث، وإنما هو من قول الرواة، من هذا ومثله الحوار الهامس بين المائت على الصليب وبين زميليه، الذي انفرد به لوقا في إنجيله (لوقا 23/ 39- 42)، المختوم بقول المائت على الصليب للص التائب: الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس! أكان الثلاثة يتصارخون بهذا الحوار ليسمعه جمهور الحاضرين في الساحة مثلما صرخ المائت على الصيب لحظة أسلم الروح «يا أبتاه، في يديك أستودع روحي»، التي وقعت في سمع متى ومرقس بلفظ: «إلهي إلهي لماذا تركتني؟» تصور أنت المسافة بين المرفوعين على الصليب وبين الجند، ثم بين الجند وبين الجمهور، واحكم بنفسك.
ولكن الذي نتوقف عنده هو هذا الشاب الذي رآه مرقس يتبع المقبوض عليه عريانًا إلا من إزار ائتزر به، فأرادوا إمساكه، ولكنه ترك إزاره في أيديهم ليفر عريانًا، ترى من كان هذا الشاب الواقف مباشرة خلف المقبوض عليه؟ أكان من التلاميذ؟ كيف وقد هربوا جميعًا كما يروى لك مرقس؟ أفكان من الجند؟ فكيف
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/286]
أرادوا إمساكه؟ أكان هو يهوذا، فكيف يهرب منهم وهو الذي جاء بهم؟ أكان عابر سبيل دفعه الفضول إلى السير في موكب الجند والمقبوض عليه مثلما يسير الناس في موكب الشرطة والجناة، فما خشيته من الجند وما خشية الجند منه؟ أفقد أمسكوا بالمتجمهرين جميعًا؟ فلماذا يحاولون الإمساك به وحده؟ أليس لأنه استفز شكوكهم التصاقه بالمقبوض عليه وهيئته بزي اللابس إزارًا على عريه؟ أفقد لمسوا إزاره فسقط عنه أم جبذوه به فتفلت منه؟ وكيف يخرج من إزاره فيستفزهم عريه ولا يلحقون به؟ كيف انسل من أيديهم ولم يلاحقوه؟ أليس هو المسيح نفسه الذي حاجزت عن الملائكة بعد أن ألقي شبهه على يهوذا المقبوض عليه لحظة «القبلة» لا تدري من قبل من؟ ألم يأخذ الملائكة لباس عيسى فوضعوه على يهوذا، لم يُبقوا له إلا إزارًا يأتزر به، ثم يتركه في أيديهم ليتلبس رداءً من نور لا يبصره إلا ملائكة من نور، محجوبون عن أعين الناس؟ هكذا غاب الشاب عن أعين طالبيه الذين قبضوا على يهوذا مكانه.
ربما قيل لك إن من مأثور المسيحيين غير المسطور في الأناجيل أن هذا الشاب اللابس إزارًا على عريه كان «يوحنا» التلميذ الذي كان المسيح يحبه. وليس بشيء لأن المكتوب في الأناجيل هو أن التلاميذ كلهم هربوا، لم يتبعه أحد منهم أو فكر في اتباعه لم يتبعه أحدٌ بعد هربهم ومضى الجند إلا بطرس الذي تبعهم من بعيد كما يقول لك متى ومرقس ولوقا. ولكن يوحنا يقول في إنجيله (وهو ليس يوحنا التلميذ المعني) إن بطرس لم يكن وحده، وإنما كان معه التلميذ الآخر (يُريد يوحنا) الذي كان معروفًا عند رئيس الكهنة فدخل مع يسوع إلى دار رئيس الكهنة (يوحنا 18/ 15)، ولا يصح أن يكون هذا والذي فر عُريانًا هو نفس الشخص، إذ كيف يدخل عُريانًا على رئيس الكهنة؟ وكيف يستعيد ثيابه ويلحق الموكب؟
هذه المعجزة الكبرى، معجزة تشبيه عيسى لطالبي دمه وقضاته ومحاوريه وللجمهور الذي شهد الصلب، لم يشاهدها من دون المسيح والملائكة أحد قط إلا واحد، هو يهوذا المشبه به. وكيف تعمى عليه والجند الذين جاء هم بهم وسار معهم وكلمهم وكلموه، يقبضون عليه لا يشكون لحظة أنه هو نفسه عيسى الذي دلهم عليه: خرج من صفوفهم ليقبل المسيح فتركوا المسيح وقبضوا عليه هو؟ أليس قد أحس يهوذا أنه لم يزل هو يهوذا ولكن الجند يرونه هو المراد القبض عليه؟ الذي أصبح صوته كصوته وهيئته كهيئته ويتكلم بمثل كلامه، فيظن الجميع أنه هو هو، حتى التلاميذ
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/287]
الذين هربوا ظنًا منهم أن قد أخذ معلمهم؟ ولكنه لا يزال هو يهوذا لا شبهة عنده في ذلك، فما بال الناس قد سحروا؟
هناك يدرك يهوذا المقبوض عليه عمق الفاجعة: أغواه الشيطان فشك في نبوة معلمه، وزين له الشيطان أن يمتحن صدق المسيح في دعواه النبوة فدل عليه خصومه وطالبي دمه. قال في نفسه إن كان نبيًا فلن يمكنهم الله منه ويخلصه، وإن كان دعيًا محتالاً فبئس جزاء المحتال الدعي، وقد احتاط هو – يهوذا – لنفسه وحظى عند الكهنة. ويفجع يهوذا بالذي كان: أهكذا يخلص الله المسيح؟ أيخلصه ويوقعه هو في نفس المصير الذي أراده بمعلمه؟ أفقد أوقعه في الحفرة التي نصبها له؟ فمن ليهوذا بالذي يخلصه هو الآن وهو صفر اليدين مما أوتي عيسى، صاحب العجائب المعجزات؟ أفيقول له أنه ليس هو؟ فمن ذا يصدقه وهو هو عند كل من يراه أو يسمعه؟ ليس أمامه إلا أن يستسلم للمصير الذي أراده لمعلمه عساه يكفر بها عن عبث الشيطان به، ويرد سهمه في نحره. عساه بصمته يضيف تمويهًا إلى تمويه، فينجو المسيح بنفسه ويكتفوا هم به. عساه بافتدائه المسيح بنفسه أن تكتب له بها حسنة قد يمحو بها الله عنه إثم ما قد فعل. كانت لسان حاله عبارة حفظها لوقا في إنجيله حين سئل: إن كنت أنت المسيح فقل لنا! قال إن قلت لكم لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني، ولا تطلقونني. ويمضون به ويمضي معهم، وفي أذنيه فقرة من مزمور لداود: «عتا يدعتي كي هوشيع يهوا مشيحو! (الآن عرفت أن الله مخلص مسيحه!)» (مزمور: 20/ 7).
كيف خفيت هذه الفقرة السابعة من مزمور داود العشرين: «الله مخلص مسيحه»، على كتبة أناجيل جعلوا من مزامير داود نبوءات تحدث بسيرة المسيح ومصيره؟ أليس في هذه العبارة التي ترنم بها داود في المزمور «الله مخلص مسيحه»، التي هي بالعبرية «هوشيع يهوا مشيحو»، تحديدٌ لاسم هذا المسيح الذي يخلصه الله؟ أليست هوشيع يهوا هي مقلوب «يهوشوع» اسم المسيح «يشوع»؟ فلماذا لم يفطنوا إليها، بل قل لماذا أسقطوها؟ أليس لأنها على الضد مما يريدون الاستشهاد به على خذلان الله مسيحه؟ بل قل كيف خفى عليهم معنى الفقرات من مزمور داود الحادي والتسعين التي أثبتها لوقا في إنجيليه على لسان إبليس يغوي بها المسيح: «ثم جاء به إلى أورشليم وأقامه على جناح الهيكل وقال له إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل، لأنه مكتوب أنه يوصي بك ملائكته لكي يحفظوك، وأنهم على أياديهم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/288]
يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك» (لوقا 4/ 9- 11)؟ أليس إبليس يستشهد هنا للمسيح بفقرات من هذا المزمور؟ أليس في هذا دليل على أن لوقا يعتبر هذا المزمور في المسيح، فلماذا لم يلتفت لوقا إلى بقية ما قيل: «لأنك قلت أنت يا رب ملجئي، جعلت العلي مسكنك. لا يلاقيك شر ولا تدنو ضربة من خيمتك. لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك. على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك. على الأسد والصل تطأ. الشبل والثعبان تدوس. لأنه تعلق به أنجيه أرفعه لأنه عرف اسمي. يدعوني فأستجيب له. معه أنا في الضيق. أنقذه وأمجده. من طول الأيام أشبعه واريه خلاصي» (مزمور 91/ 9- 16)؟ أليس قد رفع الله المسيح قبل أن يصلب؟ أليس هكذا كان خلاص الله مسيحه؟ أكانت هذه في المائت على الصليب أم في الذي رُفِع؟
يهوذا وحده هو الذي علم وعاين. ولكن يهوذا لم يقل لأحد ممن شبه لهم.
كان يرجو بصمته أن يكتفي الله من عقابه بالإهانة والجلد، فمضى يحمل على كتفه صليبه وهو يردد: «اغفر لهم يا أبتاه، فإنهم لا يعلمون». نعم، لا يعلمون علم الذي يعلم. ولو علموه لشابت رؤوسهم، أو لخزيوا وذلوا أو لانفضوا من حوله وذهبوا يلتمسون المسيح الذي أفلت من أيديهم بآية من آيات الله. فليصطبر عليها. لا يئن وهم يثقبون بالمسامير يديه وقدميه، ولا يشكو وقد رفعوه على الصليب، ودماؤه تنزف، ونزع الموت يقترب. كانت ما تزال به نضاضة من أمل في عفو الله وقد احتمل ما احتمل. ولكن الأمل ينطفيء بمجيء ملك الموت يتراءى ليهوذا على الصليب فيصرخ يأسًا هو أفظع الألم: «إلهي، إلهي! لماذا تركتني!».
أفقد غفر الله ليهوذا فعلته؟ أفقد شاء برحمته أن يحتسبها له شهادة؟
الله عز وجل وجل بغيبه أعلم.
ولكنك تعلم الآن، وإن كنت غير مسلم لا يصدق بخبر القرآن ولا يعتد بأنباء القرآن، أن «يوشوع» قد كانت في المسيح «يشوع» اسمًا على مسمى، فقد خلص الله مسيحه ونجاه: إنه «المخلص الناجي»، لا الخلاص أو الذي يكون به الخلاص كما يفسره علماء أهل الكتاب.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/289]
وسبحان العليم الخبير، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.
أما جثمان يهوذا الذي قُبِر، ففي إنجيل متى ما يفسر لك مصيره:
«وفيما هما ذاهبتان إذا قوم من الحراس جاءوا إلى المدينة وأخبروا رؤساء الكهنة بكل ما كان (يعني أن المائت على الصليب قد قام من قبره الذي وجوده خاليًا من جثمانه). فاجتمعوا مع الشيوخ وتشاورا وأعطوا العسكر فضة كثيرة قائلين قولوا إن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه ونحن نيام. وإذا سمع ذلك عند الوالي (أي إذا افتضح كذبكم أو حاسبكم على غفلتكم عنه) فنحن نستعطفه ونجعلكم مطمئنين. فأخذوا الفضة وفعلوا كما علموهم. فشاع هذا القول عند اليهود إلى هذا اليوم» (متى 28/ 11- 15).
ما يدريك أن هذا بالضبط هو الذي حَدَث؟ ما دمت قد سلمت بأن المقبور هو يهوذا وليس المسيح؟ ولكن «السارقين» من اليهود يكتشفون المهزلة، فقد بطل التشبيه وعاد الجسد يهوذا الذي كان، فماذا يفعلون به، أفيعتلنون بفضيحتهم للناس أم يغيبون الجثمان بعيدًا عن القبر؟ ألقوا به من عل، ليظن أنه ندم فخنق نفسه كما قال متى، أو دفع بنفسه من حالق كما قال بطرس «وإذ سقط على وجه انشق من الوسط، فانسكبت أحشاؤه كلها» (أعمال الرسل 1/ 18).
ونحن لا نجادل الأناجيل في كيفية الصلب الذي كان، فالصلب واقع وقع لقول القرآن: «ولكن شبه لهم»، أي حدث القتل وحدث الصلب، ولكنهما كانا في المصلوب الذي شبه لهم، لا في عيسى الذي رفع. ولا نجادل الأناجيل أيضًا في استشهادهم من المزامير على كيفية الصلب وما قاله المصلوب من مثل «ثقبوا يدي ورجلي»، «على ثيابي اقترعوا»، هذا كله في المصلوب، لا في شخصه. ولا يصح قصر «نبوءات المزامير» على المسيح وحده، بل منها ما هو في نجاته، ومنها في إيقاع الصلب على المشبه به، الذي أوقع به عند طالبي دمه فوقع إثمه على نفسه: «كرًا جبا، حفره، فسقط في الهوة التي صنع. يرجع تعبه على رأسه وعلى هامته يهبط ظلمه» (مزمور 7/ 15/ 16).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/290]
ونحن أيضًا لا نجادل الأناجيل في أن المسيح تراءى لتلاميذه بعد الصلب، أعني بعد نجاته من الصلب، بل هذا هو الأقرب إلى الصواب، الأشبه بما في القرآن: «إني متوفيك ورافعك إلي». وقد مر بك أن التوفي في الآية من «الاسيتفاء» بمعنى الاستخلاص كاملاً غير منقوص، وقع الاستخلاص أولاً ممن جاءوا للقبض عليه والمحاجزة بينه وبينهم على نحو ما قص عليك مرقس في إنجيله من حديث الشاب المؤتزر بإزار على عريه، الذي اختفى عن أعين طالبي الإمساك به فانسل من ردائه ولم يروه بعد. وما كان الله عز وجل ليرفع المسيح إليه إلا على أعين الحواريين، ليكونوا على رفعه شهودًا، كما سبق أن استشهد الله الحواريين على إنزال المائدة إليهم ليحاسبهم إن كفروا من بعد، حاشا الحواريين أن يكفروا بما استشهدهم الله عليه. وفي إنجيل متى أنه واعد الحواريين قبل محاولة القبض عليه في أورشليم، أي قبل القبض والصلب، أن يلتقي بهم في الجليل، وأن الأحد عشر (أي خلا يهوذا بالطبع) ذهبوا إليه في الجليل، ذهبوا وبعضهم شاك حتى بعد أن رأوه، مما يدلك على أن معجزة التشبيه شبهت عليهم أيضًا (متى 28/ 16- 17) أي كانوا ممن قال القرآن فيهم: {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن} [النساء: 157]، وكان لا بد للمسيح أن يرتفع إلى السماء أمامهم بعد أن كلمهم (مرقس 16/ 19) ليكونوا شهداءه على إعجاز الله في تخليص مسيحه.
أما ما قاله المسيح لهم قبل أن يرفعه الله إليه، فهو في الأناجيل التي بين يديك مقولة الذين شبه لهم شخص المصلوب، وهو أيضًا يتفاوت بتفاوت ما أراد الكاتب إثباته على لسان المسيح احتجاجًا لرأي الذي كتب، إن صدقت بإنجيل فقد كذبت بإنجيل، على ما ترى من قولهم على لسان المسيح في آية «يونان النبي» (يعني يونس عليه السلام) حين طلب منه الكتبة والفريسيون أن يروا منه آية فقال لهم جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له إلا آية يونان النبي، ثم يمضي متَّى فيقول: «لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان (يعني المسيح) في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال» (متى 12/ 40). لا مفر لك إلا أن تقول إن متَّى أراد هنا الاحتجاجَ لصلب المسيح ودفنه في الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال يبعث بعدها حيًا. ولا يصح هذا لن الذي صلب بإجماع الأناجيل الأربعة حتى متَّى نفسه، إنما مكث في قبره ليلتين فقط (الجمعة والسبت) وخرج منه فجر الأحد. ولا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/291]
يصح أن يقال هذا أيضًا على التشبيه بما كان عليه يونس في بطن الحوت، لأن يونس لم يمت في بطن الحوت ولم يلتقمه الحوت جسدًا ميتًا كحال المصلوب. ولو تمهل متى والمستشهدون بقوله في «آية يونان» لما قالوها ولما نسبوها إلى نبي يوحى إليه لا يقول إلا حقًا. هذا ومثله كثير لا نتصدى له، لأنه يخرج عن مقاصد هذا الكتاب.
على أننا نتصدى كما وعدناك لبعض تلك الشبه اللغوية الألصق بمباحث هذا الكاتب، والتي جرت في رأينا إلى ما جرت إليه، ولم يتوقف عندها أحد.
أول هذه الشبه، شبهة «نحوية»، وهي أن الإضافة دليل على «المغايرة»، يعني أن المضاف ليس هو المضاف إليه، بل هو غيره. إن قلت مثلاً «ملاك الرب» فهذا يعني أن الرب ليس هو الملاك، والعكس بالعكس. فلا يترتب الملاك لأنه مضاف إلى الرب، كما رببوا «ملاك الرب» جبريل. كذلك إن قلت «ابن الله» فهذا دليلٌ على أن «الابن» ليس هو «الله»، وأن «الله» ليس هو «الابن». وإن قلت مثلاً في إبراهيم أنه «خليل الله» فليس معنى هذا أن إبراهيم هو الله، أن انتمى إليه بالخلة، بل يظل الله هو الله ويظل إبراهيم هو إبراهيم. وإذا قلت «نبي الله» فلا يصح أن تفهم أن للنبي شركًا في الألوهية يستمده ممن أرسله. الإضافة دليلٌ على المغايرة، إلا أن تكون الإضافة لغوًا، كأن تضيف الشيء إلى نفسه فتقول مثلاً «نهر النيل» وقد علمت من قبل أن النيل نهر اسمه النيل. وما أيسر أن تكتشف اللغو في هذه الإضافة، حين تقلب المضاف والمضاف إليه إلى مبتدأ وخبر فتقول: النيل نهر. إن صح لك هذا، وهو صحيح في «نهر النيل»، اكتشفت أن المضاف هو نفسه المضاف إليه، وأنهما معًا عبارةٌ عن ذات واحدة. ولكن لا يصح لك هذا في مثل «الرب ملاك»، «الله ابن»، «الله خليل»، «الله نبي»، لأن اللفظين متغايران، ليس الواحد هو الآخر.
على أساس من هذه الشبهة النحوية قال أصحاب مجمع نيقية، الذين أخطأوا من قبل فهم عبارة «بار - أبا» بمعنى «ابن - الأب»، إن المسيح ابن لأب هو الله، وأسموه من بعد «ابن الله»، ورتبوا على هذا أن الابن من ذات جوهر الآب، وأنه والآب واحد، وهذا مرفوض بمنطق «النحو» وحده: من كان ابنا لله فليس هو الله، ناهيك بأن تلد الآلهة أو تولد.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/292]
وكما أله مجمع نيقية المسيح على البنوة لله، وقع في نفس الشبهة النحوية المجمع التالي الذي أله جبريل على «الملائكية» لله، أن كان جبريل «ملاك الرب» النافث في مريم كما قال لوقا في إنجيله. وقد جانب هذا المجمع التوفيق جملة في تأليه جبريل على أساس من الأناجيل التي بين يديك، فليس فيها قط أيما شبهة في تأليهه كما وقعت الشبهة في المسيح بإساءة فهم عبارة «بار - أبا» كما سترى لأنه إن جاز لمجمع نيقية القول بأن المسيح هو «ابن الله الوحيد» ليخرج من البنوة لله «آدم» المسمى ابنًا لله في إنجيل لوقا هو الآخر، فليس بمستطاع القول بأن جبريل هو «ملاك الرب الوحيد» لأن ملائكة الرب أكثر من أن تحصى، ولا يعلم جنود ربك إلا هو، فلماذا يتخصص من دونهم جبريل بالتأله؟ وقد مر بك أن لفظة «الملاك» (وهي «ملاخ» العبرية – الآرامية) معناها الرسول المرسل على المفعولية من الجذر العبري – الآرامي «لأخ»، يعني أرسله برسالة، فكيف يكون المفعول هو الفاعل، أو يكون المخدوم هو الخادم، أو يكون العبدُ هو السيد، أوي كون الرسول هو نفسه الذي أرسله؟ وقد قال المسيح في هذه الأناجيل بالنص: ليس عبدٌ (يعني نفسه) بأعظم من سيده، وليس رسول بأعظم من الذي أرسله. وقال أيضًا: الآب أعظمُ من الابن. فكيف يقال إنه هو، المسيح أو جبريل. ولماذا اختير جبريل وحده من دون الملائكة ليكون هو من ذات جوهر الله؟ ألأن معنى اسمه كما مر بك هو «جبار الله» أو «رجل الله»؟ فماذا في «ميكائيل» الذي يقولون إن معنى اسمه «الذي هو كالله»؟ أليس ميكائيل بها أولى؟ ولكن ميكائيل لم يكن هو النافث في مريم. وقد ظنوا – وقد ألهوا «المنفوث» من قبل على البنوة لله – أن المنطق لا يستجيز أن يستعلى المنفوث على النافث، ولكن هل ألزمك أحد بتاليه المنفوث حتى تضطر إلى تأليه النافث؟
في مثل هذه الشبهة أيضًا وقع القائلون بتأليه مريم على المضاف والمضاف إليه، فهي «أم الله» - وإن سمعتها منهم «أم الإله» وكأنهم يخففون عليك من وقعها في أذنيك وكأن ألاله غير الله – ولكنك لا تستطيع أن تقول «الله أم» أو «الاله أم» فيمتنع التظنن في أن مريم هي الله أو الإله بمقتضى النحو وحده، ناهيك بامتناع الأمومة والبنوة في حق الله.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/293]
وقد كان بالفعل أناس ألهوا مريم لمجرد أنها «أم عيسى» وقد ألهوه، فلا يصح أن تكون الوالدة أدنى من المولود. وقد أشار القرآن إلى هذا في نعيه على ما قيل في المسيح: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك} [المائدة: 116]، ولكن «عبادة مريم» لم تستقر طويلاً بعد نزول القرآن، بل نبذت واستبقيت لمريم كرامة الأمومة لله (mere de Dieu).
ولو أنصفوا لفعلوا نفس الشيء في باقي أفراد الثالوث الأقدس، فاستبقوا لعيسى كرامة النبوة والرسالة، واستبقوا لجبريل كرامة الملك المقرب، وأفردوا الواحد الصمد لا إله غيره بالربوبية لهذين وللبشر أجمع.
ولكنك لا تهدي من أحببت. إن قارعتهم بالمنطق قالوا لك وهل يؤخذ الدين من أفواه المناطقة؟ هذا هو الوحي الذي توارثناه كابرًا عن كابر.
لا يؤخذ الدين من أفواه المناطقة. هذا صحيح. ولكن لا يصح في مقابله أن يقال ليس في الدين منطق. لأن الدين هو المنطق. وهل تعبد الله البشر من دون الخلق إلا به؟
والدين وحي الله على رسله، نعم. فهلا استمسكوا بما قال موسى وعيسى والنبيون من قبل ومن بعد، الله واحد، وليس آخر سواه؟
أما الشبهة الثانية، فهي شبهة لغوية: ظنوا بلغتهم اليونانية (وقد علمت يونانية هذه الأناجيل) أن «آب»، «أبا»، «أبي» لا تعني في لغة المسيح إلا أبي الذي ولدني، وهي في لغة المسيح تعني «الربُّ» حين يقصد بها الله عز وجل.
لن أثقل عليك بالرجوع إلى معاجم اللغتين العبرية والآرامية لتستوثق مما أقوله لك أي لتقرأ فيها أن «الأب» في هاتين اللغتين تعني أيضًا الفاطر المبدع الباري، ولن أحيلك إلى قول المسيح في هذه الأناجيل اليونانية يكنى فيها عن الرب بالأب وقد مر بك، ولن أستشهد لك بتسمية حفيد سليمان بن داود «أبيا هو» أي «الله أبي» على معنى الله ربي التي تسمى بها أيضًا ابن لهرون أخي موسى عليهما السلام، وليس لك
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/294]
أن تتصور قبول موسى هذا الاسم لابن أخيه، على معنى اللهُ أبي، وهرون هو أبوه. وإنما هي «الله ربي» لا يصح غيرها في اسم لابن أخي موسى.
ولكني سألدك على الشاهد اليقين الذي لا تصح فيه مماحكة من قول موسى عليه السلام نفسه في هذه التوراة التي بين يديك ترجمتها العربية التي أشرف على ترجمتها مسيحيون لا تشك في مسيحيتهم:
قال موسى في هذه التوراة التي بين يديك بلغته العبرية: ها ليهوا تجملوا – زوت عام نبال ولوحاخام؟ ها لو – هو أبيخا، قانيخا، هو عاسخا ويخونينخا؟ «وترجمته العربية المعتمدة»: «ألرب تكفائون بهذا يا شعبًا غبيًا وغير حكيم؟ أليس هو أباك ومقتنيك، هو عملك وأنشأك؟» (تثنية 32/6).
ليس بعد هذا دليل، وموسى نفسه يجانس الأب على الرب.
هذه هي الشبهة اللغوية الأولى. أما الشبهة اللغوية الثانية فهي ظنهم أن «بار» العبرية – الآرامية تعني الابن المولود لأب، وهي تعني أيضًا بذات لفظها ورسمها في الخط العبري – الآرامي كما تقرأ في معاجم هاتين اللغتين: البار المبرور على معنى الصفى المختار. لا يفهم أيهما المقصود (البار أو الابن) إلا من السياق وحده. ومتى قد انتفت الأب بمعنى الوالد في حق الله عز وجل، وإنما هو «الرب»، فلا يصح لك أن تفهم من «بار - الرب» أنه ابن الرب وإنما تقول أنه «مختار الرب»، فلا يصح لك أن تفهم من «بار - الرب» أنه ابن الرب وإنما تقول أنه «مختار الرب» حين تسمع بالآرامية «بار - أبا»، لأن «بار» العبرية – الآرامية هي من الجذر العربي – الآرامي «برر» يعني اصطفى وتخير، فهو الصفي المختار.
ومن طريف ما تقرؤه في الأناجيل عبارة مرقس: «ولما رأى قائد المئة الواقف مقابله أنه (أي المسيح الذي على الصليب) صرخ هكذا وأسلم الروح قال حقًا كان هذا الإنسان ابن الله» (مرقس 15/39)، التي تجدها هي نفسها في لوقا: «فلما رأى قائد المئة ما كان، مجد الله قائلاً بالحقيقة كان هذا الإنسان بارًا» (لوقا 23/47). هذه المقابلة بين النصين في مرقس ولوقا تدلك بوضوح – والقائل هو القائل فيهما – على أن «بار» في مرقس فهمت بمعنى الابن، وفهمت على أصلها في لوقا بمعنى «البار».
عليك إذن أن تنحو نحو لوقا في هذا الفهم كلما قرأت «الابن» أو «ابن الله» في الأناجيل التي بين يديك حتى لا يستشكل عليك مراد المسيح عليه السلام منهما إن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/295]
قالها أو خوطب بها أو قيلت فيه من بعده، فلن يستشكل عليك أن يكون المسيح عليه السلام صفي الله أو مختار الله، وهل أنبياء الله ورسله إلا أصفياؤه ومختاروه؟ فالحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى.
والأطرف من هذا في الدلالة على أن «بار» المعنية ليست هي الابن، وإنما هي «البار» على معنى الصفي المختار، هو اسم ذلك الشقي «باراباس» الذي أبي اليهود طالبو دم المسيح افتداء المسيح به حين عرض عليهم بيلاطس البنطي أن يطلق لهم المسيح ويصلب «باراباس» مكانه. والذي قد لا تعلمه أن أصل هذا الاسم «باراباس» - لا تندهش – هو «ابن الله» على قول من قال إن «بار» يعني ابن، «أبا» يعني الرب: «باراباس» في أصلها الآرامي هي «بار – أبا». وأنت بالطبع مسيحيًا كنت أو مسلمًا لا تستجيز أن يكون معنى اسم هذا الشقي باراباس هو «ابن الرب» أو «ابن الآب» أو «ابن الله». عليك إذن أن تفهم معنى الاسم «باراباس» على أنه «مختار الرب»، أسماه به أبوه يوم ولد تيمنًا وتفاؤلاً، ثم خاب فيه فأله.
قال المسيح عليه السلام في القرآن يتشفع عند الله عز وجل للذين بدلوا بعده: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة: 118].
لن تستطيع – مهما حاولت – أن تقول أبلغ من هذا القول الذي قاله المسيح في القرآن: لم يقل إنهم «عبيدك»، فأنت وما شئت فيمن خلقت، ولكنه قال «عبادك»، وكأنه يومئ إلى أنهم وغن خاضوا في جلال ذاتك فإنهم يريدون وجهك. افتتنوا بي حتى سفهوا، فارتفعوا بي عن ذليل مقامي منك إلى عزيز مقامك. وأنت القاهر فوق عبادك، عن تغفر لهم فأنت عليها قادر.
فماذا كان جواب العزيز الحكيم؟
قال يمتدح صدق المسيح في الذي قاله، ويتكتم على الخلق أجمع بماذا هو مجيبه: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم} [المائدة: 119]، أي هذا لك يا عيسى ولمن صدق بك على الأصل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/296]
الذي قلت لهم. وذر القضاء لصاحب الملك: {لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير} [المائدة: 120].
ألا هل بعد هذا بلاغ؟
فسبحان من بيده ملكوت كل شيء له الحمد وله الملك، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/263-297]


رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الأعجمي, العَلم


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 17 ( الأعضاء 0 والزوار 17)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:42 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir