رسالة في تفسير قول الله تعالى:
{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ}
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى أما بعد:
فقد اشتمل صدر هذه الآية على جملة من المسائل البيانية:
● المسألة الأولى: فائدة حذف معادل طرف الاستفهام
مما ينبغي أن يُعلم أن الاستفهام قد يرد مشتملاً على طرفين؛ ولهما أحوال في الذكر والحذف، فربما ذكرا جميعاً، وربما حذف أحدهما.
فإذا قلت: أسافر زيد أم لم يسافر؟ تكون قد ذكرت الطرفين.
ويصحّ أن تقول: أسافر زيد؟ فتحذف الطرف الآخر للعلم به، والتقدير: أم لم يسافر.
- والطرفان قد يكونان جملتين اسميّتين كما في قول الله تعالى: {أأنتم أشدّ خلقاً أم السماء بناها} وقوله تعالى: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ}
- وقد يكونان جملتين فعليتين كما في قول الله تعالى: { أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} وقوله تعالى: { أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
- وقد يكون الطرف الأول جملة اسمية والطرف الثاني جملة فعلية، كما في قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)}
- وقد يكون الطرف الأول جملة فعلية، والطرف الثاني جملة اسمية كما في قول الله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} وقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ}
- وقد يُحذف الطرف الثاني ويكون في السياق ما يدلّ عليه؛ فيجتهد المفسرون في تقديره، ومن ذلك هذه الآية.
قال الله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ}.
فكان للمفسّرين أقوال في سبب الحذف:
- فقال الفرّاء: (ترك جوابه ولم يقل: ككذا وكذا لأن المعنى معلوم، وقد بيّنه ما بعده إذ قال: {وجعلوا للّه شركاء} كأنه في المعنى قال: كشركائهم الذين اتّخذوهم).
- وقال ابن جرير: (حُذف الجواب في ذلك فلم يُقَل، وقد قيل {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} ككذا وكذا، اكتفاءً بعلم السامع بما ذَكَر عما ترك ذِكْره، وذلك أنه لما قال جل ثناؤه: (وَجعلُوا لله شُرَكاء) ، عُلِمَ أن معنى الكلام: كشركائهم التي اتخذوها آلهةً).
- وقال مكي بن أبي طالب: التقدير: (أفمن هو حافظ على كل نفس لا يغفل، ولا يهلك كمن يهلك ولا يحفظ ولا يحصي شيئاً).
- وقال البغوي: (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت، أي: حافظها ورازقها وعالم بها ومجازيها بما عملت، وجوابه محذوف تقديره: كمن ليس بقائم بل عاجز عن نفسه).
- وقال ابن عطية: (المعنى: أفمن هو هكذا أحق بالعبادة أم الجمادات التي لا تنفع ولا تضر؟ هذا تأويل، ويظهر أن القول مرتبط بقوله:{وجعلوا لله شركاء}، كأن المعنى: أفمن له القدرة والوحدانية ويجعل له شريك أهل أن ينتقم ويعاقب أم لا؟ و"الأنفس" من مخلوقاته وهو قائم على الكل أي محيط به ليقرب الموعظة من حس السامع، ثم خص من أحوال الأنفس حال كسبها ليتفكر الإنسان عند نظر الآية في أعماله وكسبه).
- وقال ابن الجوزي: (المعنى: أفمن هو مجازي كلّ نفس بما كسبت، يثيبها إِذا أحسنت، ويأخذها بما جنت، كمن ليس بهذه الصفة من الأصنام؟).
- وقال ابن كثير: (أفمن هو هكذا كالأصنام الّتي يعبدونها، لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل، ولا تملك نفعًا لأنفسها ولا لعابديها، ولا كشف ضرٍّ عنها ولا عن عابديها؟ وحذف هذا الجواب اكتفاءً بدلالة السّياق عليه، وهو قوله:{وجعلوا للّه شركاء} أي: عبدوها معه، من أصنامٍ وأندادٍ وأوثانٍ).
وقال مفسرون آخرون أقوالاً أخرى في التقدير؛ فأنت ترى تنوّع أقوال المفسّرين في هذا التقدير، فكلّ قال بما ظهر له بالتدبّر والنظر في مناسبة المحذوف للسياق وما اختاره من أوجه التفسير.
والتحقيق أنّ الحذف هنا أبلغ من الذكر من جهتين:
الأولى: اطّراح آلهتهم التي يعبدونها من الذكر تحقيراً لها، كما هي مطّرحة في الحقيقة، وليس لها من الشراكة إلا ادّعاء كاذب يدّعيه أتباعها بظاهر من القول، لا حقيقة له.
والثانية: أن يشمل التقدير جميع المعاني المدلول عليها بالسياق، فتذهب النفس في الأجوبة الممكنة كلّ مذهب، وتجدها صحيحة مطابقة للحال.
فما ذكره المفسرون داخل في المعنى، والمعنى أعمّ من ذلك.
فوصف الله تعالى نفسه بأنّه هو وحده قائم على كلّ نفس بما كسبت يدلّ على معانٍ متعددة، وتلزم منه لوازم كثيرة، فإذا قابلت بينها وبين ما اتّخذه المشركون من الشركاء لم تجد إلا الفقر والضعف والحاجة، فما ثمَّ شيء يستحقّ أن يُذكر.
وقول الله تعالى: {وجعلوا لله شركاء} دليل على المحذوف.
● المسألة الثانية: فائدة تنكير {قائم}
تنكير "قائم" هنا أبلغ لأنه يقطع المفاضلة من أصلها؛ فما ثمّ قائم على كلّ نفس بما كسبت إلا الله، ولو قال "القائم" لكان للمفاضلة مدخل، كما يقال: كريم وكرماء والله تعالى هو الأكرم، فكونه الأكرم لا ينفي عن أحد من خلقه صفة الكرم بحسبهم، وهكذا في الصفات التي يكون في أصل معناها مطلق اشتراك؛ فيكون للمخلوقين منها ما يناسب أحوالهم الضعيفة، ولله تعالى منها الكمال المطلق.
ففضل كرم الله تعالى على كرم خلقه كفضل الله تعالى على خلقه، وهكذا في سائر الصفات التي يكون فيها ما يُسمّى بمطلق الاشتراك في أصل المعنى.
أما هذه الصفة فليس فيها مدخل للمفاضلة أصلاً، ولذلك جاءت بصيغة التنكير، ونظير ذلك قول الله تعالى: {قل هو الله أحد}.
● المسألة الثالثة: الحجج المودعة في قوله تعالى: {قل سمّوهم}
في قول الله تعالى: {قل سمّوهم} ما يبهت كلَّ مشرك يجادل عن الشرك، لأنه يحمل من المعاني واللوازم ما يدلّ على بطلان الشرك دلالة بيّنة لا تقوم للشرك بعده قائمة؛ فاحتملت أوجها من التفسير.
الوجه الأول:{قل سمّوهم} أي: سمّوهم ما شئتم من الأسماء فإنما ذلك دعوى لا حقيقة لها.
والوجه الثاني: {سمّوهم} أي: اذكروا أسماءهم على الحقيقة، فهي إما حجر وإما شجر، وإمّا شياطين، ليس لها من الأمر شيء، فكيف تُدعى من دون الله تعالى الذي له الأسماء الحسنى فهو الله الرحمن الرحيم العزيز الحكيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن الجبار المتكبر.
فهذه أسماؤه الحسنى جلّ وعلا، وهي أسماء لها آثارها الجليلة في الخلق والأمر، ولها لوازم ومقتضيات.
وأما أنتم أيها المشركون فسمّوا آلهتكم وانظروا هل تستحقّ من هذه الأسماء من شيء، فإذا علمتم ذلك فينبغي لكم أن تستحيوا من ذكر أسمائها فضلاً عن تدعوها من دون الله.
وهذا المعنى نبّه إليه شيخ الإسلام ابن تيمية.
والوجه الثالث: {قل سمّوهم} أي صفوا لنا شركاءكم الذين تزعمون، والتسمية تأتي في اللغة بمعنى الوصف، وبه فسّر قول الله تعالى: {اسمه أحمد} على أحد الوجهين.
فإذا وصفوهم وجدوا صفاتهم صفات المخلوقين الضعفاء العاجزين؛ فهم لا يخلقون ولا يرزقون ولا يملكون من الأمر شيئاً؛ فكيف يُعبدون من دون الله؟!!
والوجه الرابع: قوله تعالى: {قل سمّوهم} فيه تنبيه على حاجة تلك المعبودات إلى أسماء تُسمّى بها، فهي لا تسمّي نفسها، وإنما يسمّيها مخلوقون ضعفاء، فإذا كانت أصناماً فهم الذين ينحتونها ثم يسمّونها ثم يعبدونها من دون الله، وإن كانت أشجاراً أو أحجاراً أو غير ذلك سمّوها أو تلقفوا أسماءها ممن سمّاها من آبائهم كما قال الله تعالى: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} وقال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}
فهي ليست آلهة حقيقة، وإنما سمّيتموها بأسماء وزعمتم فيها ما زعمتم مما لا حقيقة له.
والوجه الخامس: الأمر في قوله تعالى: {قل سمّوهم} للتهديد، أي من يجرؤ منكم أن يسمّي شيئاً من هذه المعبودات من دون الله تعالى ندّاً لله تعالى، فإذا كنتم لا تجرؤون على ذلك فكيف تعبدونها من دون الله تعالى، وتجعلونها شركاء لله في دعائكم وعباداتكم.
والوجه السادس: الأمر للتعجيز، أي اذكروا من أسمائهم ما له حقيقة يستحقون بها أن يُعبدوا من دون الله، وهذا المعنى نبّه إليه ابن عاشور في تفسير الفاتحة.
وذُكر في الآية أوجه أخرى في التفسير بعضها صحيح وبعضها فيه نظر.
● المسألة الرابعة: فائدة اختيار الاسم الموصول مع صيغة الحصر
اختيار الاسم الموصول مع صيغة الحصر {أفمن هو} للدلالة على نفي جميع ما يزعمون من الشركاء فناسب عدم ذكرهم.
ثمّ نبّه على المنفي بقوله تعالى: {وجعلوا لله شركاء} فهم ليسوا شركاء على الحقيقة، وإنما جعلهم المشركون شركاء ادّعاءً باطلاً بأفواههم لا حقيقة تحته.
فانظر كيف اشتملت الآية على أنواع من الحجج الدالة على التوحيد، ودمغ المشركين المبطلين.
وللرسالة تتمّة إن شاء الله تعالى.