دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > دورات برنامج إعداد المفسّر > رسائل التفسير

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 5 محرم 1442هـ/23-08-2020م, 11:40 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي رسالة في تفسير قول الله تعالى: {فذكر إن نفعت الذكرى}

رسالة في تفسير قول الله تعالى: {فذكّر إن نفعت الذكرى}


قال الله تعالى:{ونيسّرك لليسرى . فذكّر إن نفعت الذكرى . سيذكّر من يخشى . ويتجنَّبها الأشقى}
{إن نفعت الذكرى} أسلوب شرط على أرجح أقوال المفسرين، لكنَّهم اختلفوا في تعيين جوابه، وتحرير معناه، وإعمال مفهومه، وبيان غرضه على أقوال متعددة، سلكوا في تقريرها مسالك مختلفة.
فأحببت تقريب هذه الأقوال وتصنيفها ودراسة حججها للوصول إلى تقرير المعنى الصحيح للآية ، والله المستعان وبه التوفيق.
فأقول: اتفق المفسّرون على أنّ قوله تعالى: {سيذكر من يخشى} ليس جواباً للشرط في قوله تعالى: {إن نفعت الذكرى}، ولو كان جواباً للشرط لاقترن "بالفاء"، ولكنها جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً.
والراجح أنّ قوله: {فذكّر} ليس جواباً للشرط أيضاً لأمرين:
أحدهما: أن "الفاء" للتفريع على قوله تعالى: {ونيسرك لليسرى}؛ فهي عاملة في موضعها عملها المشتغلة به، وترتيب التذكير على التيسير في هذه الآية نظير ما في قول الله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر}.
والآخر: أنَّ تعليق الأمر بالتذكير بشرط الانتفاع لا يصحّ، لأن الأمر بالتذكير عامّ كما هو متقرر من أدلّة كثيرة، ولأن الانتفاع بالتذكير لا يُعلم إلا بعد التذكير؛ فكيف يُعلَّق به؟!!
ولذلك تأوَّله بعض العلماء بمظنة الانتفاع، وهو تأوّل منشؤه اعتقاد أن تعلّق الشرط بقوله {فذكّر} ولا تعلّق هنا على الصحيح، وليس في تفاسير السلف ما يدلّ على ذلك.
والتحقيق أنّ جواب الشرط هنا محذوف، كما حذف في مواضع كثيرة من القرآن، وحذفه أبلغ بياناً، وأوفى معنى، لتعلّق الشرط بأصناف من المخاطبين، منهم المتّبع والمخالف، ومنهم الداعي والمدعو، ولكلّ صنف تقدير يناسبه في الجواب.
ثم إن مبلغ النفع وآثاره ومبلغ الإعراض عن الانتفاع وآثاره من الأمور التي لا يستوفيها ذهن الإنسان، ولا يبلغ منتهى التفكّر فيها؛ فحذف الجواب لتذهب النفس في تقديره كلّ مذهب ممكن.
وحذف الجواب مناسب أيضاً لحذف مفعول {فذكّر} ومتعلَّقه ليعمّ المذكَّرين وما يُذكّر به.
فتناولت الآية معانيَ واسعة، وقَسمت الناس إلى قسمين:
- قسم ينتفع بالذكرى فاكتفي بالنصّ على النفع دون ذكر متعلّق النفع؛ لكثرة المنافع وعظمتها وتنوّعها.
- وقسم لا ينتفع بالذكرى، وهم المعرضون الذين يأبون الانتفاع بالذكرى؛ تكبّراً وعناداً، ولإعراضهم عن الانتفاع آثار كثيرة عظيمة متنوّعة في الدنيا والآخرة.
وانتفاع بعض المذكَّرين بالذكرى حجة على من لم ينتفع بها، وذلك أنّ عدم انتفاعهم إنما هو لعلّة فيهم، فالمورد واحد لكن شتَّان ما بين وارد فمنتفع، ومعرض لا ينتفع.
وفي إسناد النفع إلى الذكرى لطيفة أخرى، وهي أنّ الذكرى تنفع المذكِّرَ والمذكَّر.
فالمذكِّر ينفعه تذكيره فيُعذر عند الله، ويقيم الحجَّة على المدعوّ، وينتفع بمن يستجيب لتذكيره فيُكتب له مثل أجره، كما في قول الله تعالى: {وإذ قالت أمّة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا )). رواه أحمد ومسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والمذكَّر ينتفع بالذكرى إن آمن وأناب؛ كما قال الله تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} ، وقال تعالى: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب}.
وفي التعبير بالذكرى لطيفة أخرى، وهي أن هذا اللفظ يشمل التذكُّرَ والتذكير؛ فكلاهما يصحّ أن يوصَف بالذكرى.
- فالذكرى بمعنى التذكير كما في قول الله تعالى: {إن هو إلا ذكرى للعالمين} ، وقوله تعالى: {ذلك ذكرى للذاكرين} ، وقوله تعالى: {ذكرى وما كنا ظالمين}، وقوله تعالى: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}.
- والذكرى بمعنى التذكّر كما في قول الله تعالى: {إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار} ، وقوله تعالى: {أنى لهم الذكرى}، وقوله تعالى: {يومئذ يتذكر الإنسان وأنّى له الذكرى}، وقوله تعالى: {فأنّى لهم إذا جاءتهم ذكراهم}.
وقد يجتمع المعنيان كما في قول الله تعالى: {فذكر إن نفعت الذكرى}، وقوله تعالى: {وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} وقوله تعالى: {أو يذكر فتنفعه الذكرى}.
وهذه الآيات فيها النص على نفع الذكرى لا التشكيك فيه ولا استبعاده كما ذهب إليه بعض المفسرين في تفسير قول الله تعالى: {إن نفعت الذكرى}.
فالشرط في هذه الآية جارٍ مجرى تأكيد نفع الذكرى وأنّه لا شكّ في نفعها لمن استمع إليها بقلب منيب كما هو منصوص قول الله تعالى: {إنَّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
والعرب تستملح الإتيان بالشرط لغرض التأكيد كما قال سويد بن أبي كاهل في مدح قومه:

بُسُطُ الأيدي إذا ما سُئلوا ... نُفُع النائل إن شيء نفع


وقال المرّار بن منقذ التميمي يفخر بنفسه ومكانها من قبيلته:

وأنا المذكور من فتيانها ... بفعال الخير إنْ فِعْلٌ ذُكِر


وجواب الشرط في البيتين محذوف لدلالة ما تقدّمه عليه، وحذف الجواب أبلغ في التأكيد.
فقول سويد في معنى قول القائل: إنْ قدّر نفعٌ لشيءٍ فإنَّ نائلهم عظيم النفع.
ومن المعلوم بداهة وجود نفع لأشياء كثيرة؛ فأخرج الشرط مخرج التأكيد لعظم نفعهم، وأنه إذا ذُكر النفع فهم من أوّل ما ينتفع بنائلهم، وأنّه إذا جُحد نفعُهم فالأولى جحد جميع المنافع.
وكذلك معنى بيت المرار بن منقذ.
وقريب من هذين البيتين البيت الذي استشهد به ابن عطية في تفسيره:

لقد أسمعت لو ناديت حيّا ... ولكن لا حياة لمن تنادي


فالنداء يُسمع الأحياء، فأقام بهذا الشرط السماعَ دليلاً على الحياة، وأنّ من لم يسمع فيستجب وينتفع فهو ميّت القلب لا تُرجى له حياة ولا نجاة.
وكذلك في قوله تعالى: {فذكّر إن نفعت الذكرى} الانتفاع بالذكرى دليل على أثر عظيم يحصل للمنتفع بالذكرى بسبب استجابته لربّه جلّ وعلا وطاعته لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيحيا حياة أخرى غير الحياة التي كان فيها كما قال الله تعالى: {أومن كان ميتاً فأحييناه} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}.
لكن ابن عطية استشهد بهذا البيت على معنى التوبيخ للمشركين، وحمل الزمخشري الشرط على معنى الاستبعاد.
ولذلك تعقبهما شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكر أنّ فيه بعض الحقّ لكنه يقصر عن بيان معنى الآية.
- قال ابن عطية: (قال بعض الحذّاق: إنما قوله تعالى: {إن نفعت الذّكرى} اعتراضٌ بين الكلامين على جهة التوبيخ لقريشٍ، أي: إن نفعت الذّكرى في هؤلاء الطّغاة العتاة، وهذا كنحو قول الشاعر:

لقد أسمعت لو ناديت حيًّا ....... ولكن لا حياة لمن تنادي


وهذا كلّه كما تقول لرجلٍ: قل لفلانٍ واعذله إن سمعك، إنما هو توبيخٌ للمشار إليه)ا.هـ.
وهذا التفسير محمول على أنّ الأمر بالتذكير في هذه الآية مخصوص بطغاة المشركين، وهو تخصيص لا دليل عليه سوى إرادة الخروج من إشكال اعتقاد ارتباط الأمر بالتذكير بشرط الانتفاع بالذكرى.
وقول الله تعالى: {سيذكر من يخشى} دليل على أنّ أهل الخشية داخلون فيمن أُمر بتذكيرهم في قوله: {فذكّر}.
وكذلك الزمخشري افترض الإشكال على أن {فذكّر} جواب الشرط، ثم أجاب عنه بجوابين:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم وأدّى رسالة ربّهم ثم أمر بالإعراض عنهم وقيل له: {فذكر إن نفعت الذكرى} كما قيل له: {فأعرض عن من تولى عن ذكرنا}.
والآخر: أن يكون ظاهره شرطاً ومعناه ذمّا للمذكَّرين وإخباراً عن حالهم واستبعاداً لتأثير الذكرى فيهم.
وهذا الإشكال كما تقدّم إنما نشأ من اعتقاد أنّ {فذكر} جواب الشرط متقدّم عليه على خلاف الأصل.
والصواب أن جواب الشرط محذوف، وحذفه أبلغ في البيان؛ ليصلح التقدير لكلّ معنى يناسب المذكَّرين على اختلاف درجاتهم ومواقفهم.
ولذلك لا يُقدَّر الجوابُ بتقدير إلا كان المعنى أعمّ منه، وهذا كما في قول الله تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم} لا يقدّر جواب الشرط بتقدير إلا كان المعنى أعمّ منه، فتذهب النفس في تقدير الجواب كلّ مذهب ممكن، ولا تقف على معنى صحيح إلا وجدته داخلاً في جواب الشرط.

والأمر بالتذكير في هذه الآية عام كما هو في نصوص كثيرة، وقد حمل جمهور المفسرين الأمر بالتذكير على العموم، لكن اختلفوا في تقرير ذلك على أقوال:
القول الأول: {إن} بمعنى "قد"، وهو قول مقاتل بن سليمان، واختاره غلام ثعلب في "ياقوتة الصراط"، وروى عن الكسائي أنه سمع العرب يقولون: "إن" قام زيد، وهم يريدون: "قد" قام زيد.
ونسبه ابن هشام في مغني اللبيب وجلال الدين السيوطي في الإتقان لقطرب.
والقول الثاني: {إن} بمعنى "إذ"، نسبه ابن هشام للكوفيين، وقال به أبو المظفّر السمعاني، قال: (مثل قوله تعالى: {وخافونِ إن كنتم مؤمنين} ومعناه: إذ كنتم مؤمنين).
والقول الثالث: "إن" بمعنى "ما" الشرطية، والتقدير: وذكر "ما" نفعت الذكرى، والذكرى نافعة لكل حال، وهو قول ابن شَجَرة تلميذ ابن جرير الطبري نقله عنه الماوردي.
والقول الرابع: "إنْ" هي المخففة من الثقيلة المؤكّدة، والمعنى "إنَّ" الذكرى نافعة، وهو قولٌ ذكره الكرماني وتعقّبه بقوله: (وفيه بعد، لأنه لا يلي الفعل إلا بواسطة "السين" أو "سوف"، نحو: {أن سيكون}، أو بواسطة "لا" نحو قوله:{أن لا يرجع إليهم قولاً}، أو "لن" نحو قوله:{أن لن تحصوه}، و"قد" نحو قوله:{أن قد أبلغوا})ا.هـ.
والقول الخامس: في الكلام حذف وتقديره: "فذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع"، واستدلوا بقول الله تعالى: {سرابيل تقيكم الحرّ} أي: والبرد.
وهذا القول ذكره أبو جعفر النحاس في "إعراب القرآن" ، واختاره الواحدي والبغوي، ونسبه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الفراء أيضاً، ولم أقف عليه في تفسيره إلا أنه كرر هذا الاستدلال في مواضع.
وذكر ابن تيمية أن الإمام أحمد أنكر على الفراء هذا القول لما فيه من مخالفة ظاهر النص.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وإنما قالوا هذا لأنهم قد علموا أنه يجب عليه تبليغ جميع الخلق وتذكيرهم سواء آمنوا أو كفروا؛ فلم يكن وجوب التذكير مختصاً بمن تنفعه الذكرى كما قال في الآية الأخرى:{فذكر إنما أنت مذكر.لست عليهم بمسيطر}، وقال:{وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون}، وقال:{ويقولون إنه لمجنون.وما هو إلا ذكر للعالمين}، وقال: {ليكون للعالمين نذيرا}.
وهذا الذي قالوه له معنى صحيح، وهو قول الفراء وأمثاله، لكن لم يقله أحد من مفسري السلف.
ولهذا كان أحمد بن حنبل ينكر على الفراء وأمثاله ما ينكره، ويقول: كنت أحسب الفراء رجلا صالحاً حتى رأيت كتابه في معاني القرآن.
وهذا المعنى الذي قالوه مدلول عليه بآيات أخر، وهو معلوم بالاضطرار من أمر الرسول فإن الله بعثه مبلغاً ومذكراً لجميع الثقلين الإنس والجن، لكن ليس هو معنى هذه الآية)ا.هـ.

والمقصود أن هذه الأقوال الخمسة يجمعها جامع القول بعموم الأمر بالتذكير وأنه غير مشروط بالانتفاع.
ومن أهل العلم من ذهب إلى أنّ جواب الشرط جملة {فذكّر} والتقدير: إن نفعت الذكرى فذكر، ثم اختلفوا في توجيه ذلك والجمع بينه وبين ما تقرر من الأدلة الدالة على وجوب التبليغ العامّ على أقوال:
القول الأول: الأمر بالتذكير في قوله تعالى: {فذكّر} محمول على التذكير الخاصّ، كقوله تعالى:{فذكر بالقرآن من يخاف وعيد}، وقوله:{إنما أنت منذر من يخشاها}.
فيكون الأمر بالتذكير هنا مخصوصاً بالتذكير النافع كما في قوله تعالى:{إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب} مع أنه أنذر جميع الناس بالمعنى العام للإنذار، لكن هذا إنذار خاص، وهو الإنذار النافع؛ فكذلك في هذه الآية إنما هو التذكير النافع.
وهذا المعنى ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة له مفردة في تفسير هذه الآية، واستدلّ بقوله تعالى:{ويتجنّبها الأشقى}، وذلك أنّ الأشقى إنما يتجنّب التذكّر الذي ينفعه، وأما الذكرى العامّة فقد بلغته وقامت عليه الحجة.
وهذا القول وإن كان يجيب على بعض الإشكالات إلا أنه يقود إلى إشكال آخر، وهو تمام المقابلة بين الأمر والشرط فيكون التقدير: ذكر التذكير النافع "إن" نفعت الذكرى.
والأشقى يتجنّب التذكّر والتذكير كما نُصّ عليه في آيات كثيرة.
وشيخ الإسلام وإن كان يرى أنّ "إن" شرطية على بابها، وأنّ جوابها {فذكّر} إلا أنّه عاد لتقرير أن التذكير عامّ فقال:(قوله‏:‏ ‏{‏‏إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى}‏‏ كما قال مفسرو السلف والجمهور على بابها، قال الحسن البصرى‏:‏ "تذكرة للمؤمن، وحجة على الكافر"‏.
وعلى هـذا فقـوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏}، لا يمنـع كون الكافر يبلغ القـرآن لوجوه‏:‏
أحدها‏: أنه لم يخصّ قومًا دون قوم، لكن قال‏:‏ ‏{‏فَذَكِّرْ‏}‏ ، وهذا مطلق بتذكير كل أحد‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏‏إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى}‏‏ لم يقل‏:‏ ‏[‏إن نفعت كل أحد‏]‏ بل أطلق النفع‏.
‏ فقد أمر بالتذكير إن كان ينفع‏،‏‏ والتذكير المطلق العام ينفـع؛ فإن مـن الناس مـن يتذكـر فينتفع بـه، والآخر تقـوم عليـه الحجـة ويستحق العـذاب على ذلك، فيكـون عـبرة لغيره، فيحصل بتذكيره نفع أيضًا؛ ولأنه بتذكيره تقوم عليه الحجة، فتجوز عقوبته بعد هذا بالجهاد وغيره، فتحصل بالذكرى منفعة‏.‏ فكل تذكير ذكر به النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين حصل به نفع في الجملة، وإن كان النفع للمؤمنين الذين قبلوه واعتبروا به وجاهدوا المشركين الذين قامت عليهم الحجة‏).ا.هـ‏
ثمّ ذكر أوجهاً أخرى في تقرير عموم الأمر بالتذكير، وهذا التقرير يؤول إلى ما سبق تقريره من القول الراجح في تفسير هذه الآية وهو أنّ الغرض من الشرط التأكيد.

والقول الثاني: المعنى: فذكّر "ما" نفعت الذكرى، قال الخازن: أي مدّة نفع الموعظة والتذكير؛ فكأنّه إرشاد لأدب التذكير.

والقول الثالث: المعنى: ذكّر حيث تنفع التذكرة، قاله ابن كثير، وقال: (ومن ههنا يؤخذ الأدب في نشر العلم فلا يضعه عند غير أهله كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: ما أنت بمحدّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم، وقال: حدّثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبّون أن يُكذَّب الله ورسوله).
والفرق بين هذا القول والذي قبله؛ أنّ هذا القول في الهدي مع المذكّرين، والذي قبله في أدب التذكير.

والقول الرابع: التذكير قدر زائد على البلاغ الأصلي الذي تقوم به الحجة، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس عليه إلا البلاغ المبين؛ وقد بلَّغ رسالة ربّه وقامت الحجّة على المخالف، فيكون الأمر بالتذكير مخصوصاً برجاء نفعه.
وهذا المعنى حام حوله جماعة من المفسرين واختلفت عباراتهم فيه، ومن أجودهم عبارة فيه شيخ الإسلام ابن تيمية وأبو السعود الحنفي.

والقول الخامس: المعنى: فذكّر "إن" كانت منفعة التذكير خالصة أو غالبة، فأما إن كان التذكير يترتب عليه مفسدة خالصة أو غالبة فمنهيٌّ عنه، وهذا القول ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته في الجواب عن فائدة التقييد بالشرط بعد تقرير عموم الأمر بالتذكير، ثمّ حبَّره السعدي في "القواعد الحسان" ولخّصه في تفسيره.
- فقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فإن قيل‏:‏ فعلى هذا كلُّ تذكير قد حصل به نفع، فأي فائدة في التقييد‏؟‏
قيل‏:‏ بل منه ما لم ينفع أصلًا، وهو ما لم يُؤمر به‏. ‏‏وذلك كمن أخبر الله أنه لا يؤمن، كأبي لهب، فإنه بعد أن أنزل الله قوله‏:‏{‏‏سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ‏} فإنه لا يخصّ بتذكير بل يعرض عنه‏.
‏‏ وكذلك كل من لم يصغ إليه ولم يستمع لقوله، فإنه يعرض عنه، كما قال‏:‏{‏‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُوم}ٍ‏، ثم قال‏:‏‏{‏‏وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}‏‏، فهو إذا بلغ قومًا الرسالة فقامت الحجة عليهم، ثم امتنعوا من سماع كلامه أعرض عنهم‏؛‏ فإن الذكرى حينئذ لا تنفع أحدًا‏.
وكذلك من أظهر أن الحجة قامت عليه وأنه لا يهتدي فإنه لا يكرر التبليغ عليه‏).
إلى أن قال: (فيكون مأمورًا أن يذكر المنتفعين بالذكرى تذكيرًا يخصهم به غير التبليغ العام الذي تقوم به الحجة، كما قال‏:‏ ‏{‏‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}‏‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏{‏‏وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}‏‏‏، وفي الصحيحين عن ابن عباس‏:‏ قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن سمعه المشركون، فسبُّوا القرآن ومن أنزل عليه ومن جاء به، فقال الله له‏:‏ ولا تجهر به فيسمعه المشركون، ولا تخافت به عن أصحابك‏. ‏‏ فنهي عن أن يسمعهم إسماعًا يكون ضرره أعظم من نفعه‏، وهكذا كل ما يأمر الله به لابد أن تكون مصلحته راجحة على مفسدته‏.‏
والمصلحة هي المنفعة، والمفسدة هي المضرة‏؛ فهو إنما يؤمر بالتذكير إذا كانت المصلحة راجحة، وهو أن تحصل به منفعة راجحة على المضرة‏). ‏‏
ثم قال: (فحيث كان الضرر راجحًا فهو منهي عما يجلب ضررًا راجحًا‏.‏ والنفع أعم في قبول جميعهم، فقبول بعضهم نفع، وقيام الحجة على من لم يقبل نفع، وظهور كلامه حتى يبلغ البعيد نفع، وبقاؤه عند من سمعه حتى بلغه إلى من لم يسمعه نفع؛‏‏ فهو صلى الله عليه وسلم ما ذكَّرَ قط إلا ذكرى نافعة، لم يذكر ذكرى قط يكون ضررها راجحًا.
وهذا مذهب جمهور المسلمين من السلف والخلف؛ أن ما أمر الله به لابد أن تكون مصلحته راجحة ومنفعته راجحة‏.‏ وأما ما كانت مضرته راجحة، فإن الله لا يأمر به‏)ا.هـ.
- وقال السعدي في كتابه "القواعد الحسان": (وأما قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} فإنها من أصل هذه القاعدة، ويظن بعض الناس أنها من هذا النوع، وأنه يجب التذكير نفعت الذكرى أو لم تنفع، ولكن قصر الآية على هذا غلط، فنفع الذكرى إذا كان يحصل بها الخير كله أو بعضه أو يزول بها الشر كله أو بعضه.
فأما إذا كان ضرر التذكير أعظم من نفعه فإنه منهي عنه في هذه الحالة، كما نهى الله عن سبّ آلهة المشركين إذا كان وسيلة لسب الله، وكما ينهى عن الأمر بالمعروف إذا كان يترتب عليه شر أكبر أو فوات خير أكثر من الخير الذي يؤمر به، وكذلك النهي عن المنكر إذا ترتب عليه ما هو أعظم منه من شر أو ضرر. فالتذكير في هذه الحال غير مأمور به بل منهي عنه، وكل هذا من تفصيل قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} فعُلم أن هذا قيد مراد ويرتبط الحكم به ثبوتاً وانتفاء والله أعلم)ا.هـ.
وقال في تفسيره: ({فَذَكِّرْ} بشرع الله وآياته {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} أي: ما دامت الذكرى مقبولة، والموعظة مسموعة، سواء حصل من الذكرى جميع المقصود أو بعضه.
ومفهوم الآية أنه إن لم تنفع الذكرى، بأن كان التذكير يزيد في الشر، أو ينقص من الخير، لم تكن الذكرى مأمورًا بها، بل منهيًا عنها)ا.هـ.
وما ذكراه صحيح في نفسه، وتدلّ عليه مقاصد الشريعة، لكن لا يُقصر معنى الآية عليه.
وهذه الأقوال متقاربة، وبينها فروق، لكن يجمعها جامع القول بأنّ {فذكّر} جواب الشرط في قوله تعالى: {إن نفعت الذكرى}.


رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
رسالة, في

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:38 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir