دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > الأقسام العامة > المنتديات > المنتدى العام

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19 رمضان 1431هـ/28-08-2010م, 03:31 AM
د. أحمد عليوي حسين الطائي د. أحمد عليوي حسين الطائي غير متواجد حالياً
طالب علم
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
الدولة: العراق - بغداد
المشاركات: 24
افتراضي تحريم الحلال وتحليل الحرام في الحكم سواء

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم السلم على رسوله الأمين، وجميع آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى.. وبعد...
فإن من أصول الشريعة الإسلامية وكلياتها العامة الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل أن الحاكمية لله تعالى، وأنه سبحانه هو الذي له حق الحكم في خلقه بما يشاء وكيف شاء.
وأن ذلك من مستلزمات ألوهيته سبحانه، فهو خالق هذا الوجود من العدم (ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)) سورة الأنعام.
ومن ثَم فهو مالكه (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)) سورة آل عمران.
وخالق الشيء ومالكه له حق الحكم فيه (إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)) سورة الأعراف.
هذا وإن من أبرز مظاهر حكم الله سبحانه في هذا الوجود: حكمه سبحانه بتحليل الحلال أو تحريم الحرام.
وليس بخاف على طلبة علوم الشريعة، الحريصين على تحصيلها أن معرفة حكمه سبحانه إنما يكون من خلال اتباع الرسل فيما يبلغونه عن ربهم.
وأما بعد الرسل عليهم الصلاة والسلام فالعلماء ورثة الأنبياء، وهم ما ورثوا عنهم الأموال وأشباهها بل ورثوا عنهم علم الشرع كما حُمِلوا أمانة التبليغ.
وإذا ما كان علم الأنبياء بأحكام الشرع يحصل عن طريق الوحي، فعلم العلماء بها إنما يكون عن طريق ما بينته الشريعة من مصادر التشريع ودلائله, الأصلية أو الفرعية، النقلية أو العقلية؛ وتفصيل ذلك وبيانه إنما يؤخذ مما دونه أئمة المسلمين في علم أصول الفقه، الذي امتاز به المسلمون من بين العالمين.
وهنا نصل إلى ما نحن بصدد الخوض فيه، ألا وهو: تحليل الحرام أو تحريم الحلال... هل ثمة فرق بينهما أم أنهما في الحكم سواء وحكمهما واحد؟
والذي دعا إلى الخوض في ذلك إنما هو ما وجدناه من مظاهر جزئية قد تضيق وقد تتسع، في مراحل مختلفة مما مر به تاريخ التشريع الإسلامي، من تساهل أو تشدد في أحد الجانبين، أي: تحليل الحرام أو تحريم الحلال.
وهو ما اتسع في هذا الزمان بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، فنجد فريقا من أهل العلم أو غيرهم يتوسع في جانب (تحليل الحرام) في حين نجد فريقا آخر يتوسع في (تحريم الحلال).
وربما كان ذلك بذرائع مختلفة يتذرع بها كل من الفريقين ومفاهيم عامة ربما لا نجد خلافا في أصالتها وأنها من الدين، ولكن تنزيلها على الوقائع في غير محله.
وربما كان بذرائع غير شرعية أصلا.
فأما من يتساهل ويستسيغ (تحليل الحرام) فنجده يتذرع بسماحة الإسلام ويسر الشريعة أو العمل بفتح الذرائع الممنوعة أصلا أو الأخذ بمقتضيات المصلحة العامة أو الخاصة أو مجاراة الواقع الزمان وأمثال ذلك مما قد نجد أصوله وفروعه مقررة في أصول الشريعة وفروعها.
وقد يكون ذلك رغبة في الحصول على مكاسب دنيوية كإرضاء ذي سلطان، أو الظهور بمظهر المتنور الآخذ بأسباب التحضر والتطور...
وأما من يتشدد ويتنطع ويستسيغ (تحريم الحلال) فنجد أنه قد يتذرع بالورع أو الاحتياط أو المحافظة على الدين وسد الذرائع المباحة أصلا وما أشبه ذلك مما نجد له أصلا مقررا في أصول الشريعة وفروعها.
وقد يكون ذلك رغبة بالظفر بمدح العامة إذا ما بدا المُقدِمُ عليه بصورة الشديد الحريص على حرمات الدين المدافع عنها.
ولا بد من التنويه هنا إلى أننا لسنا في هذا المقام بصدد الحديث أو مناقشة أولئك الذين يرون عدم صلاحية الرسالة الإسلامية للتشريع أصلا، أو أنها جاءت لزمان معين وقد انقضى وأنه قد انقضى أوانه.
بل المقصود بهذا الحديث إنما هم أولئك المتحدثون اسم الإسلام؛ حقا وصدقا، أو زورا وبهتانا.
ولما كان موضوع هذه المسألة منقسم على شقين أو جانبين كما تقدم؛ أحدهما: (تحليل الحرام).
والآخر: (تحريم الحلال).
فلا بد من التنويه إلى أن المقصود بالحديث في هذا المقام إنما هو جانب: (تحـريم الحـلال) تحديداً.
وذلك لما وجدناه من جهود مباركة كثيرة في معالجة ظاهرة (تحليل الحرام) وبيان ضوابطها وحدودها وحكمها وبيان أصحاب الأغراض ممن قد يقعوا فيها، وهو ما يغني عن إعادة ما قد قيل في كل ذلك وغيره سابقا، وليس لأن أحدهما أولى بالاهتمام من الأخرى قطعا.
ولكن الحاجة ماسة إلى تركيز الكلام على الشق الثاني من هذه المشكلة وهو ظاهرة (تحريم الحلال) لتحقيق شيء من التوازن في معالجة هذه الظاهرة بصورة عامة.
ولا يسعنا هنا إلا أن نقول:
إن كلا من ذلك لا يجوز في شرع الله تعالى، مهما كانت المبررات والذرائع التي يستند إليها كل من الفريقين، ومن أقدم على شيء من ذلك من دون علم أو بدوافع خاصة أو رغبات شخصية فقد نازع الله تعالى فيما هو من صفاته ولوازم إلهيته التي لا تنبغي لأحد سواه، ألا وهي الحاكمية أو التشريع.
قال تعالى:
(أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)) سورة الشورى
وقد ذم الله تعالى الأحبار والرهبان إذ: أحلوا الحرام وحرموا الحلال.
كما ذم أتباعهم إذ: أطاعوهم.
بل أنه سبحانه قد جعل العلاقة بينهم: علاقة العابد بالمعبود.
مع أن أولئك الأحبار والرهبان ما أمروا الناس بعبادتهم؛ بالسجود أو الركوع لهم، وإلى ما أشبه ذلك وماثله من مظاهر العبودية الظاهرة.
وأن أولئك الأتباع ما عبدوهم حقيقة كما قد يتبادر بالسجود أو الركوع لهم.
بل غاية ما في الأمر: أن الأحبار والرهبان قد أحلوا ما حرم الله تعالى وحرموا ما أحله على وفق أهوائهم ورغباتهم.
وأن أتباعهم أطاعوهم وامتثلوا أحكامهم فأحلوا وحرموا على وفق ما يشتهي أولئك الأحبار والرهبان وإن خالف شرع الله وما حكم به بين عباده.
فحكم الله سبحانه فيهم بأنهم أصبحوا في مقام العبودية لأولئك الأحبار والرهبان، كائنا ما كانت دعواهم ومبرراتهم.
قال تعالى:
((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)))

قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى:
{قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ...}
روى الإمام أحمد، والترمذي، وابن جرير من طرق، عن عدي بن حاتم، رضي الله عنه، أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَّ إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأُسِرَت أختُه وجماعة من قومه، ثمَّ منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، ورَغَّبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عَدِيّ المدينة، وكان رئيسا في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدَّث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عَدِيّ صليب من فضة، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: "بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم".}
وقال الإمام الطبري في تفسيره:
{ عن حذيفة أنه سئل عن قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله)، أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّموه ......
عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة: أرأيت قول الله:(اتخذوا أحبارهم) ؟ قال: أمَا إنهم لم يكونوا يصومون لهم ولا يصلون لهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلُّوه، وإذا حرّموا عليهم شيئًا أحله الله لهم حرَّموه، فتلك كانت رُبوبيَّتهم.}

وقال الكيا الهراسي الشافعي (المتوفى : 504هـ) في كتابه أحكام القرآن:
{{اتّخَذوا أحْبارَهُم ورُهْبانهُمْ أرْباباً مِن دونِ اللهِ} معناه: أنهم أنزلوهم منزلة ربهم, في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله تعالى ولم يحله}

وقال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى:
{ وأما تحريم الحلال وتحليل الحرام وما أشبهه فمن حق الله تعالى لأنه تشريع مبتدأ وإنشاء كلية شرعية ألزمها العباد، فليس لهم فيها تحكم؛ إذ ليس للعقول تحسين ولا تقبيح تحلل به أو تحرم؛ فهو مجرد تعد فيما ليس لغير الله فيه نصيب، فلذلك لم يكن لأحد فيه خيرة.}

فهذه الآثار المباركة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وغيرها من أقوال العلماء الربانيين تدل -بما لا يدع للشك مجالا- على أن كلا مِن (تحليل الحرام وتحريم الحلال) في الحكم سواء، ويتوجب على كل مَن يتحدث باسم الدين مراعاةُ ذلك وعدمُ التفريطِ بأي جانب منهما، مجتهداً كان أن مفتيا أم قاضيا أم واعظا. ومن أهمل مراعاة أي منهما لحقه الذم الوارد في نصوص الشريعة.

ولا ينبغي بأي حال من الأحوال التساهل في الإقدام على أي من هذين الجانبين تحت أية من المبررات التي تقدم ذكرها أو غيرها.
بما في ذلك (تحريمه الحلال و منعه) الذي ربما توهم البعض أنه أقل خطرا وضررا وإثما من (تحليل الحرام وإباحته) أخذا بجانب الشدة في الدين أو الورع والاحتياط والزهد في الملذات، فذلك خلط وتلبيس، وإنزال للأمور في غير منازلها.

قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ) في تفسيره التحرير والتنوير: في تفسير قوله تعالى:
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88))) سورة المائدة

{وفي قوله تعالى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} تنبيه لفقهاء الأمة على الاحتراز في القول بتحريم شيء لم يقم الدليل على تحريمه،أو كان دليله غير بالغ قوة دليل النهي الوارد في هذه الآية...
وقوله: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً} تأكيد للنهي عن تحريم الطيبات وهو معطوف على قوله: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}. أي أن الله وسع عليكم بالحلال فلا تعتدوه إلى الحرام فتكفروا النعمة ولا تتركوه بالتحريم فتعرضوا عن النعمة.}

فالفقهاء وغيرهم ممن يتحدث باسم الدين أياً كان وصفه ولقبه معنيون بهذا الخطاب، المشتمل معاني النهي والأمر والتهديد والوعيد وإرشاد العباد إلى عدم التفريط بالحلال وإغلاق أبوابه لمبررات غير شرعية، أو عملا بقواعد ربما أُنزِلت في غير منازلها، ما لم يقم مبرر شرعي منضبط يستدعي ذلك.
بل إن الإقدام على ذلك ضرب من أشكال التشبه بالكفار، أحس فاعله بذلك أم لا، وأنه ربما كان من أسباب نسيان أحكام الشريعة التي نحن مكلفون بالحفاظ عليها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى
{يقول تعالى ... ((سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء)) ومعلوم أن مبدأ هذا التحريم ترك الأمور المباحة تدينا وأصل هذا التدين هو من التشبه بالكفار وإن لم يقصد المتدين التشبه بهم.
فقد تبين لك أن من أصل دروس دين الله وشرائعه وظهور الكفر والمعاصي التشبه بالكافرين كما أن من أصل كل خير المحافظة على سنن الأنبياء وشرائعهم}

ولما كان الحكم بالتحريم من خصائص الإلهية فإن الله سبحانه لم يأذن به حتى لنبيه وصفوة خلقه محمد صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق على الله تعالى، ومن ثم فغيره أولى بالمنع منه.
قال ابن القيم رحمه الله:
{ وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكَ} [ التّحْرِيمُ 1 ]
فَإِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ لِرَسُولِهِ أَنْ يُحَرّمَ مَا أَحَلّ اللّهُ لَهُ فَكَيْفَ يَجْعَلُ لِغَيْرِهِ التّحْرِيمَ؟؟!!}

فخلاصة الموضوع: إن (تحريم الحلال) لا يقل إثما ولا خطورة عند الله تعالى وفي شرعه الحنيف عن (تحليل الحرام).
ومن عرض له شي من الوقائع أو الأحداث التي تستدعي بيان حكم الله تعالى فيها فعليه أن لا يستهين بأي منهما، فهما في الحكم سواء.
فلا يقدم على (التحريم) أو (التحليل) في شيء إلا عن دراية وبصيرة ودليل.
وإذا ما تحير في معرفة الحكم فعليه أن يتوقف عن الحكم بشيء منهما إلى أن يظهر له ما يعتقد أنه حكم الله تعالى في تلك المسألة أو الحادثة.
ومن تجرأ على المنع والتحريم أو الإذن والتحليل، من دون علم ولا بينة فقد خالف أمر الله واتبع هواه.
ولا يقولن إن التحريم أقرب إلى سلامة المفتي ونجاته، لأن غاية ما في الأمر المستفتي سيترك العمل بما أقبل يستفتي عنه، وأن ذلك أحوط وأورع و...الخ.
لا وألف لا...
لأن الأمر لن يقف عند ذلك الحد، والخطورة إنما تكمن في التقول على الله، ونسبة الحكم مما لم يأذن به ولا ارتضاه
ولا يستنكفن عالم أو مفت أو خطيب أو واعظ من قول (لا أدري)، فلربما كانت فيها نجاته وهو لا يدري، ومن قال لك لا أدري فقد أفتاك.
ورحم الله علماء الإسلام من الصحابة فمَن بعدهم، الذين ما منعهم مانع من (تدافع الفتوى) والمجاهرة بقول (لا أدري)، وحسبنا أن نذكر من ذلك مواقف إمام دار الهجرة (مالك) الذي ربما وردته عشرات الأسئلة من شتى أصقاع الأرض، فيفتي فيما بين الله له فيها، ويقول في الباقي منها (لا أدري).
وهو الذي قد قيل فيه: لا يُفتى وفي المدينة مالك.

ولا بد من التنبيه هنا إلى أن هذا الكلام لا يتناول الحالات الاستثنائية أو الطارئة مما يستدعي العمل بالرخصة أو مراعاة الضرورة أو العمل بسد الذرائع أو فتحها أو الموازنة بين المصالح عند تعارضها، سواء تمثل ذلك بتعارض المنافع مع بعضها أم المفاسد مع بعضها أم بتعارض المنافع مع المفاسد، وما أشبه ذلك من الضوابط والقواعد التي قد يظهر منها عند العمل بها تغيير الأحكام الشرعية من الحل إلى التحريم أو العكس، في أحوال معينة لظروف أو أسباب خاصة.
فكل ذلك غير داخل ولا مندرج في هذا الكلام، متى ما كان العمل به على وفق القواعد والضوابط المقررة في علم أصول الفقه من خلال القواعد الأصولية أو الفقهية المقررة، من دون الخروج عن الأدلة الشرعية المعتبرة.
لأن الانتقال هنا لن يكون من حكم شرعي إلى حكم آخر غير شرعي.
بل إن ذلك الانتقال إنما يكون من حكم شرعي إلى حكم شرعي أيضا.
وأن الحاكم في كل منهما هو الله سبحانه، الذي جعل من الأحكام ما يدور مع علله أو أسبابه أو ظروفه وجودا وعدما.
فيحكم بالحل مثلا عند توفر علة الحل وأسبابه، وينتقل الحكم إلى التحريم عند توفر علة التحريم وأسبابه.
ومن ثَم فالحاكم بالانتقال والآمر بالتغيير هو الله تعالى.
وإنما يبين ذلك ويفتي أو يقضي به من توفرت له آلات الاجتهاد والإفتاء والقضاء، من العلوم الشرعية والملكة الفقهية والخبرة بأمور الناس وأحوالهم والقدرة على التمييز بين ما يمكن تحول أو تغير حكمه من الوقائع والأحداث، وما لا يمكن سريان ذلك فيه، وإخلاص الطوية وابتغاء بيان شرع الله تعالى والقيام بواجب التبليغ، إلى غير ذلك من الشروط والأوصاف المبينة في مظانها، في علم أصول الفقه وغيره مما يتعلق بأصول الاجتهاد والإفتاء والقضاء.
قال تعالى:
((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)) سورة آل عمران (187)

في حين أن الحاكم بالانتقال من التحليل أو التحريم إلى غيره، خلافا لما ثبت بالشرع، من دون التقيد بالأدلة الشرعية الإجمالية المعتبرة وقواعد الشريعة العامة وضوابطها الكلية التي حددها العلماء، إنما هو حاكم على وفق ميوله وهواه.
والله تعالى يقول:
((أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)) سورة الجاثية (23)

اللهم هذا جهد المقل، فما كان من صواب فمنك وحدك، وإلا فمن نفسي الخاطئة المذنبة، غفرانك لا أحصي ثناء عليك.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الجلال, تحريم


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:17 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir