قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: ولا تتمنّوا ما فضّل اللّه به بعضكم على بعضٍ للرّجال نصيبٌ ممّا اكتسبوا وللنّساء نصيبٌ ممّا اكتسبن وسئلوا اللّه من فضله إنّ اللّه كان بكلّ شيءٍ عليماً (32)
سبب الآية أن النساء قلن: ليتنا استوينا مع الرجال في الميراث وشركناهم في الغزو، وروي أن أم سلمة قالت ذلك أو نحوه، وقال الرجال: ليت لنا في الآخرة حظا زائدا على النساء، كما لنا عليهن في الدنيا، فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لأن في تمنيهم هذا تحكما على الشريعة وتطرقا إلى الدفع في صدر حكم الله، فهذا نهي عن كل تمنّ لخلاف حكم شرعي، ويدخل في النهي أن يتمنى الرجل حال الآخر من دين أو دنيا، على أن يذهب ما عند الآخر، إذ هذا هو الحسد بعينه، وقد كره بعض العلماء أن يتمنى أحد حال رجل ينصبه في فكره وإن لم يتمنّ زوال حاله، وهذا في نعم الدنيا، وأما في الأعمال الصالحة فذلك هو الحسن، وأما إذا تمنى المرء على الله من غير أن يقرن أمنيته بشيء مما قدمناه فذلك جائز، وذلك موجود في حديث النبي عليه السلام في قوله «وددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا فأقتل» وفي غير موضع، ولقوله تعالى: وسئلوا اللّه من فضله وقوله تعالى: للرّجال نصيبٌ الآية قال قتادة: معناه من الميراث، لأن العرب كانت لا تورث النساء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ضعيف، ولفظة الاكتساب ترد عليه ردا بينا، ولكنه يتركب على قول النساء: ليتنا ساوينا الرجال في الميراث، فكأنه قيل بسببهن: لا تتمنوا هذا فلكل نصيبه، وقالت فرقة:
معناه من الأجر والحسنات، فكأنه قيل للناس: لا تتمنوا في أمر خلاف ما حكم الله به، لاختيار ترونه أنتم، فإن الله قد جعل لكلّ أحد نصيبا من الأجر والفضل، بحسب اكتسابه فيما شرع له.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا القول هو الواضح البيّن الأعم، وقالت فرقة: معناه: لا تتمنوا خلاف ما حد الله في تفضيله، فإنه تعالى قد جعل لكل أحد مكاسب تختص به، فهي نصيبه، قد جعل الجهاد والإنفاق وسعي المعيشة وحمل الكلف كالأحكام والإمارة والحسبة وغير ذلك للرجال، وجعل الحمل ومشقته وحسن التبعل وحفظ غيب الزوج وخدمة البيوت للنساء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كقول الذي قبله، إلا أنه فارقه بتقسيم الأعمال، وفي تعليقه النصيب بالاكتساب حض على العمل، وتنبيه على كسب الخير، وقرأ جمهور السبعة «واسألوا» بالهمز وسكون السين، وقرأ الكسائي وابن كثير «وسلوا» ألقيا حركة الهمزة على السين، وهذا حيث وقعت اللفظة إلا في قوله وسئلوا ما أنفقتم [الممتحنة: 10] فإنهم أجمعوا على الهمز فيه، قال سعيد بن جبير، وليث بن أبي سليم: هذا في العبارات والدين وأعمال البر ليس في فضل الدنيا، وقال الجمهور: ذلك على العموم، وهو الذي يقتضيه اللفظ، وقوله: واسألوا يقتضي مفعولا ثانيا، فهو عند بعض النحويين في قوله: من فضله التقدير واسألوا الله فضله، وسيبويه لا يجيز هذا لأن فيه حذف «من» في الواجب، والمفعول عنده مضمر، تقديره واسألوا الله الجنة أو كثيرا أو حظا من فضله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا هو الأصح، ويحسن عندي أن يقدر المفعول- أمانيكم، إذ ما تقدم يحسن هذا التقدير، وقوله: بكلّ شيءٍ عليماً معناه: أن علم الله قد أوجب الإصابة والإتقان والإحكام، فلا تعارضوا بثمن ولا غيره، وهذه الآية تقتضي أن الله يعلم الأشياء، والعقائد توجب أنه يعلم المعدومات الجائز وقوعها وإن لم تكن أشياء، والآية لا تناقض ذلك، بل وقفت على بعض معلوماته وأمسكت عن بعض). [المحرر الوجيز: 2/535-537]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولا تتمنّوا ما فضّل اللّه به بعضكم على بعضٍ للرّجال نصيبٌ ممّا اكتسبوا وللنّساء نصيبٌ ممّا اكتسبن واسألوا اللّه من فضله إنّ اللّه كان بكلّ شيءٍ عليمًا (32)}
قال الإمام أحمد: حدّثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ قال: قالت أمّ سلمة: يا رسول اللّه، يغزو الرّجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث. فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {ولا تتمنّوا ما فضّل اللّه به بعضكم على بعضٍ}
ورواه التّرمذيّ عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ، عن أمّ سلمة أنّها قالت: قلت: يا رسول اللّه ... فذكره، وقال: غريبٌ ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، أنّ أمّ سلمة قالت ...
ورواه ابن أبي حاتمٍ، وابن جريرٍ وابن مردويه، والحاكم في مستدركه، من حديث الثّوريّ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قال: قالت أمّ سلمة: يا رسول اللّه، لا نقاتل فنستشهد، ولا نقطع الميراث! فنزلت: {ولا تتمنّوا ما فضّل اللّه به بعضكم على بعضٍ للرّجال نصيبٌ ممّا اكتسبوا وللنّساء نصيبٌ ممّا اكتسبن} ثمّ نزلت: {أنّي لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى} [آل عمران: 195].
ثمّ قال ابن أبي حاتمٍ: وكذا روى سفيان بن عيينة، يعني عن ابن أبي نجيحٍ بهذا اللّفظ. وروى يحيى القطّان ووكيع بن الجرّاح، عن الثّوريّ، وعن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن أمّ سلمة قالت: قلت: يا رسول اللّه = وروي عن مقاتل بن حيّان وخصيف نحو ذلك.
وروى ابن جريرٍ من حديث ابن جريجٍ، عن عكرمة ومجاهدٍ أنّهما قالا أنزلت في أمّ سلمة.
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن شيخٍ من أهل مكّة قال: نزلت هذه الآية في قول النّساء: ليتنا الرّجال فنجاهد كما يجاهدون ونغزو في سبيل اللّه عزّ وجلّ.
وقال ابن أبي حاتمٍ أيضًا: حدّثنا أحمد بن القاسم بن عطيّة، حدّثني أحمد بن عبد الرّحمن، حدّثني أبي، حدّثنا الأشعث بن إسحاق، عن جعفرٍ -يعني ابن أبي المغيرة-عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ في] قوله [ {ولا تتمنّوا ما فضّل اللّه به بعضكم على بعضٍ للرّجال نصيبٌ ممّا اكتسبوا وللنّساء نصيبٌ ممّا اكتسبن} قال: أتت امرأةٌ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت: يا نبيّ اللّه، للذّكر مثل حظّ الأنثيين، وشهادة امرأتين برجلٍ، فنحن في العمل هكذا، إن عملت امرأةٌ حسنةً كتبت لها نصف حسنةٍ. فأنزل اللّه هذه الآية: {ولا تتمنّوا} فإنه عدل مني، وأنا صنعته.
وقال السّدّيّ: قوله: في الآية {ولا تتمنّوا ما فضّل اللّه به بعضكم على بعضٍ} فإنّ الرّجال قالوا: نريد أن يكون لنا من الأجر الضّعف على أجر النّساء، كما لنا في السّهام سهمان. وقالت النّساء: نريد أن يكون لنا أجرٌ مثل أجر الرّجال الشّهداء، فإنّا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا فأبى اللّه ذلك، ولكن قال لهم: سلوني من فضلي قال: ليس بعرض الدّنيا.
وقد روي عن قتادة نحو ذلك. وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: قوله: {ولا تتمنّوا ما فضّل اللّه به بعضكم على بعضٍ} قال ولا يتمنّى الرّجل فيقول: "ليت لو أنّ لي مال فلانٍ وأهله! " فنهى اللّه عن ذلك، ولكن يسأل اللّه من فضله.
وكذا قال محمّد بن سيرين والحسن والضّحّاك وعطاءٌ نحو ذلك وهو الظّاهر من الآية ولا يرد على هذا ما ثبت في الصّحيح: "لا حسد إلّا في اثنتين: رجلٌ آتاه اللّه مالًا فسلّطه على هلكته في الحقّ، فيقول رجلٌ: لو أنّ لي مثل ما لفلانٍ لعملت مثله. فهما في الأجر سواءٌ" فإنّ هذا شيءٌ غير ما نهت الآية عنه، وذلك أنّ الحديث حضّ على تمنّي مثل نعمة هذا، والآية نهت عن تمنّي عين نعمة هذا، فقال: {ولا تتمنّوا ما فضّل اللّه به بعضكم على بعضٍ} أي: في الأمور الدّنيويّة، وكذا الدّينيّة أيضًا لحديث أمّ سلمة، وابن عبّاسٍ. وهكذا قال عطاء بن أبي رباحٍ: نزلت في النّهي عن تمنّي ما لفلانٍ، وفي تمنّي النّساء أن يكنّ رجالًا فيغزون. رواه ابن جريرٍ.
ثمّ قال: {للرّجال نصيبٌ ممّا اكتسبوا وللنّساء نصيبٌ ممّا اكتسبن} أي: كلٌّ له جزاءٌ على عمله بحسبه، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ. وهو قول ابن جريرٍ.
وقيل: المراد بذلك في الميراث، أي: كلٌّ يرث بحسبه. رواه التّرمذيّ عن ابن عبّاسٍ:
ثمّ أرشدهم إلى ما يصلحهم فقال: {واسألوا اللّه من فضله}] أي [ لا تتمنّوا ما فضّل به بعضكم على بعضٍ، فإنّ هذا أمرٌ محتومٌ، والتّمنّي لا يجدي شيئًا، ولكن سلوني من فضلي أعطكم؛ فإنّي كريمٌ وهّابٌ.
وقد روى التّرمذيّ، وابن مردويه من حديث حمّاد بن واقدٍ: سمعت إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "سلوا اللّه من فضله؛ فإنّ اللّه يحبّ أن يسأل وإنّ أفضل العبادة انتظار الفرج".
ثمّ قال التّرمذيّ: كذا رواه حمّاد بن واقدٍ، وليس بالحافظ، ورواه أبو نعيم، عن إسرائيل، عن حكيم بن جبيرٍ، عن رجلٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وحديث أبي نعيمٍ أشبه أن يكون أصحّ
وكذا رواه ابن مردويه من حديث وكيع، عن إسرائيل. ثمّ رواه من حديث قيس بن الربيع، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه: "سلوا اللّه من فضله، فإنّ اللّه يحبّ أن يسأل، وإنّ أحبّ عباده إليه الّذي يحب الفرج".
ثمّ قال: {إنّ اللّه كان بكلّ شيءٍ عليمًا} أي: هو عليمٌ بمن يستحقّ الدّنيا فيعطيه منها، وبمن يستحقّ الفقر فيفقره، وعليمٌ بمن يستحقّ الآخرة فيقيّضه لأعمالها، وبمن يستحقّ الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه؛ ولهذا قال: {إنّ اللّه كان بكلّ شيءٍ عليمًا} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/286-288]