والمقصُودُ أنَّ مِثْلَ هَذَا الاخْتِلافِ الَّذِي لا يُعْلَمُ صَحِيحُهُ وَلاَ تُفِيدُ حِكَايَةُ الأَقْوَالِ فِيهِ هُوَ كَالْمَعْرِفَةِ لِمَا يُرْوَى من الْحَدِيثِ الَّذِي لاَ دَلِيلَ على صحَّتِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِِكَ .
وَأمَّا القِسْمُ الأَوَّلُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفةُ الصَّحيحِ منْهُ فَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ وَللهِ الحمدُ ، فَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ في التَّفسيرِ وَالْحَدِِيثِ وَالمْغَازِي أُمُورٌ منْقُولَةٌ عَن نبيِّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيرِهِ من الأنبيَاءِ - صَلَواتُ اللهِ عَليهِمْ وَسَلامُهُ - والنَّقلُ الصَّحيحُ يَدْفَعُ ذَلِكَ ، بَلْ هَذَا موجودٌ فيمَا مُسْتَنَدُهُ النَّقلُ ، وَفِيمَا [قَدْ ]يُعْرَفُ بِأُمُورٍ أُخْرَى غَيْرِ النَّقلِ .
فَالمقصُودُ أَنَّ الْمنْقُولاتِ الَّتِي يُحْتاجُ إليها في الدِّينِ قَدْ نَصَبَ اللهُ الأَدِلَّةَ عَلَى بَيَانِ مَا فِيهَا منْ صَحِيحٍ وَغَيْرِهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمنْقُولَ في التَّفسيرِ أَكْثرُهُ كَالْمنْقُولِ فِي الْمَغَازِي وَالْمَلاحِمِ ، وَلِهَذَا قَالَ الإمامُ أحمَدُ :" ثلاثةُ أُمُورٍ لَيْسَ لَهَا إِسْنادٌ : التَّفسيرُ وَالْمَلاَحِمُ وَالْمَغَازِي " ، ويُرْوَى : " ليسَ لَها أَصْلٌ " أَيْ إِسْنَادٌ ، لأَنَّ الغَالِبَ عَلَيْهَا المَرَاسيلُ ، مِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبيرِ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ إسْحَاقَ وَمنْ بَعْدَهُمْ كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأُمَوِيِّ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَالوَاقِدِيِّ وَنَحْوِهِمْ من كتاب المغازي فِي الْمَغَازِي .
فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالْمَغَازِي أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، ثُمَّ أَهْلُ الشَّامِ ، ثُمَّ أَهْلُ العِرَاقِ . فَأَهْلُ المدينَةِ أَعْلَمُ بِهَا ؛ لأنَّهَا كانَتْ عِنْدَهُمْ ، وَأَهْلُ الشَّامِ كَانُوا أَهْلَ غَزْو وجهادٍ , فَكَانَ لهُمْ من الْعِلْمِ بِالْجِهَادِ وَالسِّيَرِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ ، وَلِهَذَا عَظَّمَ النَّاسُ كِتَابَ أَبِي إِسْحَاقَ الفَزَارِيِّ الَّذِي صَنَّفَهُ في ذلِكَ ، وجَعَلُوا الأَوْزَاعِيَّ أَعْلَمَ بِهَذَا البَابِ منْ غَيْرِهِ منْ عُلَمَاءِ الأَمْصَارِ .