دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > التأريخ > متون التاريخ > قصص الأنبياء

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 1 جمادى الأولى 1431هـ/14-04-2010م, 05:05 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي قصة موسى وهارون عليهما السلام


قصة موسى وهارون عليهما السلام:
قد ذكر الله لموسى بن عمران ومعه أخوه هارون عليهما السلام سيرة طويلة ، وساق قصصه في مواضع من كتابه بأساليب متنوعة واختصار أو بسط يليق بذلك المقام ، وليس في قصص القرآن أعظم من قصة موسى ؛ لأنه عالج فرعون وجنوده ، وعالج بني إسرائيل أشد المعالجة ، وهو أعظم أنبياء بني إسرائيل ، وشريعته وكتابه التوراة هو مرجع أنبياء بني إسرائيل وعلمائهم وأتباعه أكثر أتباع الأنبياء غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وله من القوة العظيمة في إقامة دين الله والدعوة إليه والغيرة العظيمة ما ليس لغيره ، وقد ولد في وقت قد اشتد فيه فرعون على بني إسرائيل : فكان يذبح كل مولود ذكر يولد من بني إسرائيل ، ويستحيي النساء للخدمة والامتهان ، فلما ولدته أمه خافت عليه خوفا شديدا ؛ فإن فرعون جعل على بني إسرائيل من يرقب نساءهم ومواليدهم ، وكان بيتها على ضفة نهر النيل فألهمها الله أن وضعت له تابوتا إذا خافت أحدا ألقته في اليم ، وربطته بحبل لئلا تجري به جرية الماء ، ومن لطف الله بها أنه أوحى لها أن لا تخافي ولا تحزني ، إنا رادوه إليك ، وجاعلوه من المرسلين .
فلما ألقته ذات يوم انفلت رباط التابوت ، فذهب الماء بالتابوت الذي في وسطه موسى ، ومن قدر الله أن وقع في يد آل فرعون ، وجيء به إلى امرأة فرعون آسية ، فلما رأته أحبته حبا شديدا ، وكان الله قد ألقى عليه المحبة في القلوب ، وشاع الخبر ووصل إلى فرعون ، فطلبه ليقتله ، فقالت امرأته : لا تقتلوه . . قرة عين لي ولك ، عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ، فنجا بهذا السبب من قتلهم ، وكان هذا الأثر الطيب والمقدمة الصالحة من السعي المشكور عند الله ، فكان هذا من أسباب هدايتها وإيمانها بموسى بعد ذلك .
أما أم موسى فإنها فزعت ، وأصبح فؤادها فارغا ، وكاد الصبر أن يغلب فيها ، إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ، وقالت لأخته : قصيه وتحسسي عنه ، وكانت امرأة فرعون قد عرضت عليه المراضع فلم يقبل ثدي امرأة ، وعطش وجعل يتلوى من الجوع ، وأخرجوه إلى الطريق ؛ لعل الله أن ييسر له أحدا ، فحانت من أخته نظرة إليه ، وبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون بشأنها ، فلما أقبلت عليه وفهمت منهم أنهم يطلبون له مرضعا قالت لهم : هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ، فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ، ثم ذكر الله في هذه السورة قصة مفصلة واضحة ، وكيف تنقلت به الأحوال ، قراءتها كافية عن شرح معناها لوضوحها وتفصيلاتها ، والله تعالى ما فصل لنا إلا ما ننتفع به ونعتبر ، ولكن في قصته من العبر والفوائد شيء كثير ننبه على بعضها .

* ذكر الفوائد المستنبطة نصا أو ظاهرا أو تعميما أو تعليلا من قصة موسى صلى الله عليه وسلم :
منها : لطف الله بأم موسى بذلك الإلهام الذي به سلم ابنها ، ثم تلك البشارة من الله لها برده إليها ، التي لولاها لقضى عليها الحزن على ولدها ، ثم رده إليها بإلجائه إليها قدرا بتحريم المراضع عليه ، وبذلك وغيره يعلم أن ألطاف الله على أوليائه لا تتصورها العقول ، ولا تعبر عنها العبارات ، وتأمل موقع هذه البشارة ، وأنه أتاها ابنها ترضعه جهرا ، وتأخذ عليه أجرا ، وتسمى أمه شرعا وقدرا ، وبذلك اطمأن قلبها ، وازداد إيمانها ، وفي هذا مصداق لقوله تعالى : { وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم } [البقرة : 216] .
فلا أكره لأم موسى من وقوع ابنها بيد آل فرعون ، ومع ذلك ظهرت عواقبه الحميدة ، وآثاره الطيبة .
ومنها : أن آيات الله وعبره في الأمم السابقة إنما يستفيد منها ، ويستنير بها المؤمنون ، والله يسوق القصص لأجلهم ، كما قال تعالى في هذه القصة : { نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون } [القصص : 3] .
ومنها : أن الله إذا أراد شيئا هيأ أسبابه ، وأتى به شيئا فشيئا بالتدريج لا دفعة واحدة .
ومنها : أن الأمة المستضعفة ، ولو بلغت في الضعف ما بلغت ، لا ينبغي أن يستولي عليها الكسل عن السعي في حقوقها ، ولا اليأس من الارتقاء إلى أعلى الأمور ، خصوصا إذا كانوا مظلومين ، كما استنقذ الله بني إسرائيل على ضعفها واستبعادها لفرعون وملئه منهم ، ومكنهم في الأرض ، وملكهم بلادهم .
ومنها : أن الأمة ما دامت ذليلة مقهورة لا تطالب بحقها لا يقوم لها أمر دينها كما لا يقوم لها أمر دنياها .
ومنها : أن الخوف الطبيعي من الخلق لا ينافي الإيمان ولا يزيله ، كما جرى لأم موسى ولموسى من تلك المخاوف .
ومنها : أن الإيمان يزيد وينقص لقوله :{ لتكون من المؤمنين } [القصص : 10] .
والمراد بالإيمان هنا زيادته وزيادة طمأنينته .
ومنها : أن من أعظم نعم الله على العبد تثبيت الله له عند المقلقات والمخاوف ، فإنه كما يزداد به إيمانه وثوابه فإنه يتمكن من القول الصواب والفعل الصواب ، ويبقى رأيه وأفكاره ثابتة ، وأما من لم يحصل له هذا الثبات ، فإنه لقلقه وروعه يضيع فكره ، ويذهل عقله ، ولا ينتفع بنفسه في تلك الحال .
ومنها : أن العبد وإن عرف أن القضاء والقدر حق ، وأن وعد الله نافذ لا بد منه ، فإنه لا يهمل فعل الأسباب التي تنفع ، فإن الأسباب والسعي فيها من قدر الله ، فإن الله قد وعد أم موسى أن يرده عليها ، ومع ذلك لما التقطه آل فرعون سعت بالأسباب ، وأرسلت أخته لتقصه ، وتعمل الأسباب المناسبة لتلك الحال .
ومنها : جواز خروج المرأة في حوائجها وتكليمها للرجال إذا انتفى المحذور ، كما صنعت أخت موسى وابنتا صاحب مدين .
ومنها : جواز أخذ الأجرة على الكفالة والرضاع ، كما فعلت أم موسى ، فإن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد من شرعنا ما ينسخه .
ومنها : أن قتل الكافر الذي له عهد بعقد أو عرف لا يجوز ، فإن موسى ندم على قتله القبطي ، واستغفر الله منه وتاب إليه .
ومنها : أن الذي يقتل النفوس بغير حق يعد من الجبارين المفسدين في الأرض ، ولو كان غرضه من ذلك الإرهاب ، ولو زعم أنه مصلح حتى يرد الشرع بما يبيح قتل النفس .
ومنها : أن إخبار الغير بما قيل فيه وعنه على وجه التحذير له من شر يقع به لا يكون نميمة ، بل قد يكون واجبا ، كما ساق الله خبر ذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى محذرا لموسى على وجه الثناء عليه .
ومنها : إذا خاف التلف بالقتل بغير حق في إقامته في موضع ، فلا يلقي بيده إلى التهلكة ويستسلم للهلاك ، بل يفر من ذلك الموضع مع القدرة كما فعل موسى .
ومنها : إذا كان لا بد من ارتكاب إحدى مفسدتين تعين ارتكاب الأخف منهما ، الأسلم دفعا لما هو أعظم وأخطر ، فإن موسى لما دار الأمر بين بقائه في مصر ولكنه يقتل ، أو ذهابه إلى بعض البلدان البعيدة التي لا يعرف الطريق إليها ، وليس معه دليل يدله غير هداية ربه ، ومعلوم أنها أرجى للسلامة ، لا جرم آثرها موسى .
ومنها : فيه تنبيه لطيف على أن الناظر في العلم عند الحاجة إلى العمل أو التكلم به ، إذا لم يترجح عنده أحد القولين ، فإنه يستهدي ربه ، ويسأله أن يهديه إلى الصواب من القولين بعد أن يقصد الحق بقلبه ويبحث عنه ، فإن الله لا يخيب من هذه حاله ، كما جرى لموسى لما قصد تلقاء مدين ولا يدري الطريق المعين إليها قال :{ عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } [القصص : 22] .
وقد هداه الله وأعطاه ما رجاه وتمناه .
ومنها : أن الرحمة والإحسان على الخلق ، من عرفه العبد ومن لا يعرفه ، من أخلاق الأنبياء ، وأن من جملة الإحسان الإعانة على سقي الماشية ، وخصوصا إعانة العاجز ، كما فعل موسى مع ابنتي صاحب مدين حين سقى لهما لما رآهما عاجزتين عن سقي ماشيتهما قبل صدور الرعاة .
ومنها : أن الله كما يحب من الداعي أن يتوسل إليه بأسمائه وصفاته ، ونعمه العامة والخاصة ، فإنه يحب منه أن يتوسل إليه بضعفه وعجزه وفقره ، وعدم قدرته على تحصيل مصالحه ، ودفع الأضرار عن نفسه كما قال موسى : { رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } [القصص : 24] .
لما في ذلك من إظهار التضرع والمسكنة ، والافتقار لله الذي هو حقيقة كل عبد .
ومنها : أن الحياء والمكافأة على الإحسان لم يزل دأب الأمم الصالحين .
ومنها : أن العبد إذا عمل العمل لله خالصا ، ثم حصل به مكافأة عليه بغير قصده فإنه لا يلام على ذلك ، ولا يخل بإخلاصه وأجره ، كما قبل موسى مكافأة صاحب مدين عن معروفه الذي لم يطلبه ، ولم يستشرف له على معاوضة .
ومنها : جواز الإجارة على كل عمل معلوم في نفع معلوم أو زمن مسمى ، وأن مرد ذلك إلى العرف ، وأنه تجوز الإجارة وتكون المنفعة البضع ، كما قال صاحب مدين : { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين } [القصص : 27] .
وأنه يجوز للإنسان أن يخطب الرجل لابنته ، ونحوها ممن هو ولي عليها ولا نقص في ذلك ، بل قد يكون نفعا وكمالا ، كما فعل صاحب مدين مع موسى .
ومنها قوله : { إن خير من استأجرت القوي الأمين } [القصص : 26] .
هذان الوصفان بهما تمام الأعمال كلها ، فكل عمل من الولايات أو من الخدمات أو من الصناعات ، أو من الأعمال التي القصد منها الحفظ والمراقبة على العمال والأعمال إذا جمع الإنسان الوصفين ، أن يكون قويا على ذلك العمل بحسب أحوال الأعمال ، وأن يكون مؤتمنا عليه ، تم ذلك العمل وحصل مقصوده وثمرته ، والخلل والنقص سببه الإخلال بهما أو بأحدهما .
ومنها : من أعظم مكارم الأخلاق تحسين الخلق مع كل من يتصل بك من خادم وأجير وزوجة وولد ومعامل وغيرهم ، ومن ذلك تخفيف العمل عن العامل لقوله : { وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين }[القصص : 27] .
وفيه أنه لا بأس أن يرغب المعامل في معاملته بالمعاوضات والإجارات بأن يصف نفسه بحسن المعاملة بشرط أن يكون صادقا في ذلك .
ومنها : جواز عقد المعاملات من إجارة وغيرها بغير إشهاد لقوله :{ والله على ما نقول وكيل } [القصص : 28] .
وتقدم أن الإشهاد تنحفظ به الحقوق ، وتقل المنازعات ، والناس في هذا الموضع درجات متفاوتة وكذلك الحقوق .
ومنها : الآيات البينات التي أيد الله بها موسى من انقلاب عصاه التي كان يعرفها :
{ حية تسعى }[طه : 20] .
ثم عودها سيرتها الأولى ، وأن يده إذا أدخلها في جيبه ثم أخرجها صارت بيضاء من غير سوء للناظرين ، ومن رحمة الله وحمايته لموسى وهارون من فرعون وملئه ، ومن انفلاق البحر لما ضربه موسى بعصاه فصار اثني عشر طريقا ، وسلكه هؤلاء فنجوا ، وقوم فرعون فهلكوا ، وغير ذلك من الآيات المتتابعات التي هي براهين وآيات لمن رآها وشاهدها ، وبراهين لمن سمعها ، فإنها نقلتها معظم مصادر اليقين الكتب السماوية ، ونقلتها القرون كلها ، ولم ينكر مثل هذه الآيات إلا جاهل مكابر زنديق ، وجميع آيات الأنبياء بهذه المثابة .
ومنها : أن آيات الأنبياء ، وكرامات الأولياء ، وما يخرقه الله من الآيات ، ومن تغيير الأسباب ، أو منع سببيتها ، أو احتياجها إلى أسباب أخر ، أو وجود موانع تعوقها هي من البراهين العظيمة على وحدانية الله ، وأنه على كل شيء قدير ، وأن أقدار الله لا يخرج عنها حادث جليل ولا حقير ، وأن هذه المعجزات والكرامات والتغييرات لا تنافي ما جعل الله في هذه المخلوقات من الأسباب المحسوسة والنظامات المعهودة ، وإنك لا تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا ; فإن سنن الله في جميع الحوادث السابقة واللاحقة قسمان :
أحدهما : وهو جمهور الحوادث والكائنات والأحكام الشرعية والقدرية وأحكام الجزاء : لا تتغير ولا تتبدل عما يعهده الناس ويعرفون أسبابه ، وهذا القسم أيضا مندرج في قدرة الله وقضائه ، ويستفاد من هذا العلم بكمال حكمة الله في خلقه وشرعه ، وأن الأسباب والمسببات من سلك طرقها على وجه كامل أفضت به إلى نتائجها وثمراتها ، ومن لم يسلكها أو سلكها على وجه ناقص يحصل له الثمرات التي رتبت على الأعمال شرعا ولا قدرا ، وهذه توجب للعبد أن يجد ويجتهد في الأسباب الدينية والدنيوية النافعة مع استعانته بالله ، والثناء على ربه في تيسيرها وتيسير أسبابها وآلاتها ، وكل ما تتوقف عليه .
والقسم الثاني : حوادث معجزات الأنبياء التي تواترت تواترا لا يتواتر مثله في جميع الأخبار ، وتناقلتها القرون كلها ، وكذلك ما يكرم الله به عباده من إجابة الدعوات ، وتفريج الكربات ، وحصول المطالب المتنوعة ، ودفع المكاره التي لا قدرة للعبد على دفعها ، والفتوحات الربانية ، والإلهامات الإلهية ، والأنوار التي يقذفها الله في قلوب خواص خلقه ، فيحصل لهم بذلك من اليقين والطمأنينة والعلوم المتنوعة ما لا يدرك بمجرد الطلب وفعل السبب ، ومن نصره للرسل وأتباعهم ، وخذلانه لأعدائهم وهو مشاهد في كثير من الأوقات : فهذا القسم ليس عند الخلق اهتداء إلى أسباب هذه الحوادث ، ولا جعل لهم في الأصل وصول إلى حقيقتها وكنهها ، وإنما هي حوادث قدرها الرب العظيم الذي هو على كل شيء قدير بأسباب وحكم وسنن لا يعقلها الخلق ، ولا لحواسهم وتجاربهم وصول إليها بوجه من الوجوه ، وبها آمن الرسل من أولهم إلى آخرهم ، وأتباعهم الأولون منهم والآخرون ، وبها يعرف عظمة الباري ، وأن نواصي العباد بيده ، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، ويعرف بذلك صحة ما جاءت به الرسل ، كما يعرف أيضا بالقسم الأول ، وكما أنه لا سبيل إلى العباد في هذه الدار إلى إدراك كنه صفات اليوم الآخر ، وكنه ما في الجنة والنار ، وإنما يعلمون منها ما علمتهم به الرسل ، ونزلت به الكتب ، ولا سبيل إلى أهل هذا الكون الأرضي للوصول إلى العالم السماوي ، ولا سبيل لهم إلى إحياء الموتى وإيجاد الأرواح في الجمادات ، فكذلك هذا النوع العظيم من حوادث الكون ، وإنما أطلنا الكلام على هذه المسألة ، وإن كانت تستحق من البسط أكثر من هذا ؛ لأمرين :
* الأول : أن الزنادقة المتأخرين الذين أنكروا وجود الباري ، وأنكروا جميع ما أخبرت به الرسل والكتب السماوية من أمور الغيب ، ولم يثبتوا من العلوم إلا ما وصلت إليه حواسهم وتجاربهم القاصرة على بعض علوم الكون ، وأنكروا ما سوى ذلك ، وزعموا أن هذا العالم وهذا النظام الموجود فيه لا يمكن أن يغيره مغير ، أو يغير شيئا من أسبابه ، وأنه وجد صدفة من غير إيجاد موجد ، وأنه آلة تمشي بنفسها وطبيعتها ، ليس لها مدبر ولا رب ولا خالق ، وهؤلاء جميع أهل الأديان يعرفون مكابرتهم ومباهتتهم ؛ لأنهم كما عدموا الدين بالكلية فقد اختلت عقولهم الحقيقة ، إذ أنكروا أجلى الحقائق وأوضحها ، وأعظمها براهين وآيات ، وتاهوا بعقولهم القاصرة وآرائهم الفاسدة ، هؤلاء أمرهم معلوم ولكن .
* الأمر الثاني : أن بعض أهل العلم العصريين الذين يتظاهرون بنصر الإسلام ، والدخول مع هؤلاء الزنادقة في الجدال عنه يريدون باجتهادهم أو اغترارهم أن يطبقوا السنن الإلهية وأمور الآخرة على ما يعرفه العباد بحواسهم ، ويدركونه بتجاربهم ، فحرفوا لذلك المعجزات ، وأنكروا الآيات البينات ، ولم يستفيدوا إلا الضرر على أنفسهم ، وعلى من قرأ كتاباتهم في هذه المباحث ؛ إذ ضعف إيمانهم بالله بتحريفهم لمعجزات الأنبياء تحريفا يؤول إلى إنكارها ، وإنكارهم هذا النوع العظيم من قضاء الله وقدره ، وضعف إيمان من وقف على كلامهم ممن ليست له بصيرة ، ولا عنده من العلوم الدينية ما يبطل هذا النوع ، ولم يحصل ما زعموه من جلب الماديين إلى الهدى والدين ، بل زادوهم إغراء في مذاهبهم ، لما رأوا أمثال هؤلاء يحاولون إرجاع النصوص الدينية ، ومعجزات الأنبياء ، وأمور الغيب إلى علوم هؤلاء القاصرة على التجارب المدركات بالحواس ، فيا عظم المصيبة ، ويا شدة الجرم المزوق ، ولكن ضعف البصيرة والإعجاب بزنادقة الدهريين أوجب الخضوع لأقوالهم ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
ومنها : أن من أعظم العقوبات على العبد أن يكون إماما في الشر وداعيا إليه ، كما أن من أعظم نعم الله على العبد أن يجعله إماما في الخير هاديا مهديا ، قال تعالى في فرعون وملئه :
{ وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار } [القصص : 41] .
وقال : { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } [الأنبياء : 73] .
ومنها : ما في هذه القصة من الدلالة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إذ أخبر بهذه القصة وغيرها خبرا مفصلا مطابقا وتأصيلا موافقا ، قصه قصا صدق به المرسلين ، وأيد به الحق المبين ، وهو لم يحضر في شيء من تلك المواضع ، ولا درس شيئا عرف به أحوال هذه التفصيلات ، ولا جالس وأخذ عن أحد من أهل العلم ، إن هو إلا رسالة الرحمن الرحيم ، ووحي أنزله عليه الكريم المنان ينذر به العباد أجمعين ، ولهذا يقول في آخر هذه القصة :
{ وما كنت بجانب الطور } [القصص : 46] .
{ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر } [القصص : 44] .
{ وما كنت ثاويا في أهل مدين } [القصص : 45] .
وهذا نوع من أنواع براهين رسالته .
ومنها : ذكر كثير من أهل العلم أنه يستفاد من قوله تعالى عن جواب موسى لربه لما سأله عن العصا فقال : { وما تلك بيمينك يا موسى }{ قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي } [طه : 17 - 18] .
استحباب استصحاب العصا لما فيه من هذه المنافع المعينة والمجملة في قوله : { مآرب أخرى } [طه : 18] .
وأنه يستفاد منها أيضا الرحمة بالبهائم ، والإحسان إليها ، والسعي في إزالة ضررها ، ومنها : أن قوله جل ذكره : { وأقم الصلاة لذكري } [طه : 14] أي أن ذكر العبد لربه هو الذي خلق له العبد ، وبه صلاحه وفلاحه ، وأن المقصود من إقامة الصلاة إقامة هذا المقصود الأعظم ، ولولا الصلاة التي تتكرر على المؤمنين في اليوم والليلة لتذكرهم بالله ، ويتعاهدون فيها قراءة القرآن ، والثناء على الله ، ودعائه والخضوع له الذي هو روح الذكر ، لولا هذه النعمة لكانوا من الغافلين .
وكما أن الذكر هو الذي خلق الخلق لأجله ، والعبادات كلها ذكر لله ، فكذلك الذكر يعين العبد على القيام بالطاعات وإن شقت ، ويهون عليه الوقوف بين يدي الجبابرة ، ويخفف عليه الدعوة إلى الله ، قال تعالى في هذه القصة : { كي نسبحك كثيرا }{ ونذكرك كثيرا } [طه : 33 و 34] .
وقال : { اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري }[طه : 42] .
ومنها : إحسان موسى صلى الله عليه وسلم على أخيه هارون ، إذ طلب من ربه أن يكون نبيا معه ، وطلب المعاونة على الخير والمساعدة عليه إذ قال : { واجعل لي وزيرا من أهلي }{ هارون أخي }{ اشدد به أزري }{ وأشركه في أمري } [طه : 29 - 32] .
ومنها : أن الفصاحة والبيان مما يعين على التعليم ، وعلى إقامة الدعوة ، لهذا طلب موسى من ربه أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله ، وأن اللثغة لا عيب فيها إذا حصل الفهم للكلام ، ومن كمال أدب موسى مع ربه أنه لم يسأل زوال اللثغة كلها ، بل سأل إزالة ما يحصل به المقصود .
ومنها : أن الذي ينبغي في مخاطبة الملوك والرؤساء ودعوتهم وموعظتهم : الرفق والكلام اللين الذي يحصل به الإفهام بلا تشويش ولا غلظة ، وهذا يحتاج إليه في كل مقام ، لكن هذا أهم المواضع ؛ وذلك لأنه الذي يحصل به الغرض المقصود ، وهو قوله :{ لعله يتذكر أو يخشى } [طه : 44] .
ومنها : أن من كان في طاعة الله ، مستعينا بالله ، واثقا بوعد الله ، راجيا ثواب الله ، فإن الله معه ، ومن كان الله معه فلا خوف عليه ، لقوله تعالى :{ قال لا تخافا } [ثم علله بقوله] { إنني معكما أسمع وأرى } [طه : 46] .
وقال تعالى : { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } [التوبة : 40] .
ومنها : أن أسباب العذاب منحصرة في هذين الوصفين : { إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى }[طه : 48] .
أي : كذب خبر الله وخبر رسله ، وتولى عن طاعة الله وطاعة رسله ، ونظيرها قوله تعالى :
{ لا يصلاها إلا الأشقى }{ الذي كذب وتولى } [الليل : 15 و 16] .
ومنها : أن قوله تعالى : { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى } [طه : 82] .
استوعب الله بها الأسباب التي تدرك بها مغفرة الله .
* أحدها : التوبة ، وهو الرجوع عما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه الله ظاهرا وباطنا ، وهي تجب ما قبلها من الذنوب صغارها وكبارها .
* الثاني : الإيمان ، وهو الإقرار والتصديق الجازم العام بكل ما أخبر الله به ورسوله ، الموجب لأعمال القلوب ، ثم تتبعها أعمال الجوارح ، ولا ريب أن ما في القلب من الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر الذي لا ريب فيه أصل الطاعات وأكبرها وأساسها ، ولا ريب أنه بحسب قوته يدفع السيئات ، يدفع ما لم يقع فيمنع صاحبه من وقوعه ، ويدفع ما وقع بالإتيان بما ينافيه وعدم إصرار القلب عليه ، فإن المؤمن ما في قلبه من الإيمان ونوره لا يجامع المعاصي .
* الثالث : العمل الصالح ، وهذا شامل لأعمال القلوب ، وأعمال الجوارح ، وأقوال اللسان ، والحسنات يذهبن السيئات .
* الرابع : الاستمرار على الإيمان والهداية والازدياد منها ، فمن كمل هذه الأسباب الأربعة فليبشر بمغفرة الله العامة الشاملة ؛ ولهذا أتى فيه بوصف المبالغة فقال : { وإني لغفار } ، ولنكتف من قصة موسى بهذه الفوائد ، مع أن فيها فوائد كثيرة للمتأملين .


 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
موسى, قصة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:12 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir