دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > جامع علوم القرآن > مناهل العرفان

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 3 ذو القعدة 1430هـ/21-10-2009م, 08:13 AM
الياسمين الياسمين غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Jul 2009
المشاركات: 30
افتراضي المبحث الثامن: في جمع القرآن وتاريخه والرد على ما يثار حوله من شبه ونماذج من الروايات الواردة في ذلك

كلمة جمع القرآن تطلق تارة ويراد منها حفظه واستظهاره في الصدور. وتطلق تارة أخرى ويراد منها كتابته كله حروفا وكلمات وآيات وسورا. هذا جمع في الصحائف والسطور وذاك جمع في القلوب والصدور
ثم إن جمعه بمعنى كتابته حدث في الصدر الأول ثلاث مرات: الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والثانية في خلافة أبي بكر والثالثة على عهد عثمان وفي هذه المرة الأخيرة وحدها نسخت المصاحف وأرسلت إلى الآفاق. وقد أثيرت في هذا الموضوع شبه باردة لا مناص لنا من أن نكشف عنها اللثام ثم نعرضها لحرارة الحقائق العلمية الصحيحة حتى تذوب وتنماع,

أو تذهب وتتبخر فأما الزبد فيذهب جفاء {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} .


جمع القرآن بمعنى حفظه في الصدور
...
جمع القرآن بمعنى حفظه في الصدور
نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم فكانت همته بادئ ذي بدء منصرفة إلى أن يحفظه ويستظهره ثم يقرأه على الناس على مكث ليحفظوه ويستظهروه ضرورة أنه نبي أمي بعثه الله في الأميين. {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ا هـ من سورة الجمعة. ومن شأن الأمي أن يعول على حافظته فيما يهمه أمره ويعنيه استحضاره وجمعه. خصوصا إذا أوتي من قوة الحفظ والاستظهار ما ييسر له هذا الجمع والاستحضار. وكذلك كانت الأمة العربية على عهد نزول القرآن وهي متمتعة بخصائص العروبة الكاملة التي منها سرعة الحفظ وسيلان الأذهان حتى كانت قلوبهم أناجيلهم وعقولهم سجلات أنسابهم وأيامهم وحوافظهم دواوين أشعارهم ومفاخرهم. ثم جاء القرآن فبهرهم بقوة بيانه وأخذ عليهم مشاعرهم بسطوة سلطانه وأستأثر بكريم مواهبهم في لفظه ومعناه فخلعوا عليه حياتهم حين علموا أنه روح الحياة.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فبلغ من حرصه على استظهار القرآن وحفظه أنه كان يحرك لسانه فيه في أشد حالات حرجه وشدته وهو يعاني ما يعانيه من الوحي وسطوته وجبريل في هبوطه عليه بقوته. يفعل الرسول كل ذلك استعجالا لحفظه وجمعه في قلبه مخافة أن تفوته كلمة أو يفلت منه حرف. وما زال صلى الله عليه وسلم كذلك حتى طمأنه ربه بأن وعده أن يجمعه له في صدره وأن يسهل له قراءة لفظه وفهم معناه فقال له في سورة القيامة {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} وقال له في سورة طه {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى

إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} . ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم جامع القرآن في قلبه الشريف وسيد الحفاظ في عصره المنيف. ومرجع المسلمين في كل ما يعنيهم من أمر القرآن وعلوم القرآن. وكان صلى الله عليه وسلم يقرؤه على الناس على مكث كما أمره مولاه وكان يحيي به الليل ويزين الصلاة. وكان جبريل يعارضه إياه في كل عام مرة. وعارضه إياه في العام الأخير مرتين. قالت عائشة وفاطمة رضي الله عنهما: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل سنة مرة وإنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي" .
وأما الصحابة رضوان الله عليهم فقد كان كتاب الله في المحل الأول من عنايتهم. يتنافسون في استظهاره وحفظه. ويتسابقون إلى مدارسته وتفهمه. ويتفاضلون فيما بينهم على مقدار ما يحفظون منه. وربما كانت قرة عين السيدة منهم أن يكون مهرها في زواجها سورة من القرآن يعلمها إياها زوجها. وكانوا يهجرون لذة النوم وراحة الهجود إيثارا للذة القيام به في الليل والتلاوة له في الأسحار والصلاة به والناس نيام حتى لقد كان الذي يمر ببيوت الصحابة في غسق الدجى يسمع فيها دويا كدوي النحل بالقرآن وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكي فيهم روح هذه العناية بالتنزيل يبلغهم ما أنزل إليه من ربه. ويبعث إلى من كان بعيد الدار منهم من يعلمهم ويقرئهم كما بعث مصعب بن عمير وابن ام مكتوم إلى أهل المدينة قبل هجرته يعلمانهم الإسلام ويقرئانهم القرآن وكما أرسل معاذ بن جبل إلى مكة بعد هجرته للتحفيظ والإقراء.
قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل منا يعلمه القرآن وكان يسمع لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضجة بتلاوة القرآن حتى أمرهم رسول الله أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا.

ومن هنا كان حفاظ القرآن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم جما غفيرا منهم الأربعة الخلفاء وطلحة وسعد وابن مسعود وحذيفة وسالم مولى أبي حذيفة وأبو هريرة وابن عمر وابن عباس وعمرو بن العاص وابنه عبد الله ومعاوية وابن الزبير وعبد الله ابن السائب وعائشة وحفصة وام سلمة وهؤلاء كلهم من المهاجرين رضوان الله عليهم أجمعين.
وحفظ القرآن من الأنصار في حياته صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو الدرداء ومجمع بن حارثة وأنس بن مالك وأبو زيد الذي سئل عنه أنس فقال أنه أحد عمومتي رضي الله عنهم أجمعين. وقيل إن بعض هؤلاء إنما أكمل حفظه للقرآن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وأيا ما تكن الحال فإن الذين حفظوا القرآن من الصحابة كانوا كثيرين حتى كان عدد القتلى منهم ببئر معونة ويوم اليمامة أربعين ومائة. قال القرطبي قد قتل يوم اليمامة سبعون من القراء. وقتل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ببئر معونة مثل هذا العدد.
قال المحقق ابن الجزري: ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على خط المصاحف والكتب. وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة ففي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ربي قال لي قم في قريش فأنذرهم فقلت له: أي رب إذن يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة. فقال: إني مبتليك ومبتل بك ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان فابعث جندا أبعث مثلهم وقاتل بمن أطاعك من عصاك. وأنفق ينفق عليك" فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء بل يقرأ في كل حال كما جاء في صفة أمته أناجيلهم صدورهم وذلك بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب ولا يقرؤونه كله إلا نظرا لا عن ظهر قلب. ا هـ ما أردنا نقله.

ولا يشكلن عليك في هذا المقام ما جاء في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد.
قال: ونحن ورثناه وأبو زيد هذا أسمه قيس بن السكن كما رواه أبو داود بإسناد على شرط الشيخين. وإنما قلنا لا يشكلن عليك هذا الحديث لأن الحصر الذي تلمحه فيه حصر نسبي وليس حصرا حقيقيا حتى ينفي أن يكون غير هؤلاء الأربعة قد جمعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والدليل على أن هذا الحصر إضافي لا حقيقي هو ما رواه البخاري عن أنس نفسه أيضا وقد سأله قتادة عمن جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ا هـ. فأنت ترى أن أنسا في هذه الرواية ذكر من الأربعة أبي بن كعب بدلا من أبي الدرداء في الرواية السابقة. وهو صادق في كلتا الروايتين لأنه ليس بمعقول أن يكذب نفسه فتعين أنه يريد من الحصر الذي أورده الحصر الإضافي بأن يقال إن أنسا رضي الله عنه تعلق غرضه في وقت ما بأن يذكر الثلاثة ويذكر معهم أبي بن كعب دون أبي الدرداء حاصرا الجمع فيهم ثم علق غرضه في وقت آخر بأن يذكر الثلاثة ويذكر معهم أبا الدرداء دون أبي بن كعب.
وهذا التوجيه وإن كان بعيدا إلا أنه يتعين المصير إليه جمعا بين هاتين الروايتين وبينهما وبين روايات أخرى ذكرت غير هؤلاء. ومن هنا قال الماوردي: لا يلزم من قول أنس رضي الله عنه لم يجمعه غيرهم أن يكون الواقع كذلك في نفس الأمر لأنه لا يمكن الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلاد ولا يتم له ذلك إلا إذا كان قد لقي كل واحد منهم وأخبر عن نفسه أنه لم يكمل له جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا في غاية البعد في العادة. وكيف يكون الواقع ما ذكر وقد جاء في صحيح البخاري أيضا من طريق حفص بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "خذوا

القرآن عن أربعة: عن عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب" والأربعة المذكورون منهم اثنان من المهاجرين وهما الأولان واثنان من الأنصار وهما الأخيران. ا هـ. ولعل مراد الماوردي بهذا نفي الحصر الحقيقي وتوجيه الحصر الإضافي على نحو ما بينا مستدلين بحديث أنس نفسه كما رأيت وبالروايات الأخرى التي حكى بعضهم فيها التواتر وهي تصرح بأسماء أخرى غير أسماء هؤلاء الأربعة المذكورين في رواية أنس هذه. من تلك الروايات ما أخرجه النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمر أنه قال: جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "اقرأه في شهر" إلى آخر الحديث. ومنها ما أخرجه ابن أبي داود بسند حسن عن محمد بن كعب القرظي قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو أيوب الأنصاري.
وذهب بعضهم إلى أن الجمع في حديث أنس المذكور مراد به الكتابة لا الحفظ. وبعضهم ذهب إلى أن المراد به الجمع بوجوه القراءات كلها أو تلقيا ومشافهة عن الرسول أو الجمع شيئا فشيئا حتى تكامل نزوله.
وللإمام أبي بكر الباقلاني أجوبة ثمانية يحاول بها دفع إشكال هذا الحديث. لكن ابن حجر ضعفها وغيره فندها. والخطب سهل على كل حال وفيما ذكرناه كفاية للخروج من هذا الإشكال.
غير أنه لا يفوتني أن أقضي لك على هذا الإشكال بكلمة أعجبتني عن المازري إذ يقول ما نصه: وقد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة ولا متمسك لهم فيه فإنا لا نسلم حمله على ظاهره: سلمناه. ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟ سلمناه لكن لا يلزم من كون كل من الجم الغفير لم يحفظه كله ألا يكون حفظ مجموعه

الجم الغفير. وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه بل إذا حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى وقال القرطبي: قد قتل يوم اليمامة سبعون وقتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ببئر معونة مثل هذا العدد.
قال: وإنما خص أنس الأربعة بالذكر لشدة تعلقه بهم دون غيرهم أو لكونهم كانوا في ذهنه دون غيرهم اهـ.
ثم إن ما ذكرناه في هذا المقام لا يتجاوز دائرة الصحابة الذين جمعت صدورهم كتاب الله في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فقد أتم حفظ القرآن آلاف مؤلفة من الصحابة واشتهر بإقراء القرآن من بينهم سبعة: عثمان وعلي وأبي بن كعب وأبو الدرداء وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري. كلهم جمعوا التنزيل بين حنايا صدورهم وأقرؤوه لكثير غيرهم. جازاهم الله أحسن الجزاء. آمين.
ولعلك أيها القارئ الكريم لا تستكثر منا هذا المجهود الطويل في حديث أنس السابق فإن بعض الملاحدة قد أتخذ منه مثارا للطعن في تواتر القرآن. ومن وظيفتنا أن نرد المطاعن ونفحم الطاعن. فأردنا أن نشبع الكلام في هذا الموضوع عند هذه المناسبة أداء للواجب من ناحية ولنستغني عن إيراده في الشبهات الآتية من ناحية أخرى. {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .

جمع القرآن بمعنى كتابته في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
...
جمع القرآن بمعنى كتابته في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
قلنا: إن همة الرسول وأصحابه كان متصرفة أول الأمر إلى جمع القرآن في القلوب بحفظه واستظهاره ضرورة أنه نبي أمي بعثه الله في الأميين. أضف إلى ذلك أن أدوات الكتابة لم تكن ميسورة لديهم في ذلك العهد
ومن هنا كان التعويل على الحفظ في الصدور يفوق التعويل على الحفظ بين السطور. على عادة العرب أيامئذ من جعل صفحات صدورهم وقلوبهم دواوين لأشعارهم وأنسابهم ومفاخرهم وأيامهم.
ولكن القرآن حظي بأوفى نصيب من عناية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم تصرفهم عنايتهم بحفظه واستظهاره عن عنايتهم بكتابته ونقشه ولكن بمقدار ما سمحت به وسائل الكتابة وأدواتها في عصرهم.
فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اتخذ كتابا للوحي كلما نزل شيء من القرآن أمرهم بكتابته مبالغة في تسجيله وتقييده. وزيادة في التوثق والضبط والاحتياط في كتاب الله تعالى حتى تظاهر الكتابة الحفظ ويعاضد النقش اللفظ.
وكان هؤلاء الكتاب من خيرة الصحابة فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية وأبان بن سعيد وخالد ابن الوليد وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وثابت بن قيس وغيرهم. وكان صلى الله عليه وسلم يدلهم على موضع المكتوب من سورته. ويكتبونه فيما يسهل عليهم من العسب1 واللخاف2,
__________
1 العسب بضم العين والسين- جمع عسيب- وهو جريد النخل, كانوا يكشفون الخوص ويكتبون في الطرف العريض.
2 اللخاف- بكسر اللام- جمع لخفة بفتح اللام وسكون الخاء وهي الحجارة الرقيقة. وقال الخطابي: صفائح الحجارة.

والرقاع1 وقطع الأديم2 وعظام الأكتاف والأضلاع. ثم يوضع المكتوب في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا انقضى العهد النبوي السعيد والقرآن مجموع على هذا النمط بيد أنه لم يكتب في صحف ولا في مصاحف. بل كتب منثورا كما سمعت بين الرقاع والعظام ونحوها مما ذكرنا.
روي عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب فقال: "ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا" . وعن زيد بن ثابت قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع.
وكان هذا التأليف عبارة عن ترتيب الآيات حسب إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم وكان هذا الترتيب بتوقيف من جبريل عليه السلام فقد ورد أن جبريل عليه السلام كان يقول: ضعوا كذا في موضع كذا.
ولا ريب أن جبريل كان لا يصدر في ذلك إلا عن أمر الله عز وجل.
أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد كان منهم من يكتبون القرآن ولكن فيما تيسر لهم من قرطاس أو كتف أو عظم أو نحو ذلك بالمقدار الذي يبلغ الواحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يلتزموا توالي السور وترتيبها وذلك لأن أحدهم كان إذا حفظ سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتبها ثم خرج في سرية مثلا فنزلت في وقت غيابه سورة فإنه كان إذا رجع يأخذ في حفظ ما ينزل بعد رجوعه وكتابته ثم يستدرك ما كان قد فاته في غيابه فيجمعه ويتتبعه على حسب ما يسهل له فيقع فيما يكتبه تقديم وتأخير بسبب ذلك. وقد كان من الصحابة من يعتمد على حفظه فلا يكتب
__________
1 الرقاع: جمع رقعة, وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد.
2 الأديم: الجلد.

جريا على عادة العرب في حفظ أنسابها واستظهار مفاخرها وأشعارها من غير كتابة.
صفوة المقال:
وصفوة المقال أن القرآن كان مكتوبا كله على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت كتابته ملحوظا فيها أن تشمل الأحرف السبعة التي نزل عليها غير أن بعض الصحابة كان قد كتب بعض منسوخ التلاوة وبعض ما هو ثابت بخبر الواحد وربما كتبه غير مرتب ولم يكن القرآن على ذلك العهد مجموعا في صحف ولا مصاحف عامة.

لماذا لم يجمع القرآن أيامئذ في صحف ولا مصاحف؟
...
لماذا لم يجمع القرآن أيامئذ في صحف ولا مصاحف؟
وإنما لم يجمع القرآن في صحف ولا مصاحف لاعتبارات كثيرة:
أولها: أنه لم يوجد من دواعي كتابته في صحف أو مصاحف مثل ما وجد على عهد أبي بكر حتى كتبه في صحف. ولا مثل ما وجد على عهد عثمان حتى نسخه في مصاحف. فالمسلمون وقتئذ بخير والقراء كثيرون والإسلام لم يستبحر عمرانه بعد والفتنة مأمونة والتعويل لا يزال على الحفظ أكثر من الكتابة وأدوات الكتابة غير ميسورة وعناية الرسول باستظهار القرآن تفوق الوصف وتوفي على الغاية حتى في طريقة أدائه على حروفه السبعة التي نزل عليها.
وثانيها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بصدد أن ينزل عليه الوحي بنسخ ما شاء الله من آية أو آيات.
ثالثها : أن القرآن لم ينزل مرة واحدة بل نزل منجما في مدى عشرين سنة أو أكثر.
رابعها : أن ترتيب آياته وسوره ليس على ترتيب نزوله فقد علمت أن نزوله كان على حسب الأسباب أما ترتيبه فكان لغير ذلك من الاعتبارات.
وأنت خبير بأن القرآن لو جمع في صحف أو مصاحف والحال على ما شرحنا

لكان عرضة لتغيير الصحف أو المصاحف كلما وقع نسخ أو حدث سبب. مع أن الظروف لا تساعد وأدوات الكتابة ليست ميسورة والتعويل كان على الحفظ قبل كل شيء. ولكن لما استقر الأمر بختام التنزيل ووفاة الرسول وأمن النسخ وتقرر الترتيب ووجد من الدواعي ما يقتضي نسخه في صحف أو مصاحف وفق الله الخلفاء الراشدين فقاموا بهذا الواجب حفظا للقرآن وحياطة لأصل التشريع الأول مصداقا لقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

جمع القرآن على عهد أبي بكر رضي الله عنه
...
جمع القرآن على عهد أبي بكر رضي الله عنه
ألقت الخلافة قيادها إلى أبي بكر رضي الله عنه بعد غروب شمس النبوة وواجهت أبا بكر في خلافته هذه أحداث شداد ومشاكل صعاب. منها موقعة اليمامة سنة 12 اثنتي عشرة للهجرة. وفيها دارت رحى الحرب بين المسلمين وأهل الردة من أتباع مسيلمة الكذاب وكانت معركة حامية الوطيس استشهد فيها كثير من قراء الصحابة وحفظتهم للقرآن ينتهي عددهم إلى السبعين وأنهاه بعضهم إلى خمسمائة من أجلهم سالم مولى أبي حذيفة. ولقد هال ذلك المسلمين وعز الأمر على عمر فدخل على أبي بكر وأخبره الخبر وأقترح عليه أن يجمع القرآن خشية الضياع بموت الحفاظ وقتل القراء. فتردد أبو بكر أول الأمر لأنه كان وقافا عند حدود ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف أن يجره التجديد إلى التبديل أو يسوقه الإنشاء والاختراع إلى الوقوع في مهاوي الخروج والابتداع.
ولكنه بعد مفاوضة بينه وبين عمر تجلى له وجه المصلحة فاقتنع بصواب الفكرة وشرح الله لها صدره وعلم أن ذلك الجمع الذي يشير به عمر ما هو إلا وسيلة من أعظم الوسائل النافعة إلى حفظ الكتاب الشريف والمحافظة عليه من الضياع والتحريف وأنه ليس من محدثات الأمور الخارجة ولا من البدع

والإضافات الفاسقة. بل هو مستمد من القواعد التي وضعها الرسول بتشريع كتابة القرآن واتخاذ كتاب للوحي وجمع ما كتبوه عنده حتى مات صلوات الله وسلامه عليه. قال الإمام أبو عبد الله المحاسبي في كتاب فهم السنن ما نصه: كتابة القرآن ليست بمحدثة فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب فإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعا وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها القرآن منتشرا فجمعها جامع وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء ا هـ.
تنفيذ أبي بكر للفكرة:
اهتم أبو بكر بتحقيق هذه الرغبة ورأى بنور الله أن يندب لتحقيقها رجلا من خيرة رجالات الصحابة هو زيد بن ثابت رضي الله عنه لأنه اجتمع فيه من المواهب ذات الأثر في جمع القرآن ما لم يجتمع في غيره من الرجال إذ كان من حفاظ القرآن ومن كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد العرضة الأخيرة للقرآن في ختام حياته صلى الله عليه وسلم. وكان فوق ذلك معروفا بخصوبة عقله وشدة ورعه وعظم أمانته وكمال خلقه واستقامة دينه. فاستشار أبو بكر عمر في هذا فوافقه. وجاء زيد فعرض أبو بكر عليه الفكرة ورغب إليه أن يقوم بتنفيذها فتردد زيد أول الأمر ولكن أبا بكر ما زال به يعالج شكوكه ويبين له وجه المصلحة حتى اطمأن واقتنع بصواب ما ندب إليه وشرع يجمع وأبو بكر وعمر وكبار الصحابة يشرفون عليه ويعاونونه في هذا المشروع الجلل حتى تم لهم ما أرادوا {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
وفي ذلك يروي البخاري في صحيحه أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:
أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة أي عقب استشهاد القراء السبعين

في واقعة اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده. قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد أستحر أي اشتد يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} حتى خاتمة براءة. فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر ا هـ.
فهذا الحديث كما ترى يدل على مبلغ اهتمام كبار الصحابة بالمحافظة على القرآن وعلى مبلغ ثقة أبي بكر وعمر بزيد بن ثابت وعلى جدارة زيد بهذه الثقة لتوافر تلك المناقب التي ذكرها فيه أبو بكر. ويؤيد ورعه ودينه وأمانته قوله: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن ويشهد بوفرة عقله تردده وتوقفه أول الأمر ومناقشته لأبي بكر حتى راجعه أبو بكر وأقنعه بوجه الصواب.
وينطق بدقة تحريه قوله: فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال ا هـ. رضي الله عنه وأرضاه ورضي عنهم وعنا أجمعين.

دستور أبي بكر في كتابة الصحف:
وانتهج زيد في القرآن طريقة دقيقة محكمة وضعها له أبو بكر وعمر فيها ضمان لحياطة كتاب الله بما يليق به من تثبت بالغ وحذر دقيق وتحريات شاملة فلم يكتف بما حفظ في قلبه ولا بما كتب بيده ولا بما سمع بأذنه.
بل جعل يتتبع ويستقصي آخذا على نفسه أن يعتمد في جمعه على مصدرين اثنين: أحدهما ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: ما كان محفوظا في صدور الرجال. وبلغ من مبالغته في الحيطة والحذر أنه لم يقبل شيئا من المكتوب حتى يشهد شاهدان عدلان أنه كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يدل على ذلك ما أخرجه ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قدم عمر فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأت به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان.
ويدل عليه ما أخرجه أبو داود أيضا ولكن من طريق هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه ا هـ وهو حديث رجاله ثقات وإن كان منقطعا. قال ابن حجر: المراد بالشاهدين: الحفظ والكتابة.
وقال السخاوي في جمال القراء ما يفيد أن المراد بهما رجلان عدلان إذ يقول ما نصه: المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يعتمد زيد على الحفظ وحده ولذلك قال في الحديث الذي رواه البخاري سابقا إنه لم يجد آخر سورة براءة إلا مع أبي خزيمة. أي لم يجدها مكتوبة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري مع أن زيدا كان يحفظها وكان كثيرا من الصحابة يحفظونها. ولكنه أراد أن يجمع بين الحفظ والكتابة زيادة في التوثق ومبالغة في الاحتياط. وعلى هذا

الدستور الرشيد تم جمع القرآن بإشراف أبي بكر وعمر وأكابر الصحابة وإجماع الأمة عليه دون نكير. وكان ذلك منقبة خالدة لا يزال التاريخ يذكرها بالجميل لأبي بكر في الإشراف ولعمر في الاقتراح ولزيد في التنفيذ وللصحابة في المعاونة والإقرار.
قال علي كرم الله وجهه: أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله أخرجه ابن أبي داود في المصاحف بسند حسن.
وقد قوبلت تلك الصحف التي جمعها زيد بما تستحق من عناية فائقة فحفظها أبو بكر عنده. ثم حفظها عمر بعده. ثم حفظتها أم المؤمنين حفصة بنت عمر بعد وفاة عمر. حتى طلبها منها خليفة المسلمين عثمان رضي الله عنه حيث اعتمد عليها في استنساخ مصاحف القرآن. ثم ردها إليها كما يأتيك بيانه إن شاء الله.
مزايا هذه الصحف:
وامتازت هذه الصحف: أولا: بأنها جمعت القرآن على أدق وجوه البحث والتحري وأسلم أصول التثبيت العلمي كما سبق شرحه لك في الدستور السابق.
ثانيا : أنه أقتصر فيها على ما لم تنسخ تلاوته.
ثالثا : أنها ظفرت بإجماع الأمة عليها وتواتر ما فيها. ولا يطعن في ذلك التواتر ما مر عليك من أن آخر سورة براءة لم يوجد إلا عند أبي خزيمة فإن المراد أنه لم يوجد مكتوبا إلا عنده وذلك لا ينافي أنه وجد محفوظا عند كثرة غامرة من الصحابة بلغت حد التواتر وقد قلنا غير مرة: إن المعول عليه وقتئذ كان هو الحفظ والاستظهار. وإنما اعتمد على الكتابة كمصدر من المصادر زيادة في الاحتياط ومبالغة في الدقة والحذر. ولا يعزبن عن بالك أن هذا الجمع كان شاملا للأحرف

السبعة التي نزل بها القرآن تيسيرا على الأمة الإسلامية كما كانت الأحرف السبعة في الرقاع كذلك.
ملاحظة :
جمع القرآن في صحف أو مصحف على ذلك النمط الآنف بمزاياه السابقة التي ذكرناها بين يديك لم يعرف لأحد قبل أبي بكر رضي الله عنه. وذلك لا ينافي أن الصحابة كانت لهم صحف أو مصاحف كتبوا فيها القرآن من قبل. لكنها لم تظفر بما ظفرت به الصحف المجموعة على عهد أبي بكر من دقة البحث والتحري ومن الاقتصار على ما لم تنسخ تلاوته ومن بلوغها حد التواتر ومن إجماع الأمة عليها ومن شمولها للأحرف السبعة كما تقدم. وإذن لا يضيرنا في هذا البحث أن يقال إن عليا رضي الله عنه أول من جمع القرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعكر صفو موضوعنا أن يستدلوا على ذلك بما نقله السيوطي عن ابن الغرس من حديث محمد بن سيرين عن عكرمة قال: لما كان بدء خلافة أبي بكر قعد علي بن أبي طالب في بيته فقيل لأبي بكر: قد كره بيعتك. فأرسل إليه فقال: أكرهت بيعتي؟ فقال: رأيت كتاب الله يزاد فيه فحدثت نفسي ألا ألبس ردائي إلا لصلاة حتى أجمعه. قال له أبو بكر: فإنك نعم ما رأيت. قال محمد: فقلت لعكرمة: ألفوه كما أنزل الأول فالأول؟ قال: لو اجتمعت الإنس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا. ا هـ وأخرج ابن أشته من وجه آخر عن ابن سيرين هذا الأثر وفيه أنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ وأن ابن سيرين قال: فطلبت ذلك الكتاب وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه. ا هـ.
نقول إن هذه الرواية وأشباهها لا تغير بحثنا ولا تعكر صفو موضوعنا فقصاراها

أنها تثبت أن عليا أو بعض الصحابة كان قد كتب القرآن في مصحف. لكنها لا تعطي هذا المصحف تلك الصفة الإجماعية ولا تخلع عليه تلك المزايا التي للصحف أو المصحف المجموع في عهد أبي بكر. بل هي مصاحف فردية ليست لها تلك الثقة ولا هذه المزايا. وإذا كانت قد سبقت في الوجود وتقدم بها الزمان فإن جمع أبي بكر هو الأول من نوعه على كل حال. وقد اعترف علي بن أبي طالب نفسه بهذه الحقيقة في الحديث الذي أخرجه ابن أبي داود في المصاحف بسند حسن آنفا إذ قال: أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله.
فهذا اعتراف صريح من أبي الحسن بالأولية لجمع أبي بكر على النحو الآنف رضوان الله عليهم أجمعين.

جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه
...
جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه
اتسعت الفتوحات في زمن عثمان واستبحر العمران وتفرق المسلمون في الأمصار والأقطار ونبتت ناشئة جديدة كانت بحاجة إلى دراسة القرآن. وطال عهد الناس بالرسول والوحي والتنزيل. وكان أهل كل إقليم من أقاليم الإسلام يأخذون بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة فأهل الشام يقرؤون بقراءة أبي بن كعب وأهل الكوفة يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود وغيرهم يقرأ بقراءة أبي موسى الأشعري. فكان بينهم اختلاف في حروف الأداء ووجوه القراءة بطريقة فتحت باب الشقاق والنزاع في قراءة القرآن أشبه بما كان بين الصحابة قبل أن يعلموا أن القرآن نزل على سبعة أحرف بل كان هذا الشقاق أشد لبعد عهد هؤلاء بالنبوة وعدم وجود الرسول بينهم يطمئنون إلى حكمه ويصدرون جميعا عن رأيه. واستفحل الداء حتى كفر بعضهم بعضا وكادت تكون فتنة في الأرض وفساد كبير. ولم يقف هذا الطغيان عند حد,

بل كاد يلفح بناره جميع البلاد الإسلامية حتى الحجاز والمدينة وأصاب الصغار والكبار على سواء.
أخرج ابن أبي داود في المصاحف من طريق أبي قلابة أنه قال: لما كانت خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل والمعلم يعلم قراءة الرجل فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين حتى كفر بعضهم بعضا فبلغ ذلك عثمان فخطب فقال: أنتم عندي تختلفون فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافا.
وصدق عثمان فقد كانت الأمصار النائية أشد اختلافا ونزاعا من المدينة والحجاز. وكان الذين يسمعون اختلاف القراءات من تلك الأمصار إذا جمعتهم المجامع أو التقوا على جهاد أعدائهم يعجبون من ذلك
وكانوا يمعنون في التعجب والإنكار كلما سمعوا زيادة في اختلاف طرق أداء القرآن. وتأدى بهم التعجب إلى الشك والمداجاة ثم إلى التأثيم والملاحاة. وتيقظت الفتنة التي كادت تطيح فيها الرؤوس وتسفك الدماء وتقود المسلمين إلى مثل اختلاف اليهود والنصارى في كتابهم. كما قال حذيفة لعثمان في الحديث الآتي قريبا.
أضف إلى ذلك أن الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن لم تكن معروفة لأهل تلك الأمصار ولم يكن من السهل عليهم أن يعرفوها كلها حتى يتحاكموا إليها فيما يختلفون. إنما كان كل صحابي في إقليم يقرئهم بما يعرف فقط من الحروف التي نزل عليها القرآن. ولم يكن بين أيديهم مصحف جامع يرجعون إليه فيما شجر بينهم من هذا الخلاف والشقاق البعيد.
لهذه الأسباب والأحداث رأى عثمان بثاقب رأيه وصادق نظره أن يتدارك الخرق قبل أن يتسع على الراقع وأن يستأصل الداء قبل أن يعز الدواء فجمع أعلام

الصحابة وذوي البصر منهم وأجال الرأي بينه وبينهم في علاج هذه الفتنة ووضع حد لذلك الاختلاف وحسم مادة هذا النزاع. فأجمعوا أمرهم على استنساخ مصاحف يرسل منها إلى الأمصار وأن يؤمر الناس بإحراق كل ما عداها وألا يعتمدوا سواها. وبذلك يرأب الصدع ويجبر الكسر وتعتبر تلك المصاحف العثمانية الرسمية نورهم الهادي في ظلام هذا الإختلاف ومصباحهم الكشاف في ليل تلك الفتنة وحكمهم العدل في ذاك النزاع والمراء وشفاءهم الناجع من مصيبة ذلك الداء.
تنفيذ عثمان لقرار الجمع:
وشرع عثمان في تنفيذ هذا القرار الحكيم حول أواخر سنة أربع وعشرين وأوائل سنة خمس وعشرين من الهجرة فعهد في نسخ المصاحف إلى أربعة من خيرة الصحابة وثقات الحفاظ وهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وهؤلاء الثلاثة الأخيرون من قريش.
وأرسل عثمان إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر فبعثت إليه بالصحف التي عندها وهي الصحف التي جمع القرآن فيها على عهد أبي بكر رضي الله عنه. وأخذت لجنة الأربعة هؤلاء في نسخها وجاء في بعض الروايات أن الذين ندبوا لنسخ المصاحف كانوا اثني عشر رجلا. وما كانوا يكتبون شيئا إلا بعد أن يعرض على الصحابة ويقروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على هذا النحو الذي نجده الآن في المصاحف.
دستور عثمان في كتابة المصاحف:
ومما تواضع عليه هؤلاء الصحابة أنهم كانوا لا يكتبون في هذه المصاحف إلا ما تحققوا أنه قرآن وعلموا أنه قد استقر في العرضة الأخيرة وما أيقنوا صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم مما لم ينسخ. وتركوا ما سوى ذلك نحو قراءة فامضوا إلى ذكر الله بدل كلمة {فَاسَعَوْا} ونحو {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً}

بزيادة كلمة صالحة إلى غير ذلك. وإنما كتبوا مصاحف متعددة لأن عثمان رضي الله عنه قصد إرسال ما وقع الإجماع عليه إلى أقطار بلاد المسلمين وهي الأخرى متعددة وكتبوها متفاوتة في إثبات وحذف وبدل وغيرها لأنه رضي الله عنه قصد اشتمالها على الأحرف السبعة. وجعلوها خالية من النقط والشكل تحقيقا لهذا الاحتمال أيضا. فكانت بعض الكلمات يقرأ رسمها بأكثر من وجه عند تجردها من النقط والشكل نحو {فَتَبَيَّنُوا} من قوله تعالى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} فإنها تصلح أن تقرأ فتثبتوا عند خلوها من النقط والشكل وهي قراءة أخرى وكذلك كلمة ننشرها من قوله تعالى {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} فإن تجردها من النقط والشكل كما ترى يجعلها صالحة عندهم أن يقرؤوها {نُنْشِزُهَا} بالزاي وهي قراءة واردة أيضا وكذلك كلمة {أُفٍّ} التي ورد أنها تقرأ بسبعة وثلاثين وجها.
أما الكلمات التي لا تدل على أكثر من قراءة عند خلوها من النقط والشكل مع أنها واردة بقراءة أخرى أيضا فإنهم كانوا يرسمونها في بعض المصاحف برسم يدل على قراءة وفي بعض آخر برسم آخر يدل على القراءة الثانية كقراءة وصى بالتضعيف وأوصى بالهمز وهما قراءتان في قوله سبحانه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ}
وكذلك قراءة تحتها الأنهار وقراءة {مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} بزيادة لفظ {مِنْ} في قوله تعالى في سورة التوبة: {لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} وهما قراءتان أيضا.
وصفوة القول: أن اللفظ الذي لا تختلف فيه وجوه القراءات كانوا يرسمونه بصورة واحدة لا محالة. أما الذي تختلف فيه وجوه القراءات فإن كان لا يمكن رسمه في الخط محتملا لتلك الوجوه كلها فإنهم يكتبونه برسم يوافق بعض الوجوه في مصحف ثم يكتبونه برسم آخر يوافق بعض الوجوه الأخرى في مصحف آخر. وكانوا يتحاشون أن

يكتبوه بالرسمين في مصحف واحد خشية أن يتوهم أن اللفظ نزل مكررا بالوجهين في قراءة واحدة وليس كذلك. بل هما قراءتان نزل اللفظ في إحداهما بوجه واحد وفي الثانية بوجه آخر من غير تكرار في واحدة منهما.
وكذلك كانوا يتحاشون أن يكتبوا هذا اللفظ في مصحف واحد برسمين: أحدهما في الأصل والآخر في الحاشية لئلا يتوهم أن الثاني تصحيح للأول. أضف إلى ذلك أن كتابة أحدهما في الأصل والآخر في الحاشية دون العكس تحكم أو ترجيح بلا مرجح وذلك نحو كلمة وصى بالتضعيف وأوصى بالهمز كما سبق.
أما اللفظ الذي تختلف فيه القراءات ويدل عليه الرسم بصورة واحدة تحتمل هذا الاختلاف ويساعدهم عليه ترك الإعجام والشكل نحو {فَتَبَيَّنُوا} وننشرها كما سلف بيانه فتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين شبيهة بدلالة المشترك اللفظي على كلا المعنيين المعقولين. والذي دعا الصحابة إلى انتهاج هذه الخطة في رسم المصاحف وكتابتها أنهم تلقوا القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميع وجوه قراءاته وبكافة حروفه التي نزل عليها فكانت هذه الطريقة أدنى إلى الإحاطة بالقرآن على وجوهه كلها حتى لا يقال: إنهم أسقطوا شيئا من قراءاته أو منعوا أحدا من القراءة بأي حرف شاء على حين أنها كلها منقولة نقلا متواترا عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فأي ذلك قرأتم أصبتم فلا تماروا" وكان من الدستور الذي وضعه عثمان رضي الله عنه لهم في هذا الجمع أيضا أنه قال لهؤلاء القرشيين إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.

وفي ذلك يروي البخاري في صحيحه بسنده عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا. وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق ا هـ.
تحريق عثمان للمصاحف والصحف المخالفة:
بعد أن أتم عثمان نسخ المصاحف بالصورة السابقة عمل على إرسالها وإنقاذها إلى الأقطار وأمر أن يحرف كل ما عداها مما يخالفها سواء كانت صحفا أم مصاحف. وذلك ليقطع عرق النزاع من ناحية وليحمل المسلمين على الجادة في كتاب الله من ناحية أخرى فلا يأخذوا إلا بتلك المصاحف التي توافر فيها من المزايا ما لم يتوافر في غيرها.
وهذه المزايا هي:
1- الاقتصار على ما ثبت بالتواتر دون ما كانت روايته آحادا.
2- وإهمال ما نسخت تلاوته ولم يستقر في العرضة الأخيرة.

3- وترتيب السور والآيات على الوجه المعروف الآن. بخلاف صحف أبي بكر رضي الله عنه فقد كانت مرتبة الآيات دون السور.
4- وكتابتها بطريقة كانت تجمع وجوه القراءات المختلفة والأحرف التي نزل عليها القرآن على ما مر بك من عدم إعجامها وشكلها ومن توزيع وجوه القراءات على المصاحف إذا لم يحتملها الرسم الواحد.
5- وتجريدها من كل ما ليس قرآنا كالذي كان يكتبه بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة شرحا لمعنى أو بيانا لناسخ ومنسوخ أو نحو ذلك.
وقد استجاب الصحابة لعثمان فحرقوا مصاحفهم واجتمعوا جميعا على المصاحف العثمانية. حتى عبد الله بن مسعود الذي نقل عنه أنه أنكر أولا مصاحف عثمان وأنه أبى أن يحرق مصحفه رجع وعاد إلى حظيرة الجماعة حين ظهر له مزايا تلك المصاحف العثمانية واجتماع الأمة عليها وتوحيد الكلمة بها.
وبعدئذ طهر الجو الإسلامي من أوبئة الشقاق والنزاع وأصبح مصحف ابن مسعود ومصحف أبي بن كعب ومصحف عائشة ومصحف علي ومصحف سالم مولى أبي حذيفة. أصبحت كلها وأمثالها في خبر كان مغسولة بالماء أو محروقة بالنيران. {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} .
ورضي الله عن عثمان فقد أرضى بذلك العمل الجليل ربه وحافظ على القرآن وجمع كلمة الأمة وأغلق باب الفتنة ولا يبرح المسلمون يقطفون من ثمار صنيعه هذا إلى اليوم وما بعد اليوم.
ولن يقدح في عمله هذا أنه أحرق المصاحف والصحف المخالفة للمصاحف العثمانية فقد علمت وجهة نظره في ذلك. على أنه لم يفعل ما فعل من هذا الأمر الجلل إلا بعد أن استشار الصحابة واكتسب موافقتهم بل وظفر بمعاونتهم وتأييدهم وشكرهم.

روى أبو بكر الأنباري عن سويد بن غفلة قال: سمعت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول: "يا معشر الناس: اتقوا الله وإياكم والغلو في عثمان وقولكم: حراق مصاحف فوالله ما حرقها إلا عن ملأ منا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وعن عمر بن سعيد قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان" رضي الله عن الجميع وجزاهم أحسن الجزاء على هذا الصنيع.
فذلكة :
تستطيع مما سبق أن تفرق بين مرات جمع القرآن في عهوده الثلاثة: عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعهد عثمان رضي الله عنهما فالجمع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان عبارة عن كتابة الآيات وترتيبها ووضعها في مكانها الخاص من سورها ولكن مع بعثرة الكتابة وتفرقها بين عسب وعظام وحجارة ورقاع ونحو ذلك حسبما تتيسر أدوات الكتابة وكان الغرض من هذا الجمع زيادة التوثق للقرآن وإن كان التعويل أيامئذ كان على الحفظ والاستظهار.
أما الجمع في عهد أبي بكر رضي الله عنه فقد كان عبارة عن نقل القرآن وكتابته في صحف مرتب الآيات أيضا مقتصرا فيه على ما لم تنسخ تلاوته مستوثقا له بالتواتر والإجماع. وكان الغرض منه تسجيل القرآن وتقييده بالكتابة مجموعا مرتبا خشية ذهاب شيء منه بموت حملته وحفاظه.
وأما الجمع في عهد عثمان رضي الله عنه فقد كان عبارة عن نقل ما في تلك الصحف في مصحف واحد إمام واستنساخ مصاحف منه ترسل إلى الآفاق الإسلامية ملاحظا فيها تلك المزايا السالف ذكرها مع ترتيب سوره وآياته جميعا. وكان الغرض منه إطفاء الفتنة

التي اشتعلت بين المسلمين حين اختلفوا في قراءة القرآن وجمع شملهم وتوحيد كلمتهم والمحافظة على كتاب الله من التغيير والتبديل. {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.

رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المبحث, الثامن

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:45 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir