بَابُ الطَّلاقِ فِي المَاضِي وَالمُسْتَقْبَلِ
إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ، أَوْ قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَكِ، وَلَمْ يَنْوِ وُقُوعَهُ فِي الْحَالِ لَمْ يَقَعْ، وَإِنْ أَرَادَ بِطَلاَقٍ سَبَقَ مِنْهُ، أَوْ مِنْ زَيْدٍ، وَأَمْكَنَ قُبِلَ، ............
قوله: «الطلاق في الماضي والمستقبل» ولم يذكر الحاضر؛ لأنه هو الأصل، فالإنسان ما يطلق إلا طلاقاً حاضراً، لكن قد يطلق في الماضي، وقد يطلق في المستقبل.
واعلم أن العلماء ـ رحمهم الله ـ بناء على أن مؤلفاتهم للتعليم والتمرين يذكرون مسائل قد لا تقع، وإن وقعت فهي نادرة، حتى إنهم ذكروا لو مات عن عشرين جدة، ولو أوصى بأشياء خيالية، يذكرون هذا تمريناً للطالب.
قوله: «إذا قال: أنت طالق أمس» لا تطلق؛ لأن الطلاق إنشاء، والإنشاء لا يتعلق بالماضي، فلا بد أن يكون مقارناً للفظ، أو متأخراً عنه، والطلاق في الماضي خبر، وإذا كان خبراً، فهل طلقها أمس؟ لم يطلقها فلا يقع، إلا إذا قال: أنت طالق بالأمس، ونوى الإخبار عن طلاق وقع منه بالأمس، فالطلاق يقع بطلاق الأمس.
قوله: «أو قبل أن أنكحك» كذلك ما يقع؛ لأنه لا طلاق إلا بعد نكاح.
قوله: «ولم ينو وقوعه في الحال، لم يقع» فإن نوى وقوعه في الحال، وقال: أنا أقصد بقولي: أنت طالق أمسِ المبالغةَ في تحقق ذلك وأنه واقع اليوم، فإنه يقع؛ لأنه إقرار على نفسه بما هو أغلظ.
والصحيح: أنه لا يقع؛ لأن اللفظ لا يحتمله، إذ كيف يقول: أنت طالق أمسِ، ونقول: هذه بمعنى أنت طالق الآن؟! ما يصح، ولهذا اشترطوا في التأويل في الحلف أن يكون اللفظ ممكناً لقبوله، وعليه فنقول: في هذه الحال لا يقع للتناقض بين ما أراد وبين اللفظ.
قوله: «وإن أراد بطلاق سبق منه، أو من زيد، وأمكن قبل» يعني إن قال: أنا أقصد أنت طالق أمسِ، وأراد أنها طالق بطلاق سبق منه بالأمس يقبل، أو سبق من زيد، لكن بشرط أن يكون ممكناً، والإمكان بأن يكون قد سبق له نكاحها، أو سبق لزيد نكاحها، ولا يقع الطلاق الآن؛ لأنه خبر.
والفائدة من هذا أنها لو حاكمته، وقالت: إنه قاصد الطلاق من هذا النكاح، لكن أراد المبالغة، وقال: ما أردت المبالغة إنما أردت الطلاق السابق من زيد، أو الطلاق السابق مني، يقول المؤلف ـ رحمه الله ـ: «قبل» لأن هذا خبر، ولا نلزمه بيمين ولا بشيء آخر بشرط أن يكون هذا وقع، فإن لم يكن وقع فما نقبل منه، ويكون كاذباً.
ولو فرض أن هذا الرجل تكذبه القرينة، كأن يقول: أنا أردت طلاقاً سابقاً من زيد أو مني، ولكن القرينة تكذبه؛ لأنها هي سألته الطلاق فلا نقبل منه؛ لأن ادعاءه هذا خلاف الظاهر.
فَإِنْ مَاتَ، أَوْ جُنَّ، أَوْ خَرِسَ قَبْلَ بَيَانِ مُرَادِهِ لَمْ تَطْلُقْ، وَإِنْ قَالَ: طَالِقٌ ثَلاَثاً قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ بِشَهْرٍ فَقَدِمَ قَبْلَ مُضِيِّهِ لَمْ تَطْلُقْ، وَبَعْدَ شَهْرٍ وَجُزْءٍ تَطْلُقُ فِيهِ يَقَعُ، فَإِنْ خَالَعَهَا بَعْد الْيَمِينِ بِيَوْمٍ، وَقَدِمَ بَعْدَ شَهْرٍ وَيَوْمَيْنِ صَحَّ الْخُلْعُ، وَبَطَلَ الطَّلاَقُ،..................
قوله: «فإن مات» يعني الذي قال: أنت طالق أمس أو قبل أن أنكحك.
قوله: «أو جُن أو خرس قبل بيان مراده لم تطلق» قال: أنت طالق قبل أن أتزوجك ومات قبل البيان فلا تطلق؛ لأن الأصل عدم الطلاق بهذه الصيغة.
وقوله: «أو جن» يعني ذهب عقله.
وقوله: «أو خرس» يعني صار لا يتكلم، لكن المسألة الأخيرة يمكن الحصول على مراده بالإشارة أو بالكتابة مثلاً، إذا كان يستطيع الكتابة، ولكن كلام المؤلف على ما إذا لم يتضح مراده فالأصل عدم الوقوع، واعتباراً بظاهر اللفظ؛ لأنه طلاق في الماضي، والطلاق في الماضي لا يقع، ولهذا قال المؤلف: «لم تطلق» .
قوله: «وإن قال: طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر» فإنه يجب أن يفارقها ويعتزلها؛ لأن الطلاق بائن، ولا ندري متى يقدم زيد؟ فقد يقدم الآن، وقد يقدم بعد، فلهذا يقول المؤلف:
«فقدم قبل مضيه لم تطلق» وعلى هذا فيجب عليه أن يتجنبها، مثلاً قال: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر، في اليوم السادس والعشرين من شوال، فقدم زيد في العشرين من ذي القعدة، فما تطلق؛ لأنه تبين أن الطلاق كان في عشرين من شوال فهو طلاق في الماضي، والطلاق في الماضي ما يقع كما سبق.
قوله: «وبعد شهر وجزء تطلق فيه يقع» فلو قال لها: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر في الساعة الثامنة والنصف من يوم ست وعشرين من شوال، فقدم الساعة الثامنة والنصف ودقيقة من يوم ست وعشرين من ذي القعدة تطلق؛ لأنه في الدقيقة يتمكن من أن يقول: أنت طالق.
فإن قدم الساعة الثامنة وتسعاً وعشرين دقيقة من يوم ست وعشرين من ذي القعدة فما تطلق؛ لأنه بقي دقيقة على الشهر، فصارت مطلقة في الماضي، الذي هو دقيقة واحدة، لكن هل يجوز أن يستمتع بها في هذه المدة؟ لا يجوز أن يستمتع؛ لأن فيه احتمالاً أن زيداً يتقدم أو يتأخر، فنقول: تجنبها؛ لأنه ربما يأتي في تمام شهر وثوان ويكون استمتاعك بها استمتاعاً بامرأة أجنبية.
قوله: «فإن خالعها بعد اليمين بيوم، وقدم بعد شهر ويومين صح الخلع وبطل الطلاق» قال: أنت طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر، وفي اليوم الثاني خالعها فقدم زيد بعد شهر ويومين يصح الخلع؛ لأنه لم يتبين أنها طلقت إلى الآن، ولا يصح الطلاق؛ لأنه تبين أن الطلاق وقع بعد المخالعة، فيصادف وقوع الطلاق عليها وهي بائن بالخلع، وإذا كانت بائناً لا يقع عليها الطلاق، ولهذا يقول رحمه الله: «صح الخلع وبطل الطلاق».
وَعَكْسُهَا بَعْدَ شَهْرٍ وَسَاعَةٍ، وَإِنْ قَالَ: طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي طَلَقَتْ في الحَالِ، وَعَكْسُهُ مَعَهُ، أَوْ بَعْدَهُ.
قوله: «وعكسها بعد شهر وساعة» مثلاً قال: يوم السبت أنت طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر، وفي يوم الأحد خالعها، ثم قدم زيد بعد قوله: «أنت طالق» بشهر وساعة يصح الطلاق، ولا يصح الخلع؛ لأنه تبين أن الخلع وقع على امرأة بائن، وهذا هو السر في أنه قال: «إذا قال: أنت طالق ثلاثاً» لأجل أن يقع الخلع على امرأة بائن فلا يصح.
قوله: «وإن قال: طالق قبل موتي طلقت في الحال» إذا قال لزوجته: أنت طالق قبل موتي طلقت؛ لأن كل زمن يقع بعد هذه الكلمة فهو قبل موته، فيقع طلاقه في الحال.
قوله: «وعكسه معه أو بعده» يعني فلا تطلق إذا قال: أنت طالق بعد موتي؛ لأنها بانت منه بموته، وكذلك لو قال: معه فإنه لا يقع الطلاق؛ وذلك لأن البينونة بالموت أقوى من البينونة بالطلاق، فكان الحكم للأقوى وهو الموت، فعلى هذا لا يقع الطلاق، وإذا قال: أنت طالق قبيل موتي تطلق قبل موته بقليل، وإن قال: يوم موتي طلقت في أول اليوم الذي يموت فيه.