وَرَوَى [الأَثْرَمُ فِي السُّنَّةِ]، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي الإِبَانَةِ، [وَأَبُو عُمَرَ الطَّلَمَنْكِيُّ وَغَيْرُهُمْ] بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ - وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ المَدِينَةِ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ هُمْ: مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ - وَقَدْ سُئِلَ عمَا جَحَدَتْ بِهِ الْجَهْمِيَّةُ: ( أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ فَهِمْتُ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ فِيمَا تَتَابَعَت الْجَهْمِيَّةُ وَمَنْ خَلْفَهَا، فِي صِفَةِ الرَّبِّ "الْعَظِيمِ" الَّذِي فَاقَتْ عَظَمَتُهُ الوَصْفَ وَالتَّدبر وَكَلَّتِ الأَلْسُنُ عَنْ تَفْسِيرِ صِفَتِهِ، وَانْحَسَرَتِ العُقُولُ دُونَ مَعْرِفَةِ قدْرتهِ، وَرَدَتْ عَظَمَتُهُ العُقُولَ فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغًا فَرَجَعَتْ خَاسِئَةً وَهِيَ حَسِيرَةٌ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِالنَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِيمَا خَلَقَ بِالتَّقْدِيرِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: "كَيْفَ؟ " لِمَنْ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ، فَأَمَّا الَّذِي لاَ يَحُولُ وَلا يَزُولُ، وَلَمْ يَزَلْ، وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ، فَإِنَّهُ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ إِلا هُوَ، وَكَيْفَ يُعْرَفُ قَدْرُ مَنْ لَمْ يُبْدَأْ وَمَنْ لَمْ يَمُتْ، وَلا يَبْلَى، وَكَيْفَ [يَكُونُ] لِصِفَةِ شَيْءٍ مِنْهُ حَدٌّ أَوْ مُنْتَهًى، يَعْرِفُهُ عَارِفٌ أَوْ يَحُدُّ قَدْرَهُ وَاصِفٌ عَلَى أَنَّهُ الحَقُّ المُبِينُ لاَ حَقَّ أَحَقُّ مِنْهُ، وَلا شَيْءَ أَبْيَنُ مِنْهُ.
الدَّلِيلُ عَلَى عَجْزِ العُقُولِ عَنْ تَحْقِيقِ صِفَتِهِ عَجْزُهَا عَنْ تَحْقِيقِ صِفَةِ أَصْغَرِ خَلْقِهِ، لاَ تَكَادُ تَرَاهُ صَغْرًا يَجُولُ وَيَزُولُ، وَلا يُرَى لَهُ سَمْعٌ وَلاَ بَصَرٌ; لِمَا يَتَقَلَّبُ بِهِ وَيَحْتَالُ مِنْ عَقْلِهِ، أَعْضَلُ بِكَ وَأَخْفَى عَلَيْكَ مِمَّا ظَهَرَ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ، وَخَالِقُهُمْ وَسَيِّدُ السَّادَاتِ وَرَبُّهُمْ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }.
اعْرَفْ - رَحِمَكَ اللَّهُ - غِنَاكَ عَنْ تَكَلُّفِ صِفَةِ مَا لَمْ يَصِفِ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ بِعَجْزِكَ عَنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِ مَا وُصِفَ مِنْهَا، إِذَا لَمْ تَعْرِفْ قَدْرَ مَا وَصَفَ فَمَا تَكَلُّفُكَ عِلْمَ مَا لَمْ يَصِفْ؟ هَلْ تَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ طَاعَتِهِ أَوْ تَزْدَجِرُ بِهِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مَعْصِيَتِهِ؟
فَأَمَّا الَّذِي جَحَدَ مَا وَصَفَ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ تَعَمُّقًا وَتَكْلِيفًا فَقَدْ { اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ } فَصَارَ يَسْتَدِلُّ بِزَعْمِهِ عَلَى جَحْدِ مَا وَصَفَ الرَّبُّ وَسَمَّى مِنْ نَفْسِهِ بِأَنْ [ قَالَ ]: لاَ بُدَّ إِنْ كَانَ لَهُ كَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ كَذَا فَعَمِيَ عَنِ الْبَيِّنِ بِالْخَفِيِّ، وَجَحَدَ مَا سَمَّى الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ بِصَمْتِ الرَّبِّ عَمَّا لَمْ يُسَمِّ مِنْهَا، فَلَمْ يَزَلْ يُمْلِي لَهُ الشَّيْطَانُ حَتَّى جَحَدَ قَوْلَ الرَّبِّ - عزَّ وجلَّ – { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } فَقَالَ: لاَ يَرَاهُ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَجَحَدَ وَاللَّهِ أَفْضَلَ كَرَامَةِ اللَّهِ الَّتِي أَكْرَمَ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ، وَنَظْرَتِهِ إِيَّاهُمْ { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ }، وَقَدْ قَضَى أَنَّهُمْ لاَ يَمُوتُونَ، فَهُمْ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ يَنْظُرُونَ.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِنَّمَا جَحَدَ رُؤْيَةَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ الضَّالَّةِ الْمُضِلَّةِ؛ لأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ أنه إِذَا تَجَلَّى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَأَوْا مِنْهُ مَا كَانُوا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مُؤْمِنِينَ، وَكَانَ لَهُ جَاحِدًا.
وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يوم القيامة؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ( هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ ) قَالُوا: لاَ. قَالَ: ( فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ ) قَالُوا: لاَ. قَالَ: ( فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يومئذ كَذَلِكَ).
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ( لاَ تَمْتَلِئُ النَّارُ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَقُولُ قَطْ قَطْ وَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ).
وَقَالَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ( لَقَدْ ضَحِكَ اللَّهُ مِمَّا فَعَلْتَ بِضَيْفِكَ الْبَارِحَةَ ).
وَقَالَ فِيمَا بَلَغَنَا: ( إِنَّ اللَّهَ لَيَضْحَكُ مِنْ أَزَلِكُمْ وَقُنُوطِكُمْ وَسُرْعَةِ إِجَابَتِكُمْ ) فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ: إِنَّ رَبَّنَا لَيَضْحَكُ؟ قَالَ: ( نَعَمْ ) قَالَ: لاَ نَعْدِمُ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا، إلى أَشْبَاهٍ لِهَذَا مِمَّا لا نُحْصِيهِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } وَقَالَ تَعَالَى: { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } وَقَالَ تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وَقَالَ تَعَالَى: { وَالأَرْضُ جَمِيعـًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فَوَ اللَّهِ مَا دَلَّهُمْ عَلَى عِظَمِ مَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَا تُحِيطُ بِهِ قَبْضَتُهُ إِلا صِغَرُ نَظِيرِهَا مِنْهُمْ عِنْدَهُمْ، إِنَّ ذَلِكَ الَّذِي أَلْقَى فِي رُوعِهِمْ، وَخَلَقَ عَلَى مَعْرِفَته [ قُلُوبَهُمْ ] فَمَا وَصَفَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ وَسَمَّاهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلَّى الله عليه وسلَّم سَمَّيْنَاهُ كَمَا سَمَّاهُ، وَلَمْ نَتَكَلَّفْ مِنْهُ صِفَةَ مَا سِوَاهُ - لاَ هَذَا وَلا هَذَا – وَلاَ نَجْحَدُ مَا وَصَفَ وَلا نَتَكَلَّفُ مَعْرِفَةَ مَا لَمْ يَصِفْ.
اعْلَمْ - رَحِمَكَ اللَّهُ - أَنَّ الْعِصْمَةَ فِي الدِّينِ أَنْ تَنْتَهِيَ فِي الدِّينِ حَيْثُ انْتَهَى بِكَ وَلا تُجَاوِزَ مَا حُدَّ لَكَ، فَإِنَّ مِنْ قِوَامِ الدِّينِ مَعْرِفَةَ الْمَعْرُوفِ وَإِنْكَارَ الْمُنْكَرِ، فَمَا بُسِطَتْ عَلَيْهِ الْمَعْرِفَةُ وَسَكَنَتْ إِلَيْهِ الأَفْئِدَةُ وَذُكِرَ أَصْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَوَارَثَ عِلْمَهُ الأُمَّةُ، فَلا تَخَافَنَّ فِي ذِكْرِهِ وَصِفَتِهِ مِنْ رَبِّكَ مَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ عَيْبًا، وَلا تتَكَلَّفَنَّ بِمَا وَصَفَ لَك مِنْ ذَلِكَ قَدْرًا.
وَمَا أَنْكَرْتَهُ نَفْسِكَ، وَلَمْ تَجِدْ ذِكْرَهُ فِي كِتَابِ رَبِّكَ وَلا فِي الْحَدِيثِ عَنْ نَبِيِّكَ - مِنْ ذِكْرِ صفةِ رَبِّكَ - فَلا تَكَلَّفَنَّ عِلْمَهُ بِعَقْلِكَ، وَلا تَصِفْهُ بِلِسَانِكَ، وَاصْمُتْ عَنْهُ كَمَا صَمَتَ الرَّبُّ عَنْهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ تَكَلُّفَكَ [ مَعْرِفَةَ ] مَا لَمْ يَصِفْ مِنْ نَفْسِهِ مثل إِنْكَارِ مَا وَصَفَ مِنْهَا، فَكَمَا أَعْظَمْتَ مَا جَحَدَه الْجَاحِدُونَ مِمَّا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ أَعْظِمْ [ تَكَلُّفَ ] مَا وَصَفَ الْوَاصِفُونَ مِمَّا لَمْ يَصِفْ مِنْهَا(1).
فَقَدَ - وَاللَّهِ - عَزَّ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْمَعْرُوفَ وَبِهم َيُعْرَفُ، وَيُنْكِرُونَ الْمُنْكَرَ وَبِإِنْكَارِهِمْ يُنْكَرُ، يَسْمَعُونَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِهِ، وَمَا بَلغهُمْ مِثْلُهُ عَنْ نَبِيِّهِ، فَمَا مَرِضَ مِنْ ذِكْرِ هَذَا وَتَسْمِيَتِهِ قَلْبُ مُسْلِمٍ، وَلا تَكَلَّفَ صِفَةَ قُدْرَه وَلا تَسْمِيَةَ غَيْرِهِ مِنَ الرَّبِّ مُؤْمِنٌ.
وَمَا ذُكِرَ عَنِ الرَّسُولِ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنَّهُ سَمَّاهُ مِنْ صِفَةِ رَبِّهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا سَمَّى وَمَا وَصَفَ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ.
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ - الْوَاقِفُونَ حَيْثُ انْتَهَى عِلْمُهُمْ، الْوَاصِفُونَ لِرَبِّهِمْ بِمَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ، التَّارِكُونَ لِمَا تَرَكَ مِنْ ذِكْرِهَا - لاَ يُنْكِرُونَ صِفَةَ مَا سَمَّى مِنْهَا جَحْدًا، وَلا يَتَكَلَّفُونَ وَصْفَهُ بِمَا لَمْ يُسَمِّ تَعَمُّقًا؛ لأَنَّ الْحَقَّ تَرْكُ مَا تَرَكَ وَتَسْمِيَةُ مَا سَمَّى { وَمَنْ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } وَهَبَ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ حُكْمًا وَأَلْحَقْنَا بِالصَّالِحِينَ.
وَهَذَا كُلُّهُ كَلاَمُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ الإِمَامِ فَتَدَبَّرْهُ، وَانْظُرْ كَيْفَ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ وَنَفَى عِلْمَ الْكَيْفِيَّةِ مُوَافِقاً لِغَيْرِهِ مِنَ الأَئِمَّةِ وَكَيْفَ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ نَفَى الصِّفَاتِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِهَا كَذَا وَكَذَا كَمَا تَقُولُهُ الْجَهْمِيَّةُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا أَوْ عَرَضًا؛ فَيَكُونُ محدثاً.