وَلْنَخْتِمِ الكتاب بذكر مَسْأَلةٍ عَظِيمَةٍ مُهِمَّةٍ تُفْهَمُ بِما تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ نُفْرِدُ لَهَا الكَلامَ لِعِظَمِ شَأْنِها، ولِكَثْرَةِ الغَلَطِ فِيها فَنَقُولُ:
لا خِلافَ أَنَّ التَّوْحِيدَ لابُدَّ أَنْ يَكُونَ بِالقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالعَمَلِ، فَإِن اخْتَلَّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا لَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ مُسْلِما.
فَإِنْ عَرَفَ التَّوْحِيدَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ مُعَانِدٌ
كَفِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ
وَأَمْثَالِهِمَا.
وَهَذا يَغْلَطُ فِيهِ كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ، يَقُولُونَ: هَذَا حَقٌّ، وَنَحْنُ نَفْهَمُ هَذَا، وَنَشْهَدُ أَنَّهُ الحَقُّ، ولكن لا نَقْدِرُ أَنْ نَفْعَلَهُ، وَلا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ بَلَدِنا إِلاَّ مَنْ وَافَقَهُم، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الأَعْذَارِ.
وَلَمْ يعْرِفِ المِسْكِينُ أَنَّ غَالِبَ أَئِمَّةِ الكُفْرِ يَعْرِفُونَ الحَقَّ، وَلَمْ يَتْرُكُوهُ إِلاَّ لِشَيْءٍ مِنَ الأَعْذَارِ؛ كَمَا قَالَ تَعالى: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً} وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الآياتِ كَقَوْلِهِ: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} .
فَإنْ عَمِلَ بِالتَّوْحِيْدِ عَمَلاً ظَاهِراً وَهُوَ لا يَفْهَمُ وَلا يَعْتَقِدُ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ، وَهُوَ شَرٌّ مِنَ الكَافِرِ الخَالِصِ كما قال تعالى: {إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}.
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ كَبيرةٌ طَويلَةٌ تَبِيْنُ لَكَ إِذَا تَأَمَّلْتَها في أَلْسِنَةِ النَّاسِ.
تَرَى مَنْ يَعْرِفُ الحَقَّ ويَتْرُكُ العَمَلَ بِهِ لِخَوْفِ نَقْصِ دُنْياه، أَوْ جَاهِهِ، أو مُلْكِهِ، أَوْ مُدَاراةً.
وَتَرَى مَنْ يَعْمَلُ بِهِ ظاهِراً لا بَاطِناً، فَإِذَا سَأَلْتَهُ عَمَّا يَعْتَقِدُه بِقَلْبِهِ إِذا هُوَ لاَ يَعْرِفُهُ، وَلَكنْ عَلَيْكَ بِفَهْمِ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ تعالى:
أُوْلاهُمَا: ما تقدَّمَ وهي قَوْلُهُ: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيْمَانِكُمْ}.
فَإذَا تَحَقَّقْتَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابةِ الَّذينَ غَزَوا الرُّومَ مَعَ رَسُولِ اللهِ، كَفَرُوا بِسَبَبِ كَلِمَةٍ قَالُوها في غَزْوةِ تَبُوكٍ عَلى وَجْهِ المَزْحِ وَاللَّعِبِ، تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِالْكُفْرِ، أَوْ يَعْمَلُ بِهِ خَوْفاً مِنْ نَقْصِ مَالٍ، أَوْ جَاهٍ، أَوْ مُدَارَاةً لأَحَدٍ أَعْظَمُ مِمَّنْ يَتَكلَّمُ بِكَلِمةٍ يَمْزَحُ بِهَا.
والآيَةُ الثَّانِيةُ: قَوْلُهُ تَعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ولَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْراً} الآية ، فَلَمْ يَعْذُرِ اللهُ مِنْ هَؤُلاءِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ مَعَ كَوْنِ قَلْبِهِ مُطْمَئِنّاً بِالإِيمَانِ، وَأَمَّا غَيْرُ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ بَعْدَ إيمانِهِ، سَواءً فَعَلَهُ خَوْفاً، أو طمعاً، أَوْ مُدَاراةً لأحدٍ، أَوْ مَشَحَّةً بِوَطَنِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ عَشِيرَتِه