قال:
الحَمْدُ لِلَّهِ البـَدِيع الهَـادِي = إلى بيَـانِ مَهيَع الرشـاد
أقول: (الحمد) لغة هو: الثناء بالكلام على المحمود بجميل صفاته، واصطلاحا: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب إنعامه.
ومعنى (الشكر) لغة هو معنى الحمد اصطلاحا بإبدال لفظ الحامد بالشاكر، واصطلاحا: صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله.
وجملة الحمد مفيدة له ولو كانت خبرية لأن الإخبار بالثناء ثناء ولاختصاص جميع أفراده به تعالى، وإن أشير بأل إلى غير كل الأفراد لكون الحمد صفة ذات أو صفة فعل.
وقدم المسند إليه للأصل والبلاغة وعرّف بأل ليتأتى ما يصلح أن يراد بها.
وتحقيق الكلام على (الحمد) والشكر والمدح لغة واصطلاحا والنسبة بين أفراد الجميع في الرسالة المتقدمة.
و(البديع): المبدع للشيء على غير مثال فهو فعيل بمعنى فاعل ويطلق على الشيء المبدع فهو بمعنى مفعول وإطلاقه على الله تعالى صحيح بالمعنى الأوّل، مستحيل بالمعنى الثاني.
و(الهادي): يطلق على الدّال على الطريقة الموصلة إلى المطلوب، وعلى خالق الهداية في القلب وهو بالمعنى الأول مشترك بين الله وأنبيائه وأوليائه وكل داع إليه تعالى من خلقه، وهو المراد هنا، وبالمعنى الثاني خاص به تعالى.
و(البيان): الإيضاح.
و(المهيع) الطريق والرشاد الصواب.
وفي ذكر (البديع) و(بيان) براعة استهلال وهي أن يذكر المتكلم في أول كلامه ما يشعر بمقصوده كما يأتي في الفنّ الثالث.
قال:
أمدَّ أَرباَب النُّهَى ورَسمَا = شمَس البَيَان في صُدُورِ العُلَمَا
أقول:
(الإمداد): إعطاء المدد، وهو الزيادة في الخير.
و(الأرباب): جمع رب، والمراد به هنا الصاحب.
و(النهى) جمع نهية وهي العقل. والرسم هنا عبارة عن الإثبات والبيان المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير وإضافته لما قبله من قبيل لجين الماء ويحتمل تشبيه البيان بالنهار ففيه مكنية وتخييلية. ويحتمل استعارة الشمس لقواعد علم البيان فالاستعارة تحقيقية.
ومعنى كون البيان كالشمس أنه يظهر به غيره، وهو المعاني كما أن الشمس يظهر بها غيرها وإن كان الظهور الأول معنويا والثاني حسيا أي باعتبار المتعلق فيهما والرسم لمعنى البيان لا له.
والـ(صدور): جمع صدر مرادا به هنا القلب أي اللطيفة فهو مجاز بمرتبتين.
وأل في العلماء للكمال أي العاملين، وفيه تنبيه على أن العلم لا يستقر ولا يثبت إلا في قلب تخلى عن الرذائل لمصادفته قلباً خالياً فيتمكن؛ فإن الحكمة إذا لم تجد القلب كذلك فإنها ترجع من حيث أتت.
قال:
فأبصروا معجزة القُرْآنِ = واضحةً بساطعِ البرهانِ
أقول: (الفاء) تفريعيّة والمراد (بالإبصار) هنا القلبي أي النظر بعين البصيرة والمعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدّي فإضافته لما بعده بيانية إذ المراد به النظم المعجز وإن كان يطلق بالاشتراك اللفظي على الصفة القديمة أيضا فالإضافة قرينة معينة، وقوله (بساطع البرهان) من إضافة الصفة للموصوف أي البرهان الساطع أي الظاهر والبرهان العقلي قياس مركب من قضايا يقينية والمراد به هنا ما يعم النقلي، ولا شك أن كون القرآن من كلام الله تعالى الناشئ عن الإعجاز المفهوم من معجزة ثابت بالبراهين. أما الأول فكقولنا هذا الكلام معجز وكل معجز ليس من تأليف المخلوق فيكون من تأليف الخالق إذ لا واسطة.
وأما الثاني وإن ترتب على الأول فكقوله تعالى- {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن}- الآية.
قال:
وَشَاهَدُوا مَطَالعَ الأنوارِ = وما احتوتْ عليهِ منْ أسرارِ
أقول:
(شاهدوا) معطوف على أبصروا فهو من ثمرات رسم البيان أيضا والمراد بالمشاهدة بعين البصيرة والمطالع جمع مطلع وهو محل الطلوع والأنوار جمع نور وهو ما به ظهور الأشياء والمراد به هنا العلم لأنه به تظهر المعلومات والأسرار جمع سرّ وهو المعنى الخفي.
ومعنى البيت أنهم بواسطة إمعان النظر الناشئ عما رسم في قلوبهم شاهدوا معاني كلمات القرآن التي هي كمطالع الأنوار الحسية بجامع ما ينشأ عن كلّ من النور محسوسا في الثاني ومعقولا في الأول وشاهدوا ما اشتملت عليه تلك الأنوار أي العلوم من أسرار أي نكات خفية إذ خبايا القرآن وخفاياه تقف دون آخرها العقول بدليل وما يعلم تأويله إلا الله وإدراك بعضها إنما يكون بالتنوير جعلنا الله من أهله.
قال:
فنزَّهوا القلوبَ في رياضِه= وأورَدُوا الفِكْرَ على حِيَاضهِ
أقول: (الرياض) جمع روضة، والمضاف إليه ضمير القرآن على تقدير مضاف هو معاني ولما كانت النفوس الناطقة تنتعش باقتناص المعاني كما تنتعش بالأقوات الأشباح والمباني شبه معاني القرآن بالرياض بجامع تنزه النفس الناطقة بملابستها كتنزهه القالب الجسماني بالرياض المحسوسة فإضافة رياضه من قبيل لجين الماء مع مراعاة المضاف المتقدّم كإضافة حياض بعده لما بعده وإن كان المقصود نوعا من المتوسط بين المتضايفين.
و(الفكر) حركة النفس في المعقولات وحركتها في المحسوسات تخييل.
و(الحياض): جمع حوض وقعت واوه بعد كسرة قلبت ياء أي على معانيه التي هي كالحيض المحسوسة بجامع شفاء الصدر في كل منهما، ولا يخفى عليك تفريع هذا البيت على ما قبله.
قال:
ثم صـلاةُ اللهِ ما ترنمَّـا = حادٍ يسوقُ العيسَ في أرضِ الحِمَا
على نبيٍّنا الحبيبِ الهَادِي = أجلِّ كلِّ ناطقٍ بالضَّادِ
محمدٍ سيّدِ خلقِ اللهِ = العربيٍّ الطاهرِ الأوًّاهِ
أقول:
(الصلاة) لغة: العطف فإن أضيف إلى الله تعالى سمي رحمة أو إلى الملائكة سمي استغفارا أو إلى غيرهما سمي دعاء فهي مقولة على هذه المعاني بالاشتراك المعنوي.
و(الترنم) التغني.
و(العيس): الإبل، وحاديها: سائقها المغني لها ليحصل لها نشاط في السير.
و(الحمى) الممنوع من قربه والمراد به أرض الحجاز لمنع الكفار من الإقامة بها، والمقصود طلب تأبيد الصلاة بجملتها لا التأقيت.
و(النبي): إنسان أوحي إليه بشرع فإن أمر بتبليغه سمي رسولا أيضا وهو بالهمز من النبأ أي الخبر فيصح أن يكون بمعنى فاعل باعتبار أنه مخبِر بكسر الباء عن الله عز وجل أو بمعنى مفعول باعتبار أن جبريل أخبره عن الله تعالى، و(بالياء) من النبوة وهي الرفعة فيصح أن يكون بمعنى مفعول لأنه مرفوع الرتبة عن غيره أو فاعل لرفعه غيره إذ ما من مرفوع إلا وباب رفعته النبي-صلى الله عليه وسلم- والحبيب يصح أن يكون بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول والهادي المرشد غيره وأجل بمعنى أعظم وكل ناطق بالضاد أشار به لقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما روي عنه متكلما فيه بالوضع ((أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش)) ومقصوده الثناء على المصطفى- صلى الله عليه وسلم- بكمال فصاحته وفي بعض النسخ:
*على نبي اصطفاه الهادي* أجل.. إلخ .
و(محمد) علم على ذاته -صلى الله عليه وسلم- وسيد خلق الله أي أفضلهم وأشرفهم على الإطلاق بتفضيل من المولى سبحانه وتعالى بدليل ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) وأما ما ورد من الأحاديث الدالة على نهيه عن تفضيله على غيره من الأنبياء فأجابوا عنها بأجوبة منها أنه قال ذلك تواضعا منه-صلى الله عليه وسلم-والعربي نسبة إلى العرب والطاهر المنزه حسا ومعنى عن شائبة وصف مخلّ بشيء من كماله-صلى الله عليه وسلم- صغيرا كان أو كبيرا قبل النبوّة وبعدها عمدا أو سهوا والأوّاه كثير التأوّه من خشية الله تعالى وقد ورد أنه كان يسمع لصدره -صلى الله عليه وسلم- أزيز كأزيز المرجل أي غليان كغليان القدر لأن الخوف على قدر المعرفة وهو أعرف خلق الله تعالى بالله.
قال:
ثم على صاحبهِ الصِّدِّيقِ = حبيبهِ وعمرَ الفاروقِ
ثم أبي عمروٍ إمامِ العابدين = وسطوةِ اللهِ إمامِ الزاهدين
أقول : (صاحب) بمعنى صحابي وهو من اجتمع به-صلى الله عليه وسلم- مؤمنا به بعد نبوّته حال حياته اجتماعا متعارفا وأما قولهم ومات على ذلك فبيان لثمرة الصحبة إذ تحققها لا يتوقف على ذلك و(الصدّيق) لقب لسيدنا أبي بكر-رضى الله عنه- واسمه عبد الله وهو قرشي يلتقي مع النبي -صلى الله عله وسلم- في مرة بن كعب من كلامه -رضى الله عنه- أكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور وأصدق الصدق الأمانة وأكذب الكذب الخيانة وكانرضى الله عنه- يأخذ بطرف لسانه ويقول هذا الذي أوردني الموارد وكان يشمّ من فيه رائحة الكبد المشويِّ لشدّة خوفه -رضى الله عنه-( وعمر الفاروق) هو سيدنا عمر بن الخطاب-رضى الله عنه- لقب بالفاروق لفرقه بين الحق والباطل يجتمع نسبه مع النبي-صلى الله عليه وسلم- في كعب، من كلامه -رضي الله عنه-: (من خاف من الله لم يشف غيظه ومن اتقى الله لم يصنع ما يريد)، وكان يأخذ اللبنة من الأرض ويقول: "يا ليتني كنت هذه اللبنة، ليتني لم أخلق، ليت أمي لم تلدني، ليتني لم أك شيئاً، ليتني كنت نسيا منسيّاً"، وكان يحمل جراب الدقيق على ظهره للأرامل والأيتام فقال له بعضهم: دعني أحمله عنك، فقال: (ومن يحمل عني يوم القيامة ذنوبي؟!)-رضى الله عنه-.
و(أبو عمرو) المراد به سيدنا عثمان بن عفان-رضى الله عنه- يجتمع نسبه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في عبد مناف، وكان -رضى الله عنه- شديد الحياء وكان يصوم النهار ويقوم الليل إلا هجعة من أوّله وكان يختم القرآن في ركعة واحدة كثيرا وكان إذا مرّ على المقبرة بكى حتى يبلّ لحيته -رضي الله عنه-.
و(سطوة الله إمام الزاهدين): المراد به سيدنا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه وعبّر عنه بالسطوة لشدّة بأسه على أهل الزيغ وبما بعده لشدّة إعراضه عن الدنيا وكان رضي الله عنه يقول: (الدنيا جيفة فمن أراد منها شيئاً فليصبر على مخالطة الكلاب) وكان يخاطب الدنيا ويقول: (يا دنيا غرّي بغيري فقد طلّقتك ثلاثا عمرك قصير ومجلسك حقير وخطرك كبير آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق)، وكان يقول: (ما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحا وما فاتك منها فلا تأس عليه حزنا وليكن همك فيما بعد الموت) -رضي الله عنه-.
قال:
ثم على بقيةِ الصحابة = ذوِي التُّقَى والفضلِ والإنابة
والمجدِ والفُرصَةِ والبَراعة = والحزمِ والنجدةِ والشجاعة
ما عكفَ القلبُ على القرآنِ = مرتِقيًا لِحَضرةِ العِرْفَان
أقول: (التقى) من قولهم وقاه فاتقى والوقاية الحفظ والمتقي من يقي نفسه أي يحفظها عما يضرها في الآخرة وللتقوى مراتب الأولى التوقي عن العذاب الأبدي وهي حاصلة بعدم الشرك بالله تعالى والثانية التنزه عن كل مأثم فعلا أو تركا والثالثة التنزه عما يشغل السر من الأكوان عن الحق -سبحانه وتعالى- وهذا القسم مطلوب للمولى من عبيده بقوله اتقوا الله حق تقاته لأنه تعالى لا يقبل على القلب المشترك.
و(الفضل): الزيادة في الخير.
و(الإنابة): الرجوع إليه سبحانه وتعالى.
و(المجد): الكرم.
و(الفرصة): من قولهم فرصت الرجل وأفرصته إذا أعطيته فهي بمعنى العطية.
و(البراعة): من برع الرجل بالفتح والضم براعة إذا فاق أصحابه في العلم وغيره.
و(الحزم): ضبط الأمر بالاتفاق وحسن التدبير.
و(النجدة): الإعانة بسرعة وتطلق على الشجاعة فعطف ما بعدها على هذا عطف مرادف ومغاير على الأول.
و(الشجاعة): شدة القلب عند البأس.
و(العكوف) الإقامة والقرآن يطلق على الصفة القديمة وليس مرادا هنا وعلى النظم المعجز الدال على متعلق الصفة القديمة لا عليها نفسها على التحقيق خلافا لظاهر عبارات جمهور المتكلمين وهو المراد هنا وبين على والقرآن مضاف وهو معاني ومعنى الإقامة على المعاني الإقامة على التأمل فيها فإن ذلك هو العروة الوثقى في الوصول إلى حالة يقف دون أولها سليمو العقول وهو ما أشار إليها بقوله مرتقيا إلخ وليس مقصوده بما عكف التقييد بل المقصود هنا التأبيد.
قال:
هذا وإنَّ دُرَرَ البيانِ= وغُرَرَ البديعِ والمعانِي
تهدِي إلى مواردٍ شريفة = ونُبَذٍ بديعةٍ لطيفة
مِن علمِ أسرارِ اللِّسانِ العربي = ودَرْكِ ما خُصَّ بهِ من عجَبِ
لأنَّه كالروحِ للإعرابِ = وهْوَ لعِلمِ النحوِ كاللُّبابِ
أقول: لفظة (هذا) خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر هذا أو مبتدأ والخبر محذوف أي هذا كما ذكر وهو للانتقال من كلام إلى آخر، ويسمى الاقتضاب لعدم الملائمة بين المنتقل عنه والمنتقل إليه فإن كانت مناسبة سمي تخلصا كما يأتي الكلام على ذلك في فن البديع إن شاء الله تعالى.
والواو في (وإنَّ): واو الحال، و(درر البيان): أراد بها مسائل علم البيان المعنيّ به إدراك المسائل على سبيل الاستعارة المصرحة و(غرر البديع) والمعاني كذلك نظرا للأصل في معنى الغرة ويحتمل أن يكون المراد بالبيان وتالييه المسائل فالإضافة من قبيل لجين الماء وسيأتي تحقيق معنى العلم في أول الفن الأول و(تهدي) توصل والموارد جمع مورد مرادا به المعنى سمي بذلك لورود الأفكار عليه لتشتفي من ظمأ الجهل كالورد المحسوس الشافي من حرارة الكبد فالموراد استعارة مصرحة ونبذ جمع نبذة مرادا بها بعض المعنى.
و(بديعة) بمعنى حسنة ولطيفة دقيقة ومن تبعيضية وعلم اللسان العربي علم اللغة وأسراره دقائقه ودرك بمعنى إدراك معطوف على موارد وما واقعة على المعاني الدقيقة التي خص بها اللسان العربي ومن عجب بيان لها والعجب بمعنى العجيب أي ما يتعجب منه للطافته.
وقوله (لأنه) أي المذكور من البيان وتالييه.
ومراده بـ(الإعراب) المعرب، ولباب كل شيء خالصه، ومعنى كون هذه الفنون أي مؤداها كالروح للمعرب من الكلمات أنها موصلة إلى معرفة المزايا الزائدة على معاني الكلمات الأصلية التي هي من خواص التراكيب كالمطابقة لمقتضى الحال، وهذا هو محط نظر البلغاء فالكلمات المعربة المجردة عن هذه الخواص كالأشباح الخالية عن الأرواح فليست معتبرة بدونها كما أن الجسم لا يعتبر بدون الروح فالخواص للكلمات بمنزلة الأرواح للأشباح ففي كلامه الحكم على الشيء بحكم مؤداه ويحتمل أن يكون المراد بالإعراب العلم الباحث عنه وهو النحو فيكون الحكم على البيان وما معه لا على المؤدى ويكون المصنف قد جعل له منزلتين الأولى منزلة الروح من الجسم والثانية منزلة اللباب من القشر ومراده بهذه الأبيات مدح هذا الفن المتضمن مدح كتابه وهذا الفن جدير بذلك إذ لا تدرك دقائق التفسير وما اشتمل عليه من الاعتبارات اللطيفة إلا بواسطة مراعاة هذا الفن فهو من أعظم آلات العلوم الشرعية ولذلك كان الاشتغال به فرض كفاية.
واعلم أن تعريف كل علم يأتي في أوله، وموضوعه الكلمات العربية من الحيثيات الآتية، والواضع له الشيخ عبد القاهر، والاسم يأتي في آخر المقدمة، ومادته من أسرار العربية، وتقدم حكمه وستأتي مسائل كل، وفضيلته إدراك معجزة القرآن به، ونسبته تقدمت في قوله (لأنه كالروح.. الخ)، وفائدته تأتي عند قوله (وحافظ.. الخ).
قال:
وقد دعا بعض من الطلابِ = لرَجَزٍ يهدي إلى الصوابِ
فجئته برجَزٍ مفيدِ = مهذّبٍ منقَّحٍ سديدِ
ملتقِطا من دُررِ التلخيص = جواهرا بديعةَ التخليصِ
سلكتُ ما أبْدَى منَ الترتيبِ = وما ألوتَ الجهد في التهذيبِ
أقول: (دعا) بمعنى طلب، فاللام في قوله (لرجز) زائدة، والرجز نوع من الشعر أجزاؤه مستفعلن ستّ مرات تأتي دائرة المشتبه منفكا عن أوّلها من سببي مفاعيلن.
وهذه المنظومة وما أشبهها من مشطور الرجز وفي كونه عروضا أو ضربا أقوال تعلم من علم العروض.
و(الصواب) كلام طابق حكمه الواقع من غير اعتبار المطابقة من جانب بخصوصه بخلاف الحقّ فّإنه ما طابق الواقع باعتبار نسبة الواقع إليه وبخلاف الصدق فإنه ما طابق الواقع باعتبار نسبته إلى الواقع ويقابل الأول الخطأ والثاني الباطل والثالث الكذب.
و(رجز مفيد) يحتمل أنه مجاز عقلي مما بني الفعل فيه للفاعل وأسند إلى المفعول كعيشة راضية لأن الرجز مفاد لا مفيد ويحتمل أن يكون من باب الاستعارة بالكناية والتخييلية بأن جعل الإنسان المضمر المرموز إليه بمفيد أو التشبيه المضمر في النفس أو الرجز المدّعى أنه من أفراد الإنسان المشبه به استعارة بالكناية على المذاهب فيها وإثبات اللازم وهو مفيد استعارة تخييلية.
و(مهذب) أي مصفى من شائبة ما لا فائدة فيه. و(منقح) بعده بمعناه.
و(سديد) بمعنى أنه لا خلل فيه وأتى به لدفع توهم خلل في المعنى ناشئ عن الإيجاز الناشئ عن هذه الأوصاف المصرّح بها فيما بعد وفيه مدح لتأليفه ليقبل فيحصل به النفع، وهذه عادة المصنفين ولا بأس بذلك لصحة الغرض.
و(التلخيص) هو مختصر الخطيب القزويني للقسم الثالث من المفتاح للسكاكي. ودرره مسائله التي يشتمل عليها فالدرر أي الجواهر أو استعمالها استعارة تصريحية، ومن تبعيضية وجواهر معمول لملتقطا وبديعة التخليص حسنته.
ومعنى البيت أنه لم يأخذ جميع مسائل التلخيص وإنما أخذ بعضها وقوله : سلكت ما أبدى من الترتيب. يعني أنه رتب مؤلفه ترتيبا مثل ترتيب تلخيص المفتاح.
وقوله: (وما ألوت الجهد) أي ما منعته والجهد بالضم الطاقة والتهذيب التصفية.
قال:
سمّيته بالجوهرِ المكنونِ = في صدف الثّلاثة الفنونِ
واللهَ أرجوا أن يكونَ نافِعا = لكل من يقرؤه ورافِعا
وأن يكون فاتحا للبابِ = لجملةِ الإخوانِ والأصحابِ
أقول: ضمير سميته يرجع إلى المؤلف المفهوم من السياق وسمى يتعدّى لمفعولين تارة بنفسه وتارة للثاني بالباء كما هنا.
و(الجوهر.. إلى آخر البيت) هو اسم هذا الكتاب، والمكنون المستور والصدف وعاء الجوهر والثلاثة بدل مما قبله والفنون جمع فنّ وهو النوع من كلّ شيء والمراد هنا علم المعاني والبيان والبديع والرجاء الأمل وقدّم المعمول للاختصاص وقوله يقرؤه أي على غيره أو لغيره ورافعا له على غيره من أقرانه وقوله (للباب): أي باب الفهم للكتب المطولة في هذا العلم ولا يخفى ما فيه من التواضع حيث جعل كتابه وسيلة غير مقصود.
و(الإخوان): جمع أخ في الله لا من النسب، وجمعه من النسب إخوة.
و(الأصحاب): جمع صاحب ومقصوده تعميم النفع، وقد أخبرنا شيخنا سيدي عبد الله المغربي القصري عن أشياخه أن المصنف كان مجاب الدعوة، وقد شاهدنا ذلك نفعنا الله به.