(1)
لما كانَ التوحيدُ الذي هو معنى شهادةِ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ مشتملاً على الإيمانِ بالرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مستلزِمًا له،
وذلكَ هو الشهادتانِ، ولهذا جعلَهُما النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركنًا واحدًا في قولِه: ((بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ؛ شهادةِ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأَنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وصومِ رمضانَ، وحجِّ البيتِ مَنِ استطاعَ إليهِ سبيلاً)) نَبَّه في هذا البابِ على ما تضَمَّنَهُ التوحيدُ، واستلزمَهُ من تحكيمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواردِ النزاعِ؛ إذ هذا هو مُقْتَضَى شهادةِ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ، ولازِمُها الذي لا بُدَّ منه لكلِّ مؤمنٍ، فإنَّ مَن عَرَفَ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ، فلا بد من الانقيادِ لحكمِ اللهِ والتسليمِ لأمرِهِ الذي جاءَ من عندِهِ على يدِ رسولِه محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فمَن شَهِدَ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ،
ثم عدلَ إلى تحكيمِ غيرِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواردِ النزاعِ، فقد كَذَبَ في شهادتِه.
وإنْ شئتَ قلتَ: لمَّا كانَ التوحيدُ مبنيًّا على الشهادتينِ؛ إذ لا تَنْفَكُّ إحداهما عنِ الأخرى لتلازُمِهمَا، وكانَ ما تقدَّمَ من هذا الكتابِ في معنى شهادةِ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ التي تَتَضَمَّنُ حقَّ اللهِ على عبادِه، نَبَّهَ في هذا البابِ على معنى شهادةِ أَنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، التي تتضمنُ حَقَّ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنها تتضمنُ أَنَّهُ عبدٌ لا يُعْبَدُ، ورسولٌ صادقٌ لا يُكَذَّبُ، بل يُطاعُ ويُتَّبَعُ؛ لأنه المبلِّغُ عنِ اللهِ تعالى.
فلَهُ عليه الصلاةُ والسلامُ مَنْصِبُ الرسالةِ والتبليغِ عن اللهِ، والحكمِ بينَ الناسِ فيما اختلفُوا فيهِ؛ إذ هو لا يَحْكُمُ إلا بحكمِ اللهِ، وتقديم محبتِه على النفسِ والأهلِ والمالِ والوطنِ، وليسَ لَهُ مِنَ الإلهيةِ شيءٌ، بل هُوَ عبدُ اللهِ ورسولُهُ، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ لمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}[الجن: 19] وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)).
ومِن لوازمِ ذلكَ متابعتُه وتحكيمُه في مواردِ النزاعِ، وتركُ التحاكمِ إلى غيرِه، كالمنافقينَ الذين يَدَّعُونَ الإيمانَ به، ويَتَحَاكَمُونَ إلى غيرِهِ، وبهذا يَتَحَقَّقُ العبدُ بكمالِ التوحيدِ وكمالِ المتابعةِ، وذلك هو كمالُ سعادَتِه، وهو معنى الشهادتينِ.
إذَا تبيَّنَ هذا فمعنى الآيةِ المُتَرْجَمِ لها: أَنَّ اللهَ تباركَ وتعالى أنكرَ على مَنْ يَدَّعي الإيمانَ بما أنْزلَ اللهُ على رسولِه، وعلى الأنبياءِ قبلَهُ، وهو مَعَ ذلك يريدُ أَنْ يتحاكَمَ في فصلِ الخصوماتِ إلى غيرِ كتابِ اللهِ وسنةِ رسولهِ، كما ذكرَ المصنفُ في سببِ نزولها، قالَ ابنُ القيِّمِ: (والطاغوتُ: كلُّ مَن تُعُدِّيَ بهِ حَدُّه من الطُّغْيانِ، وهو مجاوزةُ الحدِّ، فكلُّ ماتحاكَمَ إليهِ متنازعانِ غيرَ كتابِ اللهِ وسنةِ رسولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو طاغوتٌ إذ قد تُعُدِّيَ بهِ حدُّه.
ومِنْ هذا كلُّ مَن عَبَدَ شيئًا دونَ اللهِ فإنَّما عبَدَ الطاغوتَ، وجاوزَ بمعبودِهِ حدَّهُ فأعطَاهُ العبادةَ التي لا تنبغِي لَهُ، كما أَنَّ مَن دعَا إلى تحكيمِ غيرِ اللهِ تعالى ورسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد دعَا إلى تحكيمِ الطاغوتِ.
وتعلَّلَ تصديرُه سبحانَه الآيةَ منكِرًا لهذا التحكيمِ على مَنْ زعَمَ أَنّه قَدْ آمَنَ بما أنزلَهُ اللهُ على رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى مَن قَبلَهُ، ثم هو مع ذلك يَدْعُو إلى تحكيمِ غيرِ اللهِ ورسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويَتَحَاكَمُ إليهِ عندَ النزاعِ، وفي ضِمنِ قولِهِ: {يَزْعُمُون} نفيٌ لمَا زعَمُوهُ من الإيمانِ، ولهذا لم يقُلْ: ألم تَرَ إلى الذينَ آمنُوا، فإنهم لو كانُوا من أهلِ الإيمانِ حقيقةً لم يُرِيدوا أَنْ يَتَحَاكَموا إلى غيرِ اللهِ تعالى ورسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولم يَقُلْ فيِهِم :(يَزْعُمونَ) فإنَّ هذا إنمَّا يقالُ غالبًا لمنِ ادَّعَى دعوَى هو فيها كاذبٌ، أو منزَّلٌ منزلةَ الكاذبِ، لمخالفتِه لمُوجَبِهَا وعملِه بمَا يُنافِيها).
قال
ابنُ كثيرٍ: (والآيةُ ذامَّةٌ لمن عدَلَ عنِ الكتابِ والسنةِ وتحاكَمَ إلى ما سواهُما من الباطلِ، وهو المرادُ بالطَّاغُوتِ ههنا).
وقولُهُ تعالى: {وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} أي: بالطاغوتِ، وهو دليلٌ على أَنَّ التحاكُمَ إلى الطاغوتِ مُنافٍ للإيمانِ، مضادٌّ لهُ، فلا يَصِحُّ الإيمانُ إلا بالكفرِ به، وتركِ التحاكمِ إليهِ، فمَنْ لم يكفرْ بالطاغوتِ لم يؤمنْ باللهِ.
وقولُه: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} أي: لأَنَّ إرادةَ التحاكُمِ إِلى غيرِ كتابِ اللهِ وسنةِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن طاعةِ الشيطانِ، وهو إنمَّا يدعُو أحزابَهُ ليكونُوا من أصحابِ السعيرِ.
وفي الآيةِ دليلٌ على أَنَّ تركَ التحاكُمِ إلى الطاغُوتِ،
الذي هو ما سِوى الكتابِ والسنةِ من الفرائضِ وأَنّ المتحاكِمَ إليهِ غيرُ مؤمنٍ، بل ولا مُسْلِمٍ.
وقولُه تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا}[النساء:60] أي: إذا دُعُوا إلى التحاكُمِ إلى ما أنْزَلَ اللهُ وإلى الرّسُولِ أعْرَضُوا إعراضًا مُسْتَكْبِرِينَ، كما قالَ تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ}[النور:48] قال ابنُ القيِّمِ: (هذا دليلٌ على أَنَّ مَن دُعِيَ إلى تحكيمِ الكتابِ والسنةِ، فلم يَقْبَلْ، وأَبَى ذلك أَنَّهُ من المنافقينَ.
و{يَصُدُّونَ} هنا لازمٌ لا مُتَعَدٍّ، وهو بمعنى يُعْرِضُونَ، لا بمعنى يَمْنَعونَ غيرَهم، ولهذا أتَى مصدرُه على صُدُودٍ، ومصدرُ المُتَعَدِّي (صَدًّا).
فإذا كانَ المُعرِضُ عن ذلك قد حكَمَ اللهُ سبحانَه بنفاقِهم، فكيفَ بمَنِ ازْدَادَ إلى إعراضِه منْعُ الناسِ من تحكيمِ الكتابِ والسُّنّةِ، والتحاكُمِ إليهمَا بقولِهِ وعملِهِ وتصانيفِه؟! ثم يزعُمُ مَعَ ذلك أَنَّهُ إنمَّا أرادَ الإحسانَ والتوفيقَ: الإحسانَ في فعلِهِ ذلك، والتوفيقَ بينَ الطاغوتِ الذي حَكَّمَهُ، وبينَ الكتابِ والسُّنَّةِ).
قلتُ: وهذا حالُ كثيرٍ ممن يدَّعي العلمَ والإيمانَ في هذهِ الأزمانِ، إذا قيل لهم: تَعَالَوْا نَتَحَاكَمْ إلى ما أنزلَ اللهُ وإلى الرسولِ رأيْتَهُم يَصُدُّونَ وهم مُسْتَكْبِرونَ، ويَعْتَذِرونَ أنهَّم لا يَعْرِفُون ذلك، ولا يَعْقِلونَ، بل لعَنَهمُ اللهُ بكفرِهم فقليلاً ما يُؤْمِنون.
وقولُه تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} قالَ ابنُ كثيرٍ: (أي: فكيفَ بهم إذا ساقَتهم المقاديرُ إليكَ في المصائبِ بسببِ ذنوبِهم، واحتاجُوا إليك في ذلك).
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (قيل: المصيبةُ فَضِيحتُهُم إذا أُنزِلَ القرآنُ بحالِهِم، ولا ريبَ أَنَّ هذا أعظمُ المصيبةِ والإضرارِ، فالمصائبُ التي تُصِيبُهم بما قدَّمَتْ أيديهِم في أبدانِهِم وقلوبِهِم وأديانِهِم بسببِ مخالفةِ الرَّسُولِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، أعظمُها مصائبُ القلبِ والدِّينِ، فيرَى المعروفَ مُنكرًا، والهُدى ضَلالاً، والرشادَ غَيًّا، والحقَّ باطلاً، والصلاحَ فسادًا، وهذا من المصيبةِ التي أُصيبَ بها في قلبِهِ، وهو الطبعُ الذي أوجَبَهُ مخالفةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحكيمُ غيرِه).
قالَ سفيانُ الثوريُّ في قولِهِ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} قال: (هي أَنْ تُطبَعَ على قلوبهِم).
وقولُهُ تعالى:
{ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}[النساء:61].
قال ابنُ كثيرٍ: (أي: يَعْتَذِرونَ ويَحْلِفُون إنْ أرَدْنَا بذَهابِنا إلى غيرِك إلا الإحسانَ والتوفيقَ، أي: المداراةَ والمصانعةَ).
وقال غيرُهُ:
( {إِلاَّ إِحْسَانًا}أي: لا إساءةً، {وتوفيقًا}أي: بينَ الخَصْمَيْنِ، ولم نُرِدْ مُخالفةً لكَ، ولا تَسَخُّطًا لحكمِكَ).
قُلْتُ: فإذا كانَ هذا حالَ المنافِقين يَعْتَذِرونَ عن أمرِهم، ويُلَبِّسونَهُ؛ لئلاَّ يُظَنَّ أَنهَّم قصَدُوا المخالفةَ لحكمِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو التسخطَ، فكيفَ بِمَنْ يُصَرِّحُ بما كان المنافقون يُضْمِرُونَه حتى يَزْعُمَ أَنَّهُ مِنْ حُكمِ الكتابِ والسنَّة في مواردِ النِّزاعِ، فهو إمَّا كافرٌ وإمَّا مبتدِعٌ ضَالٌّ!؟
وفعلُ المنافقينَ الذي ذكَرَهُ اللهُ عنهم في هذهِ الآيةِ هو بعينِهِ الذي يَفْعَلُه المُحَرِّفُونَ للكَلِمِ عن مواضِعِه الذين يقولُون: إنما قصَدْنَا التوفيقَ بينَ القواطعِ العقليةِ بزعمِهم التي هي الفلسفةُ والكلامُ، وبينَ الأدلةِ النقليَّةِ، ثم يجعلونَ الفلسفةَ التي هي سفاهةٌ وضلالةٌ الأصلَ، ويَرُدُّون بها ما أنزلَ اللهُ على رسولِهِ من الكتابِ والحكمةِ، زَعَمُوا أنَّ ذلك يخالفُ الفلسفةَ التي يسمُّونها القواطعَ، فَتَطَلَّبوا له وجوهَ التأويلاتِ البعيدةِ، وحملوهُ على شواذِّ اللغةِ التي لا تَكادُ تُعرَفُ.
وقولُه تعالى: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} قالَ ابنُ كثيرٍ: (أي: هذا الضَّرْبُ مِن النَّاسِ هم المنافقون، واللهُ أعلمُ بما في قلوبِهِم، وسيَجْزِيهم على ذلكَ، فإنّه لا تَخْفَى عليه خافيةٌ، فاكتفِ به يا محمدُ فيهم، فإنّه عالمٌ ببواطِنِهم وظواهرِهم).
وقولُه تعالى:
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا}[النساء:62]
قالَ ابنُ القيمِ: (أمرَ اللهُ رسولَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم بثلاثةِ أشياءَ:
أحدُها: الإعراضُ عنهم إهانةً لهم، وتحقيرًا لشأنِهِم، وتصغيرًا لأمرِهِم، لا إعراضُ مُتاركةٍ وإهمالٍ، وبهذا يُعلمُ أنها غيرُ منسوخةٍ.
الثاني: قولُه:{وعِظْهُمْ}وهوَ تخويفُهم عقوبةَ اللهِ وبأسَه ونِقْمتَه إن أصَرُّوا على التحاكمِ إلى غيرِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أُنزِلَ عليه.
الثالثُ: قولُه: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} أي: يَبْلُغُ تأثيرُه إلى قلوبِهم، ليسَ قولاً لينًا لا يتأثرُ به المقُولُ له، وهذه المادةُ تدلُّ على بلوغِ المرادِ بالقولِ، فهو قولٌ يُبْلَغُ به مرادُ قائِلِهِ من الزَّجْرِ والتخويفِ ويُبْلَغُ تأثيرُه إلى نفسِ المقولِ له، ليسَ هو كالقولِ الذي يمرُّ على الأذُنِ صَفْحًا وهذا القولُ البليغُ يَتَضَمَّنُ ثلاثةَ أمورٍ:
أحدُها:
عِظَمُ معناه، وتَأَثُّرُ النفوسِ به.
الثاني:
فَخامةُ ألفاظِه وجَزالتُها.
الثالثُ:
كيفيةُ القائلِ في إلقائِهِ إلى المخاطَبِ فإنّ القولَ كالسّهمِ،
والقلبَ كالقوسِ الذي يَدْفَعُه، وكالسّيفِ، والقلبَ كالسّاعدِ الذي يُضْرَبُ به.
وفي متعلَّق قولِه: {فِي أَنفُسِهِمْ} قولانِ:
أحدُهما: بقولِهِ {بَلِيغًا} أي: قولاً بليغًا في أنفسِهِم، وهذا حسنٌ من جهةِ المعنى، ضعيفٌ من جهةِ الإعرابِ؛ لأنَّ صفةَ الموصوفِ لا تَعْمَلُ فيما قبلَها.
والقولُ الثاني:
أنَّه متعلِّقٌ بـ{قُلْ}
وفي المعنى على هذا قولانِ:
أحدُهما:
قُلْ لهم في أنفسِهم خاليًا بهِم ليسَ معهم غيرُهم
، بل مُسِرًّا لهم النصيحةَ.
والثاني:
أنَّ معناه قُلْ لهم في معنى أنفسِهم،
كما يُقالُ: قل لفلانٍ في كَيْتَ وكَيْتَ، أي: في ذلكَ المعنى).
قلتُ: وهذا القولُ أحسنُ.
ثم قالَ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ}[النساء:63] قالَ ابنُ كثيرٍ: (أي: إنمَّا فُرِضَتْ طاعتُه على مَنْ أرسلهُ إليهم).
وقالَ ابنُ القيّمِ: (هذا تنبيهٌ على جلالةِ مَنْصِبِ الرّسالةِ وعِظَمِ شأنها، وأنّه سبحانَهُ لم يُرْسِلْ رسلَه عليهمُ الصلاةُ والسلامُ إلّا ليُطاعُوا بإذنه، فتكونُ الطاعةُ لهم لا لغيرِهم؛ لأنّ طاعتَهُم طاعةُ مُرْسِلِهِمْ، وفي ضمنِه أنَّ مَنْ كذَّبَ رسولَهُ محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَدْ كذَّبَ الرُّسُلَ).
والمعنى أنَّكَ واحدٌ منهم تَجِبُ طاعتُك، وتَتَعَيَّنُ عليهم كما وَجَبَتْ طاعةُ مَنْ قبلَك منَ المرسَلين، فإنْ كانوا قد أطاعُوهم كما زعَمُوا وآمَنُوا بهم، فما لهم لا يُطِيعونَك، ويُؤْمِنونَ بك؟!
والإذنُ ههنا هو الإذنُ الأمريُّ لا الكونيُّ؛ إذ لو كانَ إذنًا كونيًّا قدريًّا لَمَا تَخَلَّفتْ طاعتُهم، وفي ذِكرِهِ نكتةٌ وهي أَنَّه بنفسِ إرسالِهِ تَتَعَيَّنُ طاعتُه، وإرسالُه نفسُه إذنٌ في طاعتِه، فلا تتوقَّفُ على نصٍّ آخرَ سوى الإرسالِ بأمرٍ فيه بالطاعةِ، بل متى تَحَقَّقَتْ رسالتُهُ وجبتْ طاعتُه، فرسالتُه نفسُها متضَمِّنةٌ للإذنِ في الطاعةِ.
ويصحُّ أنْ يكونَ الإذنُ ههنا إذنًا كونيًّا قدريًّا،
ويكونَ المعنى: ليُطاعَ بتوفيقِ اللهِ وهدايتِهِ، فتُضَمَّنُ الآيةُ الأمرينِ؛ الشرعَ والقدَرَ، ويكونُ فيها دليلٌ على أنَّ أحدًا لا يطيعُ رسُلَه إلا بتوفيقِه وإرشادِه وهدايتِه، وهذا حسنٌ جدًّا.
والمقصودُ أنَّ الغايةَ من الرسلِ هي طاعتُهم ومتابعتُهم،
فإذا كانَتِ الطاعةُ والمتابعةُ لغيرِهم، لم تحصلِ الفائدةُ المقصودةُ من إرسالِهم.
وقولُه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}[النساء:63].
قالَ ابنُ القَيِّمِ: (لمّا علِمَ سبحانَه أنَّ المرسَلَ إليهِم لا بُدَّ لهم من ظلمٍ لأنفسِهِم، واتباعٍ لأهوائِهم، أرْشَدَهُم إلى ما يَدْفَعُ عنهم شرَّ ذلك الظلمِ ومُوجَبَه، وهو شيئانِ:
أحدُهما:منهم، وهو استغفارُهم ربَّهُم عزّ وجلَّ.
والثاني:من غيرِهم وهو استغفارُ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم إذا جاؤُوه، وانقادُوا له، واعْتَرفوا بظلمِهم، فمتى فعلُوا ذلك وجدُوا اللهَ توابًا رحيمًا يتوبُ عليهم فيمحو أثرَ سيئاتِهِم ويَقِيهِم شرَّها، ويَزِيدُهم معَ ذلك رحمتَه وبِرَّهُ وإحسانَه).
فإن قلتَ: فما حظُّ مَن ظَلَمَ نفسَه بعدَ موتِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذهِ الآيةِ؟ وهل كلامُ بعضِ الناسِ في دعوى المجيءِ إلى قبرِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والاستغفارِ عندَه، والاستشفاعِ بهِ، والاستدلالِ بهذه الآيةِ على ذلكَ صحيحٌ أم لا؟
قيلَ: أمّا حظُّ مَن ظَلمَ نفسَهُ بعدَ موتِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذهِ الآيةِ فالاستغفارُ، وأَنْ يتوبَ إلى اللهِ توبةً نَصُوحًا في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، ولا يُشْتَرَطُ في صحةِ التوبةِ المجيءُ إلى قبرِه، والاستغفارُ عندَه بالإجماعِ.
وأمّا المجيءُ إلى قبرِه، والاستغفارُ عندَه، والاستشفاعُ بهِ،
والاستدلالُ بالآيةِ على ذلك، فهو استدلالٌ على ما لا تدلُّ الآيةُ عليهِ بوجهٍ من وجوهِ الدلالاتِ؛ لأنّه ليسَ في الآيةِ إلا المجيءُ إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا المجيءُ إلى قبرِه؛ واستغفارُه لهم، لا استشفاعُهم به بعدَ موتِه، فعُلِمَ أَنَّ ذلك باطلٌ، يُوَضِّحُ ذلك أنَّ الصحابةَ الذين هم أعلمُ الناسِ بكتابِ اللهِ وسنّةِ نبيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما فهِموا هذا من الآيةِ، فعُلِم أنّ ذلك بدعةٌ.
وأكثرُ ما استدلَّ بهِ مَنْ أجازَ ذلك روايةُ العتبيِّ عن أعرابيٍّ مجهولٍ، على أنَّ القصةَ لا نَعْلَمُ لها إسنادًا.
ومثلُ هذا لو كانَ حديثًا، أو أثرًا عن صحابيٍّ لم يَجُزِ الاحتجاجُ به، ولم يَلْزَمْنَا حكمُهُ لعدمِ صحتِهِ، فكيفَ يجوزُ الاحتجاجُ في هذا بقصةٍ لا تَصِحُّ عن بدويٍّ لا يُعرَفُ؟!.
ثم قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء:64].
قال ابنُ القيِّمِ: (أقسمَ سبحانَهُ بأجَلِّ مُقْسَمٍ بهِ، وهو نفسُهُ عزَّ وجلَّ على أَنَّهُ لا يَثْبُتُ لهم الإيمانُ، ولا يكونونَ من أهلِه حتى يُحَكَّمَ لرسولهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جميعِ مواردِ النزاعِ، وفي جميعِ أبوابِ الدِّينِ فإنَّ لفظةَ (ما) من صيغِ العمومِ، ولم يَقْتَصِرْ على هذا حتى ضَمَّ إليه انشراحَ صدورِهِم بحكمِه، بحيثُ لا يَجِدُون في أنفسِهم حرجًا، وهو الضيقُ والحصرُ مِنْ حكمِه، بل يقبلونَ حكمَهُ بالانشراحِ، ويُقابلونَهُ بالقَبُولِ، لا يأخذونَهُ على إغماضٍ، و(لا)يَشْرَبُونه على قذًى، فإنَّ هذا مُنافٍ للإيمانِ، بل لا بُدَّ أَنْ يكونَ أخْذُهُ بقبولٍ ورِضًى وانشراحِ صدرٍ.
ومتى أرادَ العبدُ شاهدًا فلينظُرْ في حالِهِ، ويُطالِعْ قلبَه عندَ ورودِ حُكمِه على خلافِ هواه وغرضِه، أو على خلافِ ما قلَّدَ فيه أسلافَهُ من المسائلِ الكبارِ وما دونهَا {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}[القيامة: 14-15] فسبحانَ اللهِ! كم مِنْ حَزازةٍ في نفوسِ كثيرٍ من النصوصِ، وبوُدِّهم أَنْ لو لم تَرِدْ.
وكم من حرارةٍ في أكبادِهم منها، وكم من شَجًى في حُلوقِهِم من مورِدِها، ثم لم يَقْتَصِرْ سبحانَهُ على ذلكَ حتى ضَمَّ إليهِ قولَه: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فذكرَ الفعلَ مؤكِّدًا له بالمصدرِ القائمِ مقامَ ذكرِهِ مرتينِ، وهو الخضوعُ والانقيادُ لما حكَمَ به طَوْعًا ورِضًى وتسليمًا، لا قهرًا أو مصابرةً، كما يُسلِّمُ المقهورُ لمَنْ قهَرَهُ كَرْهًا، بل تسليمُ عبدٍ مطيعٍ لمولاهُ وسيدِه الذي هو أحبُّ شيءٍ إليه، يعلمُ أَنَّ سعادَتَه وفلاحَهُ في تسليماتِه) انتهى.
وقد وردَ في (الصحيحِ) أَنَّ سببَ نزولهِا قصةُ الزبيرِ لمّا اخْتَصَمَ هو والأنصاريُّ في شِراجِ الحَرَّةِ، ولكنّ الاعتبارَ بعمومِ اللفظِ لا بخصوصِ السببِ فإذا كان سببُ نزولِها مُخاصَمةً في مَسِيلِ ماءٍ قَضَى فيه رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقضاءٍ، فلم يرضَه الأنصاريُّ، فنَفَى تعالى عنه الإيمانَ بذلكَ، فما ظنُّكَ بمَنْ لم يَرْضَ بقضائِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحكامِه في أصولِ الدينِ وفروعِه؟!
بل إذا دُعُوا إلى ذلكَ توَلَّوا وهم مُعْرِضُونَ، ولم يَكْفِهِم ذلكَ حتى صَدُّوا الناسَ عنهُ، ولم يَكْفِهم ذلكَ حتى كفَّروا، أو بدَّعُوا مَن اتَّبعَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحكَّمَهُ في أصولِ الدينِ وفروعِه، ورضِيَ بحكمِه في ذلكَ، ولم يَبْغِ عنهُ حِوَلاً.
وقولُهُ تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} المعنى واللهُ أعلمُ أي: لو أوْجَبْنَا عليهم مثلَ ما أوْجَبْنَا على بني إسرائيلَ مِن قتلِهم أنفسَهم، أو خروجِهم من ديارِهم حينَ استُتِيبوا من عبادةِ العجلِ {مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} وهذا توبيخٌ لمَنْ لم يُحَكِّمِ الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواردِ الشِّجارِ، أي: نحنُ لم نكتبْ عليهم ذلكَ، بل إنمّا أَوْجَبْنَا عليهم مَا في وُسْعِهِم، فما لهم لا يُحَكِّمونكَ، ولا يَرْضَون بحكمِك؟!.
ثم قالَ تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (65) وَإِذًا لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْرًا عَظِيمًا (66) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا}[النساء:65،66].
قالَ ابنُ القيّمِ: (أخبرَ تعالى أَنهم لو فعلُوا ما يَعِظُهُم به، وهو أمرُهُ ونهيُهُ المقرونُ بوعدِهِ ووعيدِهِ لكانَ فعلُ أمرِهِ وتركُ نهيِه خيرًا لهم في دينِهِم ودنياهُم، وأشدَّ تثبيتًا لهم على الحقِّ، وتحقيقًا لإيمانِهِم، وقوةً لعزائِمِهِم وإراداتِهِم، وثَباتًا لقلوبِهِم عندَ جيوشِ الباطلِ، وعندَ وارداتِ الشبهاتِ المُضِلَّةِ، والشهواتِ المُرْدِيَةِ.
فطاعةُ اللهِ تعالى ورسولهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي سببُ ثباتِ القلبِ، وقوتُه قوةُ عزائمِه وإرادتِه، ونفاذُ بصيرتِه، وهذا دليلٌ على أنَّ طاعةَ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُثْمِرُ الهدايةَ، وثباتَ القلبِ عليها، ومخالفتَه تُثْمِرُ زَيْغَ القلبِ، واضطرابَه، وعدمَ ثباتِه).
ثم قالَ تعالى:
{وَإِذًا لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا}فهذه أربعةُ أنواعٍ من الجزاءِ المرتَّبِ على طاعةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أحدُها:
حصولُ الخيرِ المُطْلَقِ بها.
الثاني:
التثبتُ والقوةُ المتضمِّنُ للنصرِ والغَلَبةِ.
والثالثُ:
حصولُ الأجرِ العظيمِ لهم في الآخرةِ.
والرابعُ:
هدايتُهم الصراطَ المستقيمَ.
وهذه الهدايةُ هي هدايةٌ ثانيةٌ أوْجَبَتْها طاعةُ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فطاعتُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمرةُ الهدايةِ السابقةِ عليها
فهيَ محفوفةٌ بهدايتينِ:
هدايةٌ قبلَهَا:
وهي سببُ الطاعةِ.
وهدايةٌ بعدَها:
هي ثمرةٌ لها،
وهذا يدلُّ على انتفاءِ هذه الأمورِ الأربعةِ عندَ انتفاءِ طاعةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم قالَ تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا}[النساء: 68]).
قالَ ابنُ القيِّمِ: (فأخبرَ سبحانَهُ أَنَّ طاعتَهُ وطاعةَ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوجِبُ مُرافقةَ المُنْعَمِ عليهم، وهُمْ أهلُ السعادةِ الكاملةِ، وهم أربعةُ أصنافٍ:
-
النبيونَ وهم أفضلُهم.
-
ثم الصدِّيقونَ وهم بعدَهم في الدرجةِ.
-
ثم الشهداءُ.
-
ثم الصالحونَ فهؤلاءِ المُنعَمُ عليهم النعمةَ التامَّةَ، وهم السعداءُ الفائزونَ، ولا فلاحَ لأحدٍ إلا بموافقتِهم والكونِ معَهم، ولا سبيلَ إلى مرافقتِهم إلا بطاعةِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا سبيلَ إليها إلا بمعرفةِ سُنَّتِه وما جاءَ به، فدلَّ على أنَّ مَنْ عدِمَ العلمَ بسنَّتِه وما جاءَ به، فليسَ له إلى مرافقةِ هؤلاءِ سبيلٌ، بل هو ممَّنْ يَعَضُّ على يديهِ يومَ القيامة، ويقولُ: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً}).
قلتُ: مَا لمن لم يُحَكِّمِ الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواردِ النزاعِ إلى مرافقةِ هؤلاءِ المنعَمِ عليهم سبيلٌ، وكيفَ يكونُ له سبيلٌ إلى ذلكَ، وعندَهُ أنَّ مَن حَكَّمَ الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواردِ النزاعِ فهو إما زِنْدِيقٌ أو مُبْتَدِعٌ، وأنَّى له بطاعةِ اللهِ ورسولِهِ، وهذا أصلُ اعتقادِه الذي بنَى عليه دينَه، ومعَ ذلكَ يَحْسَبونَ أنهَّم مُهْتَدونَ إذا حَكَّمُوا غيرَ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونَبَذُوا حُكمَهُ وراءَ ظهورِهِم كأنهَّم لا يَعْلَمُونَ.
قالَ المصنفُ: وقولُهُ: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}[الأعراف:55]، قالَ أبو بكرِ بنُ عَيَّاشٍ في الآيةِ: (إنَّ اللهَ بعثَ محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهلِ الأرضِ، وهم في فسادٍ فأصلَحَهم اللهُ بمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمَنْ دعَا إلى خلافِ ما جاءَ به محمدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو من المُفْسِدينَ في الأرضِ).
وقالَ ابنُ القيِّمِ: (قالَ أكثرُ المفسِّرينَ: لا تُفْسِدُوا فيها بالمعاصي والدعاءِ إلى غيرِ طاعةِ اللهِ بعدَ إصلاحِ اللهِ إيَّاها ببعثِ الرُّسلِ وبيانِ الشريعةِ والدعاءِ إلى طاعةِ اللهِ؛ فإنَّ عبادةَ غيرِ اللهِ والدعوةَ إلى غيرِه والشِّركَ به هُوَ أعظمُ فسادٍ في الأرضِ، بل فسادُ الأرضِ في الحقيقةِ إنمَّا هو بالشركِ بهِ ومخالفةِ أمرِهِ.
فالشركُ والدعوةُ إلى غيرِ اللهِ، وإقامةُ معبودٍ غيرِه، ومطاعٍ مُتَّبَعٍ غيرِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هو أعظمُ الفسادِ في الأرضِ، ولا صلاحَ لها ولا لأهلِها إلاَّ أَنْ يكونَ اللهُ وحدَه هو المعبودَ، والدعوةُ له لا لغيرِه، والطاعةُ والاتباعُ لرسولهِ ليسَ إلاّ.
وغيرُه إنما تجبُ طاعتُه إذا أمرَ بطاعةِ الرّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا أمرَ بمعصيتهِ وخلافِ شريعتهِ، فلا سمعَ لهُ، ولا طاعةَ، ومَن تَدبَّر أحوالَ العالمِ وجَدَ كلَّ صلاحٍ في الأرضِ فسببُهُ توحيدُ اللهِ وعبادتُهُ، وطاعةُ رسولِهِ، وكلَّ شرٍّ في العالمِ، وفتنةٍ وبلاءٍ، وقحطٍ وتسلُّطِ عدوٍّ وغيرِ ذلكَ، فسببُه مخالفةُ رسولِهِ، والدعوةُ إلى غيرِ اللهِ ورسولِهِ). انتهى.
وبهذا يتبيّنُ وجهُ مطابقةِ الآيةِ للترجَمةِ؛ لأنَّ مَنْ يدعو إلى التحاكُمِ إلى غيرِ ما أنزلَ اللهُ وإلى الرسولِ، فقد أتى بأعظمِ الفسادِ.
قالَ: وقولُهُ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}[البقرة:11]،
قالَ أبو العاليةِ: (في الآيةِ يعني: لا تَعْصُوا في الأرضِ، وكان فسادُهُم ذلك معصيةً للهِ؛ لأنَّ مَنْ عَصَى اللهَ في الأرضِ، أو أَمَرَ بمعصيةِ اللهِ، فقد أفسَدَ في الأرضِ؛ لأنَّ صلاحَ الأرضِ والسماءِ بالطاعةِ).
قلتُ: ومطابقةُ الآيةِ للترجمةِ ظاهرٌ؛ لأنَّ مَنْ دعَا إلى التحاكُمِ إلى غيرِ مَا أنزلَ اللهُ فقد أتَى بأعظمِ الفسادِ.
وفي الآيةِ دليلٌ على وجوبِ اطِّراحِ الرأيِ مع السّنةِ، وإن ادَّعى صاحبُه أنه مُصْلِحٌ، وأَنَّ دعوى الإصلاحِ ليسَ بعذرٍ في تركِ ما أنزلَ اللهُ، والحذرُ من العُجْبِ بالرأيِ.
قالَ: (وقولُهُ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ})[المائدة:53].
قال ابنُ كثيرٍ: (يُنْكِرُ تعالى على مَنْ خرجَ عن حكمِ اللهِ تعالى المشتملِ على كلِّ خيرٍ وعدلٍ، الناهي عن كلِّ شرٍّ إلى ما سواه من الآراءِ والأهواءِ والاصطلاحاتِ التي وضَعَها الرجالُ بلا مستندٍ من شريعةِ اللهِ كمَا كانَ أهلُ الجاهليةِ يُحَكِّمونَ به من الضلالاتِ والجَهالاتِ.
كما يَحْكُمُ به التَّتَارُ من السياساتِ المأخوذةِ عن جنكز خان الذي وضَعَ لهم كتابًا مجموعًا مِن أحكامٍ اقتبسَها من شرائعَ شتَّى من الملةِ الإسلاميَّةِ وغيرِها، وفيها كثيرٌ من الأحكامِ أخذَهَا عن مجردِ نظرِه، فصارَ في بَنِيهِ شرعًا يقدِّمُونَه على الحكمِ بالكتابِ والسُّنةِ، ومَن فعلَ ذلك فهو كافرٌ يَجِبُ قتالُهُ حتى يَرْجِعَ إلى حكمِ اللهِ ورسولِهِ.
فلا يُحَكَّمُ سواه في قليلٍ ولا كثيرٍ، قالَ تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} أي: يريدونَ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي: ومَنْ أعدلُ مِنَ اللهِ في حكمِهِ لمَنْ عقَلَ عن اللهِ شرعَهُ، وآمنَ وأيقنَ، وعَلِمَ أنَّهُ تعالى أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ بعبادِه من الوالدةِ بولدِهَا فإنه تعالى العالِمُ بكلِّ شيءٍ، القادرُ على كلِّ شيءٍ، العادلُ في كلِّ شيءٍ).
قلتُ: وفي الآيةِ إشارةٌ إلى أَنَّ مَن ابتغى غيرَ حكمِ اللهِ ورسولهِ، فقد ابتغى حكمَ الجاهليَّةِ كائنًا مَا كانَ.
(2)
هذا الحديثُ رواهُ الشيخُ
أبو الفتحِ نصرُ بنُ إبراهيمَ المقدسيُّ الشافعيُّ في كتابِ (الحُجةِ على تاركِ المَحَجَّةِ) بإسنادٍ صحيحٍ كما قالَ المصنفُ عن النوويِّ، وهو كتابٌ يتضمَّنُ ذكْرَ أصولِ الدينِ على قواعدِ أهلِ الحديثِ والسُّنَّةِ.
ورواهُ الطبرانيُّ وأبو بكرِ بنُ عاصمٍ، والحافظُ أبو نُعيمٍ في (الأربعينَ) التي شرَطَ في أولِها أَنْ تكونَ من صِحاحِ الأخبارِ.
وقال ابنُ رجبٍ: (تصحيحُ هذا الحديثِ بعيدٌ جدًّا من وجوهٍ ذكَرَهَا، وتَعقَّبهُ بعضُهم).
قلتُ: ومعناهُ صحيحٌ قطعًا، وإنْ لم يصحَّ إسنادُه، وأصلُه في القرآنِ كثيرٌ كقولِه تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}[النساء:64].
- وقولِه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب:36].
-
وقولِه: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ}[القصص:50] وغيرِ ذلك من الآياتِ، فلا يَضُرُّ عدمُ صحةِ إسنادِه.
قولُه:((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ)) أي: لا يحصلُ له الإيمانُ الواجبُ ولا يكونُ من أهلِه.
قولُه: ((حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ)) قالَ بعضُهم: هواهُ بالقَصْرِ، أي: ما يَهْواهُ، أي: تُحِبُّهُ نفسُه وتميلُ إليهِ، ثم المعروفُ في استعمالِ الهوى عندَ الإطلاقِ أَنَّهُ الميلُ إلى خلافِ الحقِّ، ومنهُ: {وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ}[ص:26] وقد يُطْلَقُ على الميلِ والمحبةِ ليشملَ الميلَ للحقِّ وغيرِهِ، وربما اسْتُعْمِلَ في محبةِ الحقِّ خاصةً، والانقيادِ إليه، كما في حديثِ صَفْوانَ بنِ عَسَّالٍ(أنه سُئِلَ هل سَمِعْتَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الهوى…) الحديثَ.
قالَ ابنُ رجبٍ: (أما معنى الحديثِ، فهو أَنَّ الإنسانَ لا يكونُ مؤمنًا كامِلَ الإيمانِ الواجبِ، حتى تكونَ محبتُه تابعةً لما جاءَ به الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأوامرِ والنواهي وغيرِها، فيُحِبُّ ما أمرَ بهِ ويَكْرَهُ ما نهَى عنه.
وقد وردَ القرآنُ بمثلِ هذا في غيرِ موضعٍ، وذَمَّ سبحانَه مَنْ كَرِهَ ما أحبَّهُ اللهُ تعالى، أو أحَبَّ ما كرِهَ اللهُ، كمَا قالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] وقال: {ذلكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28] فالواجبُ على كلِّ مؤمنٍ أَنْ يحبَّ ما أحبَّهُ اللهُ محبةً تُوجِبُ له الإتيانَ بما وجَبَ عليهِ منهُ، فإن زادَتِ المحبةُ حتى أتَى بما نُدِبَ إليهِ منهُ كانَ ذلكَ فضلاً.
وأَنْ يكرَهَ ما كرِهَهُ اللهُ كراهةً تُوجِبُ له الكَفَّ عمَّا حرُمَ عليه منه، فإن زادتِ الكراهةُ حتى أوْجَبَت الكفَّ عما كرِهَهُ تنزيهًا كانَ ذلكَ فضلاً.
فمَن أحَبَّ اللهَ ورسولَه محبةً صادقةً من قلبِهِ، أوْجَبَ ذلك لَهُ أَنْ يُحِبَّ بقلبهِ ما يحبُّه اللهُ ورسولُهُ ويَكْرَهَ ما يَكْرَهُهُ اللهُ ورسولُهُ، ويَرْضَى بِمَا يَرْضَى به اللهُ ورسولُهُ، ويَسْخَطُ ما يَسْخَطُ اللهُ ورسُولُهُ، وأَنْ يعملَ بجوارِحِه بمقتضى هذا الحبِّ والبغضِ.
فإن عمِلَ بجوارحِه شيئًا يخالفُ ذلكَ، بأن ارتكبَ بعضَ ما يَكْرَهُهُ اللهُ ورسولُهُ، أو ترَكَ بعضَ ما يُحبُّهُ اللهُ ورسولُه معَ وجوبِهِ والقدرةِ عليه، دلَّ ذلكَ على نقصِ محبتهِ الواجبةِ، فعليه أَنْ يتوبَ من ذلكَ، ويَرْجِعَ إلى تكميلِ المحبةِ الواجبةِ. فجميعُ المعاصي تَنْشَأُ من تقديمِ هَوَى النفسِ على محبةِ اللهِ ورسولِهِ، وقد وصَفَ اللهُ المشركينَ باتباعِ الهوى في مواضعَ من كتابِهِ، فقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُم} [القصص:50].
وكذلكَ البدعُ إنما تَنْشَأُ من تقديمِ الهوى على الشرعِ، ولهذا سُمِّيَ أهلُها أهلَ الأهواءِ، وكذلك المعاصي إنمّا تقعُ من تقديمِ الهوى على محبّةِ اللهِ ومحبّةِ ما يُحِبُّه اللهُ، وكذلك حبُّ الأشخاصِ الواجبُ فيه أَنْ يكونَ تَبَعًا لِمَا جاءَ بهِ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فيَجِبُ على المؤمنِ محبةُ ما يُحِبُّهُ اللهُ من الملائكةِ والرسلِ والصديقين، والأنبياءِ والشهداءِ والصالحينَ عمومًا.
ولهذا كانَ علامةُ وجودِ حلاوةِ الإيمانِ ((أَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ للهِ)) وتحرُمُ موالاةُ أعداءِ اللهِ ومَن يَكْرَهُه اللهُ عمومًا، وبهذا يكونُ الدينُ كلُّه للهِ.
و((مَنْ أَحَبَّ للهِ، وَأَبْغَضَ للهِ، وَأَعْطَى للهِ، وَمَنَعَ للهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ)).
ومَن كان حبُّه، وبُغْضُه، وعَطَاؤُهُ، ومنعُهُ لهوَى نفسِه، كانَ ذلك نقصًا في إيمانِه الواجبِ، فتَجِبُ عليه التوبةُ من ذلكَ، والرجوعُ إلى اتِّباعِ ما جاء به الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تقديمِ محبةِ اللهِ ورسولِهِ، وما فيه رضى اللهِ ورسولِهِ على هَوَى النفسِ ومرادِها). انتهى ملخصًا.
ومطابقةُ الحديثِ للبابِ ظاهرةٌ من جهةِ أنَّ الرجلَ لا يُؤْمِنُ حتى يكونَهواهُ تبعًا لما جاءَ بهِ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كلِّ شيءٍ حتى في الحكمِ وغيرِه. فإذا حكَم بحكمٍ أو قَضَى بقضاءٍ، فهو الحقُّ الذي لا محيدَ للمؤمنِ عنهُ، ولا اختيارَ له بعدَهُ.
(3)
هذا الأثرُ رواهُ
ابنُ جريرٍ، وابنُ المنذرِ بنحوِهِ.
قولُه: (كانَ بينَ رجلٍ من المنافِقين، ورجلٍ مِن اليهودِ خُصومةٌ) لم أقفْ على تسميةِ هذين الرجلينِ، وقد رَوَى ابنُ إسحاقَ وابنُ المنذرِ، وابنُ أبي حاتمٍ قال: كانَ الجلاسُ بنُ الصامتِ قبلَ توبتهِ، ومُعَتِّبُ بنُ قشيرٍ، ورافعُ بنُ زيدٍ وبَشِيرٌ، كانوا يدَّعُون الإسلامَ، فدعَاهُم رجالٌ من قومِهِم من المسلمينَ في خُصومةٍ كانتْ بينَهُم إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعَوْهم إلى الكُهَّانِ حُكَّامِ الجاهليةِ، فأنزلَ اللهُ فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآيةَ.
فيُحْتَمَلُ أنْ يكونَ المنافقُ المذكورُ في قصةِ الشعبيِّ أحدَ هؤلاءِ، بل روى الثعلبيُّ عن ابنِ عباسٍ أَنَّ المنافقَ اسمُهُ بشرٌ.
قولُه: ((عرَفَ أنه لا يَأخُذُ الرِّشْوَةَ)) هي بتثليثِ الراءِ، قال أبو السعاداتِ: (وهو الوصلةُ إلى الحاجةِ بالمصانعةِ، وأصلُه من الرِّشَاءِ الذي يُتَوَصَّلُ به إلى الماءِ، والراشِي: مَن يُعْطِي الذي يُعِينُه على الباطلِ، والمُرْتَشِي: الآخِذُ).
قلتُ: فعلى هذا رِشوةُ الحاكمِ هي ما يُعْطَاهُ ليَحْكُمَ بالباطلِ، سواءً طلَبهَا أم لاَ.
وفيه: دليلٌ على شهادةِ أَنَّ محمدًا رسولُ اللهِ؛ لأنَّ أعداءَهُ يعلمونَ عدلَهُ في الأحكامِ، ونزاهتَهُ عن قَذَرِ الرِّشْوةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلافِ حكامِ الباطلِ.
قولُهُ: ((فاتَّفَقَا على أَنْ يَأتِيا كاهنًا في جُهَيْنَةَ)) لم أقِفْ على تسميةِ هذا الكاهنِ، وفي قصةٍ رواها ابنُ جريرٍ، وابنُ أبي حاتمٍ، عن السُّدِّيِّ في سببِ نزولِ الآيةِ قالَ: (فتفاخَرتِ النضيرُ وقُريظةُ؛ فقالتِ النضيرُ: نحنُ أكرمُ مِن قُريظةَ.
وقالتْ قريظةُ: نحنُ أكرمُ منكم، فدخلوا المدينةَ إلى أبي بُرْدَةَ الأسلميِّ) وذكَرَ القصةَ.
(4)
هذه القصةُ قد رُوِيتْ من طرقٍ متعددةٍ، مِن أَقْرَبِهَا لسياقِ المصنفِ ما رواه
الثعلبيُّ وذكَرَهُ البَغَويُّ، عن ابنِ عباسٍ في قولِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا}[النساء:59] قالَ: (نَزَلتْ في رجلٍ من المنافقين يُقالُ له: بِشْرٌ خاصَم يهوديًّا فدعاه اليهوديُّ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودعاهُ المنافقُ إلى كعبِ بنِ الأشرفِ، ثم إنهما احْتَكَما للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقضَى لليهوديِّ، فلم يَرْضَ المنافقُ، وقالَ: (تَعالَ نَتَحَاكمْ إلى عمرَ بنِ الخطابِ)
فقالَ اليهوديُّ لعمرَ: (قضَى لنا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يَرْضَ بقضائِه)
فقالَ للمنافقِ: (أكذلكَ؟)
قالَ: (نعم)
فقال عمرُ: (مكانَكُمَا حتى أَخْرُجَ إليكما) فدخَلَ عمرُ فاشْتَملَ على سيفِهِ، ثم خرَجَ فضرَبَ عُنُقَ المنافقِ حتى بَرَدَ.
ثم قالَ: (هكذا أَقْضِي لِمَن لم يَرْضَ بقضاءِ اللهِ ورسولِهِ) فنَزَلَتْ.
وروَى الحَكِيمُ الترمذيُّ في (نوادرِ الأصولِ) هذهِ القصةَ عن مكحولٍ، وقالَ في آخرِها: (فأتَى جبريلُ عليه السلامُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: (إنَّ عمرَ قد قتَلَ الرجلَ، وفرَّقَ اللهُ بينَ الحقِّ والباطلِ على لسانِ عمرَ، فسُمِّيَ الفاروقَ).
ورواهُ
أبو إسحاقَ بنُ دُحَيْمٍ في (تفسيرِهِ) على ما ذكَرهُ شيخُ الإسلامِ، وابنُ كثيرٍ، ورواهُ ابنُ أبي حاتمٍ،وابنُ مَرْدَويْه من طريقِ ابنِ لَهِيعةَ عن أبي الأسودِ، وذكرَ القصةَ.
وفيه: (فقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يَجْتَرِئَ عُمَرُ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ)) فأنزلَ اللهُ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} الآيةَ)، فهَدَرَ دمَ ذلك الرجلِ، وبَرِئَ عمرُ من قتلِهِ، فكرِهَ اللهُ أَنْ يَسُنَّ ذلكَ بعدُ، فقالَ: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} إلى قولِه: {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}.
وبالجملةِ فهذهِ القصةُ مشهورةٌ مُتَدَاولةٌ بينَ السلفِ والخلفِ تَداولاً يُغْنِي عن الإسنادِ، ولها طرقٌ كثيرةٌ، ولا يضرُّها ضعفُ إسنادِها، وكعبُ بنُ الأشرفِ المذكورُ هنا هو طاغوتٌ من رؤساءِ اليهودِ وعلمائِهم.
ذكَر ابنُ إسحاقَ وغيرُه: (أنَّهُ كَانَ مُوادِعًا للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جملةِ مَن وَادَعه من يهودِ المدينةِ.
وكانَ عربيًّا مِن بني طَيِّئٍ وكانَتْ أمُّه مِن بني النَّضيرِ.
قالُوا: فلمَّا قُتِلَ أهلُ بدرٍ شَقَّ ذلك عليهِ، وذَهَبَ إلى مكةَ ورَثَاهُم لقريشٍ.
وفضَّلَ دينَ الجاهليةِ على دينِ الإسلامِ حتى أنْزَلَ اللهُ فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنوا سَبِيلاً}[النساء:50] ثم لما رَجَعَ إلى المدينةِ أخَذَ يُنْشِدُ الأشعارَ يَهْجُو بها رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وشبَّبَ بنساءِ المسلمينَ حتى آذاهم، حتى قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ لِكَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ)) وذكَرَ قصةَ قتلهِ.
وقتَلَهُ محمدُ بنُ مَسْلَمةَ، وأبو نائلةَ، وأبو عَبْسِ بنُ جَبْرٍ، وعَبَّادُ بنُ بِشْرٍ رَضِي اللهُ عَنْهُم).
وفي القصةِ من الفوائدِ:
-
أنَّ الدعاءَ إلى تحكيمِ غيرِ اللهِ ورسولِهِ من صفاتِ المنافقينَ،
ولو كانَ الدعاءُ إلى تحكيمِ إمامٍ فاضلٍ.
ومعرفةُ أعداءِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما كانَ عليهِ من العلمِ والعدلِ في الأحكامِ.
وفيها:
الغضبُ للهِ تعالى،
والشدةُ في أمرِ اللهِ، كما فعلَ عمرُ رَضِي اللهُ عَنْهُ.
وفيها أَنَّ مَن طعَنَ في أحكامِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو في شيءٍ من دينهِ قُتِلَ كهذا المنافقِ بل أوْلَى.
وفيها:
جوازُ تغييرِ المُنْكَرِ باليدِ،
وإنْ لم يأذَنْ فيه الإمامُ.
وكذلكَ:
تَعْزِيرُ مَن فَعَلَ شيئًا من المنكراتِ
التي يُسْتَحَقُّ عليها التعزير، لكنْ إذا كانَ الإمامُ لا يَرْضَى بذلك، وربما أَدَّى إلى وقوعِ فُرْقةٍ أو فتنةٍ فيُشْتَرَطُ إذنُهُ في التعزيرِ فقط.
وفيها:
أنَّ معرفةَ الحقِّ لا تَكْفِي عن العملِ والانقيادِ،
فإنَّ اليهودَ يَعْلَمون أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ ويَتَحَاكَمونَ إليهِ في كثيرٍ من الأمورِ.