باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
مرّ معنا أن التوحيد:هو شهادة أن لا إله إلا الله، ولهذا قال العلماء: العطف هنا (التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله) هذا من عطف المترادفات، ولكن هذا فيه نظر؛ من جهة أن الترادف غير موجود، الترادف الكامل، لكن الترادف الناقص موجود.
فإذاً:هو من قبيل عطف المترادفات التي معناها واحد؛ لكن يختلف بعضها عن بعض في بعض المعنى.فالتوحيد مرّ معنا تعريفه في أول الكتاب، وقوله: (باب تفسير التوحيد) يعني: الكشف والإيضاح عن معنىالتوحيد.
وقد قلتُ لك:إن التوحيد هو:-اعتقاد أن الله -جل وعلا- واحد في ربوبيته لا شريك له.
-واحد في إلهيته لا نِدَّ له.
-واحد في أسمائه وصفاته لا مثل له سبحانه وتعالى.قال جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ويشمل ذلك أنواع التوحيد جميعاً.فإذاً: التوحيد: هو اعتقاد أن الله واحد في هذه الثلاثة أشياء.(وشهادة أن لا إله إلا الله)يعني: تفسير شهادة أن لا إله إلا الله.هذه الشهادة أعظم كلمة قالها مكلّف،ولا شيء أعظم منها؛ وذلك لأن معناها هو الذي قامت عليه الأرض والسموات، وما تعبّد المتعبدون إلا لتحقيقها ولامتثالها.(شهادة أن لا إله إلا الله) الشهادة:
-تارة تكون شهادة حضور وبصر.
-وتارة تكون شهادة علم، يعني: يشهد على شيء حضره ورآه، أو يشهد على شيء علمه، هذان نوعان لمعنى الشهادة.
فإذا قال قائل: (أشهد) فيحتمل أنه سيأتي بشيء رآه، أو بشيء علمه، و(أشهد أن لا إله إلا الله) هذه شهادة علمية، ولهذا في قوله: (أشهد) العلم.
والشهادة في اللغة، وفي الشرع، وفي تفاسير السلف لآي القرآن التي فيها لفظ (شهد) كقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وكقوله: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (شهد) تتضمن أشياء:
الأول: الاعتقاد بما سينطق به،الاعتقاد بما شهده (شهد أن لا إله إلا الله) يعني: اعتقد بقلبه معنى هذه الكلمة.وهذا فيه العلم، وفيه اليقين؛لأن الشهادة فيها الاعتقاد، والاعتقاد لا يسمى اعتقاداً إلا إذا كان ثَمَّ علم ويقين.
الثاني: التكلم بها{شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم} صار اعتقاداً، وصار أيضاً إعلاماً ونطقاً بها.
الثالث: الإخبار بذلك والإعلام به،فينطقه بلسانه من جهة الواجب، وأيضاً لا يسمى شاهداً حتى يخبر غيره بما شهد، هذا من جهة الشهادة.فإذاً:يكون (أشهد أن لا إله إلا الله) معناها: أعتقد، وأتكلم، وأُعْلِم، وأُخْبِر بأن لا إله إلا الله، فافترقت إذاً عن حال الاعتقاد، وافترقت إذاً عن حال القول، وافترقت إذاً عن حال الإخبار المجرد عن الاعتقاد، فلا بد من الثلاثة مجتمعة، ولهذا نقول في الإيمان: إنه اعتقاد الجنَاَن، وقول اللسان، وعمل الجوارح والأركان.
(لا إله إلا الله):هذه هي كلمة التوحيد، وهي مشتملة من حيث الألفاظ على أربعة ألفاظ: الأول: لا.
الثاني:إله.
الثالث: إلا.
الرابع: (لفظ الجلالة)الله.
أما (لا) هنا: فهي النافية للجنس، تنفي جنس استحقاق الألوهية عن أحد إلا الله جل وعلا - في هذا السياق- وإذا أتى بعد النفي (إلا) وهي أداة الاستثناء، صارت تفيد معنىً زائداً وهو الحصر والقصر، فيكون المعنى: الإلهية، الحقة أو الإله الحق هو الله بالحصر والقصر، ليس ثَمَّ إله حق إلا هو دون ما سواه.وكلمة (إله):فِعَال، يعني: من جهة الوزن قالوا: فِعالٌ تأتي أحياناً بمعنى فاعل، وتأتي أحياناً بمعنى مفعول، وننظر هنا فنجد أن كلمة (أَلَهَ) في اللغة بمعنى عبد، وقال بعض اللغويين: (أَلَهَ) يأله إذا تحير، (أَلَهَ فلان، ويألَه، أو تألَّه إذا تحير) وسمي الإله عندهم إلهاً؛ لأن الألباب تحيرت في كُنْهِ وصفه، وكُنْهِ حقيقته.
وهذا القول ليس بجيد،بل الصواب أن كلمة (إلَه): فعال بمعنى مفعول؛ وهو المعبود، فـ(إله) معناها: معبود.ويدل على ذلك ما جاء في قراءة ابن عباس: أنه قرأ في سورة الأعراف:{أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وإلاهتك} كان ابن عباس يقرأها هكذا: {ويذرك وإلاهتك}.قال: لأن فرعون كان يُعْبَد، ولم يكن يَعْبُد، فصوّب القراءة بـ {ويذرك وإلاهتك} يعني: وعبادتك، وقراءتنا -وهي قراءة السبعة- {ويذرك وآلهتك} يعني: المتقدمين، فهذا معناه: أن ابن عباس فهم من الإلهة معنى العبادة.
قال الراجز في شعره المعروف الذي ذكرته لكم من قبل:
لـِلـــَّهِ دَرُّ الــــغـَانـِيـَاتِ الــــمُدَّه =ِ سَبَّحْنَ وَاسْتَرْجَعْنَ مِنْ تَأَلهُّي
يعني: من عبادتي.فإذاً:يكون الإله هو المعبود.
(لا إله)يعني: لا معبود إلا الله.هنا (لا معبود): (لا) النافية للجنس -كما تعلمون- تحتاج إلى اسم وخبر؛ لأنها تعمل عمل (إنَّ) عَمَلَ إنَّ اجْعَلْ للا في نَكِرَهْ فأين خبر (لا) النافية للجنس؟ كثير من الناس من المنتسبين للعلم قدروا الخبر: لا إله موجود إلا الله.وهذا يحتاج إلى مقدمة قبله، وهو أن المتكلمين، والأشاعرة، والمعتزلة، ومن ورثوا علوم اليونان؛ قالوا: إن كلمة (إله) هي بمعنى فاعل؛ لأن (فِعَال) تأتي بمعنى مفعول أو فاعل، فقالوا: هي بمعنى (آله) و(الآله) هو القادر، ففسروا (الإله) بأنه القادر على الاختراع.
ولهذا تجد في عقائد الأشاعرة ما هو مسطور في شرح (العقيدة السنوسية) التي تسمى عندهم بـ(أم البراهين) قال ما نصه فيها: (الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه).قال: (فمعنى لا إله إلا الله: لا مستغنياً عما سواه، ولا مفتقراً إليه كل ما عداه إلا الله) ففسروا الألوهية بالربوبية، وفسروا الإله بالقادر على الاختراع أو بالمستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه، وبالتالي يقدرون الخبر (موجود)، (لا إله موجود) يعني: لا قادر على الاختراع والخلق موجود إلا الله، لا مستغنياً عما سواه ولا مفتقراً إليه كل ما عداه موجود إلا الله؛ لأن الخلق جميعاً محتاجون إلى غيرهم.
وهذا الذي قالوه هو الذي فتح باب الشرك في المسلمين؛ لأنهم ظنوا أن التوحيد هو إفراد الله في الربوبية، فإذا اعتقد أن القادر على الاختراع هو الله وحده، صار موحداً.إذا اعتقد أن المستغني عما سواه والمفتقر إليه كل ماعداه هو الله وحده، صار عندهم موحداً، وهذا من أبطل الباطل، أين حال مشركي قريش الذين قال الله -جل وعلا- فيهم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وفي آية أخرى:{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ} ونحو ذلك من الآيات، وهي كثيرة؛ كقوله: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} الآيات من سورة يونس، وهذا معلوم أن مشركي قريش لم يكونوا ينازعون في الربوبية.فإذاً:صارت هذه الكلمة دالة على غير ما أراد أولئك، وهو ما ذكرناه آنفاً من أن معنى (لا إله) يعني: لا معبود، فيكون الخبر: إما أن يكون تقديره: (موجود) فيكون المعنى: لا معبود موجود إلا الله، وهذا باطل؛ لأننا نرى أن المعبودات كثيرة.وقد قال جل وعلا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ} مخبراً عن قول الكفار: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَـهاً وَاحِداً} فالمعبودات كثيرة، والمعبودات موجودة، فإذاً: تقدير الخبر بموجود غلط.
ومن المعلوم أن المتقرر في علم العربية أن خبر (لا) النافية للجنس يكثر حذفه في لغة العرب؛ وفي نصوص الكتاب والسنة، ذلك أن خبر (لا) النافية للجنس يحذف إذا كان المقام يدل عليه، وإذا كان السامع يعلم ما المقصود من ذلك، وقد قال ابن مالك في آخر (باب لا النافية للجنس) حينما ساق هذه المسألة:
وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر= إذا الـمــرادمــــع سـقـوطه ظهر
إذا ظهر المراد مع حذف الخبر فإنك تحذف الخبر؛ لأن الكلام الأنسب أن يكون مختصراً، كما قال عليه الصلاة والسلام:((لا عَدْوَى، وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ، وَلاَ صَفَرَ، وَلاَ نَوْءَ، وَلاَ غُوْلَ)). أين الخبر؟كلها محذوفات؛ لأنها معلومة لدى السامع.إذاً:فالخبر هنا معلوم، وهو أنه ليس الخبر (موجوداً) يعني: يقدر بـ(موجود) لأن الآلهة التي عبدت مع الله موجودة، فيقدر الخبر بقولك: (بحق) أو (حق) لا إله بحق، يعني: لا معبود بحق، أو لا معبود حق إلا الله، إن قدرت الظرف فلا بأس، أو قدرت كلمة مفردة (حق) لا بأس، لا معبود حق إلا الله، هذا معنى كلمة التوحيد.فيكون إذاً: كل من عُبِدَ غير الله جل وعلا، عبد نعم، ولكن هل عبد بالحق أم عبد بالباطل، والظلم، والطغيان، والتعدي؟ عبد بالباطل، والظلم، والطغيان، والتعدي؛ وهذا يفهمه العربي من سماع كلمة (لا إله إلا الله) ولهذا كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (بئس قومٌ أبو جهلٍ أعلم منهم بلا إله إلا الله، يفهم هذه الكلمة وأبى أن يقولها).
ولو كانت كما يزعم كثير من أهل هذا العصر وما قبله؛ لقالوها بسهولة، ولم يدروا ما تحتها من المعاني، لكن يعلم أن معناها لا معبود حق إلا الله، وأن عبادة غيره إنما هي بالظلم - ولن يقر بالظلم على نفسه- وبالبغي -ولن يقر بأنه باغ متعد- وبالتعدي والعدوان، وهذا هو حقيقة معنى لا إله إلا الله.
وفيها:الجمع بين النفي والإثبات؛ كما سيأتي في بيان آية الزخرف:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}.قال الإمام رحمه الله: (وقول الله تعالى: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}) هذه الآية تفسير للتوحيد، وذلك أننا عرّفنا التوحيد بأنه إفراد الله بالعبادة، وهو توحيد الإلهية، وهذه الآية اشتملت على الثناء على خاصة عباد الله بأنهم وحَّدوا الله بالإلهية، وهذه مناسبة الآية للباب، فقد وصفهم الله -جل وعلا- بقوله: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} و(يدعون) بمعنى يعبدون؛ لأن الدعاء هو العبادة.