أصَحُّ كُتُبِ الحديثِ
أوَّلُ مَن صَنَّفَ في الصحيحِ = محمَّدٌ وخُصَّ بالترجيحِ
ومسْلِمٌ بعدُ، وبعضُ الغَرْبِ معْ = أبي علِيٍّ فضَّلُوا ذا، لو نَفَعْ
(أوَّلُ مَن صَنَّفَ) الحديثَ (الصحيح) الإمامُ (محمَّدٌ) هو ابنُ إسماعيلَ البخاريُّ، ولا يَرِدُ مُوَطَّأُ الإمامِ مالِكٍ؛ لأنه وإنْ كان سابقًا فمُؤَلِّفُه لم يَتقيَّدْ بالصحيحِ الذي مَرَّ تَعريفُه؛ لأنه أَدْخَلَ فيه الْمُرْسَلَ، والبلاغَ، والمقطوعَ، ونحوَها على سبيلِ الاحتجاجِ، فليس هو أوَّلَ مَن صَنَّفَ في الصحيحِ لانصرافِ الصحيحِ بقَرينةِ (ال) العَهْدِيَّةِ إلى الصحيحِ المذكورِ.
(وخُصَّ) أيِ: البخاريُّ، أيْ: صحيحُه (بالترجيحِ) أيْ: بترجيحِ ما أَسْنَدَهُ فيه دُونَ تَعالِيقِهِ، وتَرَاجِمِه، وأقوالِ الصحابةِ وغيرِهم على سائِرِ الصِّحَاحِ لتَقَدُّمِه على غيرِه في الفَنِّ.
(و) الإمامُ (مُسلِمٌ) أيْ: صحيحُه (بعدُ) أيْ: بعدَ صحيحِ البخاريِّ وضْعًا بلا نِزاعٍ، وصِحَّةً كما ذَهَبَ إليه الجمهورُ، وهو الصحيحُ المشهورُ.
(وبعضُ) أهلِ (الغَرْبِ معْ) حافِظِ عَصْرِه (أبي عَلي) الْحُسينِ بنِ عليٍّ النَّيْسَابوريِّ، شيخِ الحاكِمِ (فَضَّلُوا ذا) أيْ: (صحيحِ مسلِمٍ) على (صحيحِ البخاريِّ) لكنْ (لو نَفَعْ) تَفضيلُهم لقُبِلَ منهم، لكنه لم يَنفَعْ؛ لعَدَمِ تصريحِهم بالتفضيلِ وإنْ كانَ كلامُهم ظاهرًا فيه عُرْفًا.
ولأنَّ البخاريَّ اشْتَرَطَ في الصِّحَّةِ اللُّقِيَّ، ومسلِمٌ اكْتَفَى بالمعاصَرَةِ وإمكانِ اللُّقِيِّ، ولاتِّفاقِ العُلماءِ على أنَّ البخاريَّ أَجَلُّ منه وأَعْلَمُ منه بصِناعةِ الحديثِ، مع أنَّ مسلِمًا تِلميذُه حتى قالَ الدارقُطنيُّ: لولا البخاريُّ لَمَا راحَ مسلِمٌ، ولا جاءَ.
وقيلَ: هما سواءٌ.
وقيلَ: بالوقْفِ.
وبالجملةِ فكِتابَاهُما أَصَحُّ كُتُبِ الحديثِ.
وأمَّا قولُ الشافعيِّ: ما على وَجْهِ الأرضِ بعدَ كتابِ اللهِ تعالى أصَحُّ مِن كتابِ مالِكٍ, فذاك قَبْلَ وُجُودِهما.
وما ذُكِرَ فيهما مِن الضُّعفاءِ كمَطَرٍ الوَرَّاقِ، وبَقِيَّةَ، وابنِ إسحاقَ، ونُعمانَ بنِ راشدٍ، لم يُذْكَرْ على سبيلِ الاحتجاجِ، بل على سبيلِ المتابَعَةِ والاستشهادِ، أو ذُكِرَ لعُلُوِّ الإسنادِ، أو هو ضعيفٌ عندَ غيرِهما ثِقَةٌ عندَهما.
ولا يُقالُ: الْجَرْحُ مُقَدَّمٌ على التعديلِ؛ لأنَّ شَرْطَ قَبولِه بيانُ السببِ، حَكَى ذلك النوَوِيُّ عن ابنِ الصلاحِ وأَقَرَّهُ.
ولكنْ قالَ شيخُنا في تفضيلِ البخاريِّ على مُسْلِمٍ: إنَّ البخاريَّ يَذْكُرُ هؤلاءِ غالبًا في المتابعاتِ والاستشهاداتِ والتعليقاتِ، بخِلافِ مسلِمٍ فإنه يَذْكُرُهم كثيرًا في الأصولِ والاحتجاجِ. انتهى.
ولم يَعُمَّاهُ ولكنْ قَلَّمَا = عندَ ابنِ الاخْرَم مِّنه قد فاتَهُما
(25) وَرُدَّ لكنْ قالَ يَحيى الْبَرُّ = لم يَفُتِ الخمسةَ إلاَّ النَّزْرُ
وفيه ما فيه لقولِ الْجُعْفِي = أحْفَظُ منه عشْرَ ألْفِ ألْفِ
وعَلَّهُ أرادَ بالتَّكرارِ = لها وموقوفٍ وفي البُخارِي
أربعةُ الآلافِ والْمُكَرَّرُ = فوقَ ثلاثةٍ أُلوفاً ذَكَرُوا
(و) مع كونِ كِتَابَيْهِما أصَحَّ (لم يَعُمَّاهُ) أيِ: الصحيحَ؛ أيْ: لم يَسْتَوْعِبَا فيهما كلَّ صحيحٍ على شَرْطِهما فَضْلاً عن مُطْلَقِه، كما صَرَّحَا بذلك.
فإلزامُ الدارقُطنيِّ وغيرِه إيَّاهما بأحاديثَ على شَرْطِهما ليس بلازِمٍ.
(ولكنْ قَلَّمَا) حديثٌ (عندَ) الحافظِ أبي عبدِ اللهِ محمَّدِ بنِ يَعقوبَ النَّيْسَابوريِّ (ابنِ الاخْرَمِ) بالدَّرَجِ والخاءِ الْمُعْجَمَةِ شيخِ الحاكمِ، ومِيمُه مُدْغَمَةٌ في ميمِ (منه) أيْ: مِن الصحيحِ (قد فاتَهما) في كِتَابَيْهِما.
وحَقُّ (قَلَّمَا) أنْ يَلِيهَا الفعْلُ صَرِيحًا، لكنه أَخَّرَه للضرورةِ عندَه، كما قيلَ به في قولِ الْمِرَارِ:
صَدَرَتْ فأَطْوَلَتِ الصُّدورَ قَلَّمَا = وِصَالٌ على طُولِ الصُّدُورِ يَدُومُ
فـ (مَا) كافَّةٌ إنْ وُصِلَتْ بـ (قَلَّ) كما تَقَرَّرَ، وفي نُسخةٍ فَصْلُها عنها فهي مَوصولةٌ، وهي أَوْلَى لسَلامتِها مما مَرَّ.
(وَرُدَّ) أيْ: رَدَّهُ ابنُ الصلاحِ بأنَّ ذلك كثيرٌ لا قَليلٌ كما يُعْلَمُ مِن (مُستَدْرَكِ) الحاكِمِ عليهما.
(لكنْ قالَ) الشيخُ مُحْيِي الدِّينِ (يحيى) النوويُّ (الْبَرُّ) أيْ: المحسِنُ في جميعِ أعمالِ الْبِرِّ بعدَ تَصحيحِه لِمَا قالَه ابنُ الصلاحِ:
والصوابُ أنه (لم يَفُتِ) الأصولَ (الخمسةَ): الصحيحينِ، وسُنَنَ أبي داودٍ، والتِّرمذيَّ، والنَّسائيَّ (إلاَّ النَّزْرُ) أيْ: القليلُ.
(وفيه) أيْ: في كلامِ النوويِّ (ما فيه) أيْ: ضَعْفٌ ظاهِرٌ (لقولِ الْجُعْفِيْ) أيِ: البُخارِيِّ نِسبةً لِجَدِّ أبيه الْمُغيرةِ لكونِه مولًى ليَمانٍ الْجُعْفِيِّ والِي (بُخَارى): (أَحْفَظُ منه) أيْ: مِن الصحيحِ (عَشْرَ ألْفِ أَلْفِ) حديثٍ، أيْ: مائةَ ألْفٍ، كما عَبَّرَ بها حيثُ قالَ: أَحْفَظُ مِائةَ ألْفِ حديثٍ صحيحٍ، ومِائتَيْ ألْفِ حديثٍ غيرِ صحيحٍ.
والأصولُ الخمسةُ فَضْلاً عن الصحيحينِ أقَلُّ مِن ذلك بكثيرٍ، ففاتَهما كثيرٌ.
(وعَلَّهُ) لغةٌ في (لَعَلَّهُ) أيْ: ولعَلَّ البخاريَّ (أرَادَ) بُلوغَ ما حَفِظَه مِن الأحاديثِ العددَ المذكورَ (بالتَّكرارِ لها، وموقوفٍ) أيْ: بعدَ الْمُكَرَّرِ والموقوفِ منها.
أيْ: وما أُلْحِقَ به مِن آثارِ الصحابةِ وغيرِهم مع غيرِ الْمُكَرَّرِ، فلا يُنافِي كلامُه كلامَيْ ابنِ الأَخْرَمِ والنَّوَوِيِّ.
على أنَّ شَيْخَنا قالَ: والظاهِرُ أنَّ ابنَ الأَخْرَمِ إنما أرادَ ما فاتَهما مما عَرَفَاهُ واطَّلَعَا عليه مما يَبْلُغُ شَرْطَهما، لا بِقَيْدِ كتَابَيْهِما كما فَهِمَه ابنُ الصلاحِ.
قالَ: وقولُ النوويِّ: لم يَفُتِ الخمسةَ إلا القليلُ, مُرادُه مِن أحاديثِ الأحكامِ خاصَّةً أمَّا غيرُها فكثيرٌ.
ثم بَيَّنَ الناظِمُ عِدَّةَ أحاديثِ (صحيحِ البخاريِّ) بقولِه: (وفي) صحيحِ (البخاريْ) منها بغيرِ تَكرارٍ (أربعةُ الآلافٍ، والمكرَّرُ) منها (فوقَ ثلاثةٍ أُلُوفًا) بنَصْبِه تَمييزًا، يَعنِي ثلاثةَ آلافٍ ومِائتينِ وخمسةً وسَبعينَ حديثًا على ما (ذَكَرُوا) أيْ: جَماعةٌ مِن رُواتِه.
فجُملةُ ما فيه مِن الْمُكَرَّرِ وغيرِه سبعةُ آلافٍ ومِائتانِ وخمسةٌ وسبعونَ؛ كذا جَزَمَ به ابنُ الصلاحِ، ومُخْتَصِرُو كلامِه.
قالَ الناظِمُ: هو مسلِمٌ في روايةِ الْفِرَبْرِيِّ، وأمَّا روايةُ حَمَّادِ بنِ شاكِرٍ فهي دونَها بِمِائتَيْ حديثٍ، ودونَ هذه بمائةِ حديثٍ رِوايةُ إبراهيمَ بنِ مَعْقِلٍ.
ورَدَّهُ شيخُنا بأنَّ عِدَّةَ أحاديثِ البخاريِّ في رِوايةِ الثلاثةِ سواءٌ، وإنما حَصَلَ الاشتباهُ مِن جِهَةِ أنَّ الأَخِيرَيْنِ فاتَهما مِن سماعِ الصحيحِ على البخاريِّ ما ذُكِرَ مِن آخِرِ الكتابِ فرَوَيَاهُ بالإجازةِ، فالنقْصُ إنما هو في السماعِ لا في الكتابِ.
قال: والذي تَحَرَّرَ لي أنها بالْمُكَرَّرِ - سوى الْمُعَلَّقَاتِ، والمتابِعاتِ، والموقوفاتِ، والمقطوعاتِ - سبعةُ آلافٍ وثَلاثُمِائةٍ وسبعةٌ وتِسعونَ حديثًا.
وبغيرِ الْمُكَرَّرِ مِن المتونِ الموصولةِ ألفانِ وسِتُّمائةٍ وحَديثانِ.
ومِن المتونِ الْمُعَلَّقَةِ المرفوعةِ التي لم يُوصِلْها في مَوْضِعٍ آخَرَ منه مائةٌ وتسعةٌ وخمسونَ.
فمجموعُ غيرِ الْمُكَرَّرِ ألفانِ وسبعُمائةٍ وواحدٌ وسِتُّونَ.
قالَ الناظمُ: ولم يَذْكُرِ ابنُ الصلاحِ عِدَّةَ أحاديثِ مسلِمٍ، وقد ذكَرَ النوويُّ أنها نَحْوُ: أربعةِ آلافٍ بإسقاطِ الْمُكَرَّرِ.
ولم يَذْكُرْ عِدَّتَها بالْمُكَرَّرِ، وهي تَزيدُ على عِدَّةِ كتابِ البخاريِّ لكثرةِ طُرُقِهِ.
قالَ: ورأيتُ عن أبي الفَضْلِ أحمدَ بنِ سَلَمَةَ أنها اثنا عشَرَ ألفًا.
قالَ الزَّرْكَشِيُّ بعدَ نَقْلِه كلامَ ابنِ سَلَمَةَ: وقالَ أبو حَفْصٍ الْمَيَانَجِيُّ: إنها ثمانيةُ آلافٍ.
قالَ: ولعَلَّ هذا أقْرَبُ.
قالَ شيخُنا: وقولُ الناظِمِ: (وفي البخارِي ... إلى آخِرِه) جَعَلَه فائدةً مُسْتَقِلَّةً زائدةً وليس مرادًا لابنِ الصلاحِ، بل هو تَتِمَّةُ رَدِّه لكلامِ ابنِ الأخْرَمِ، بمعنى أنَّ كلامَه يُرَدُّ بأنَّ ما فاتَ البخاريَّ ومُسْلِمًا أكثرُ مما خَرَّجَاهُ لقولِ البخاريِّ: أحْفَظُ منه مِائةَ ألْفِ حديثٍ صحيحٍ, وليس في كتابِه بالنسبةِ إليها إلا القليلُ، فإنَّ جميعَ ما فيه بغيرِ تَكرارٍ أربعةُ آلافٍ وبالتَّكرارِ نحوُ سبعةِ آلافٍ، ومسلِمٌ أكْثَرُ ما يكونُ فيه نحوُ ذلك كما مَرَّ، ففَاتَهما كثيرٌ لا قليلٌ.
أمَّا أوَّلُ مَن صَنَّفَ مُطْلَقًا فابنُ جُريجٍ بمكَّةَ، ومالِكٌ وابنُ أبي ذِئْبٍ بالمدينةِ، والأَوْزَاعِيُّ بالشامِ، والثَّوْرِيُّ بالكوفةِ، وسعيدُ بنُ أبي عَروبةَ والربيعُ بنُ صُبَيْحٍ وحمادُ بنُ سَلَمَةَ بالبصرةِ، ومَعْمَرُ بنُ راشِدٍ وخالدُ بنُ جَميلٍ باليَمَنِ، وجَريرُ بنُ عبدِ الحميدِ بالرِّيِّ، وابنُ المبارَكِ بخُراسانَ.
وهؤلاءِ في عصْرٍ واحدٍ فلا يُدْرَى أيُّهُم أسبَقُ، ذَكَرَه شيخُنا كالناظِمِ.