لما رأيتُ الأمرَ أمْراً مُنْكراً ....... أجَّجْتُ ناري ودَعَوْتُ قنبرا
وقَتلُ هؤلاءِ واجبٌ بالاتِّفاقِ، لكن في جَوازِ تَحريقِهم نِزاعٌ،
وأمَّا السَّبَّابةُ الذين يَسبُّون أبا بكرٍ وعمرَ، فإنَّ علياًّ -رضي اللَّهُ عنه- لما بَلَغَه ذَلِكَ طَلَب ابنَ السَّوداءِ الذي بَلَغَه ذَلِكَ عنه، وقيل إنَّه أَرادَ قَتلَه فهَربَ منه إلى قرقيسا.
وأمَّا المفضِّلةُ الذين يُفضِّلونَه على أبي بكرٍ وعمرَ فرُوِي عنه أنَّه قال: لا أُوتَى بأحدٍ يُفضِّلُني على أبي بكرٍ وعُمرَ إلاَّ ضَرَبْتُه حدَّ المفترِي، وقد تَواتَرَ عنه أنَّه كان يقولُ على مِنبرِ الكوفةِ: خيرُ هَذِهِ الأمَّةِ بعد نبِيِّها أبو بكرٍ ثم عمرُ، ورُوِيَ عنه هَذَا مِن أكثرَ مِن ثمانين وجْها، ورواهُ البخاريُّ وغيرُه، انتهى مِن كلامِ الشَّيخِ باختصارٍ.
(212) قولُه: (وطريقةُ النَّواصِبِ) جمعُ ناصبٍ، يقالُ: نَاصَبَه مناصَبةً، أي عاداه وقاوَمَه، وهم الذين يَنْصبُونَ العداوةَ لعليِّ بنِ أبي طالبٍ وأهلِ البيتِ ويَتبرَّءون منهم ولا يُحبِّونَهم، بل يكفِّرونَهم أو يُفسِّقونهم كالخوارجِ،
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ بعدَ كلامٍ: فأهلُ السُّنَّةِ وسطٌ في جميعِ أُمورِهم، فهم في عليٍّ وسَطٌ بين الخوارجِ والرَّوافضِ، وفي عُثمانَ وَسَطٌ بين المَرْوانيَّةِ والزَّيدِيَّةِ، وفي سائرِ الصَّحابةِ بين الغُلاةِ فيهم والطَّاعِنينَ عليهم،
وقال أيضًا: والرَّوافِضُ شرٌّ مِن النَّواصِبِ، وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ فيتولَّوْن جميعَ المؤمنينَ، ويتكلَّمون فيهم بعِلمٍ وعَدلٍ، ليسوا مِن أهلِ الجهلِ ولا مِن أهلِ الأهواءِ، ويَتبرَّءُون مِن طريقةِ الرَّوافِضِ والنَّواصِبِ جميعا، ويتولَّون السَّابِقينَ الأوَّلين كُلَّهم، ويعرِفون قدْرَ الصَّحابةِ وفضْلَهم ومناقِبَهم، ويَرْعَوْن حقوقَ أهلِ البيتِ التي شَرعها اللَّهُ لهم، ولا يَرضونَ بما فعَلَه المختارُ ونحوه مِن الكذَّابِينَ، ولا ما فَعَلَه الحجَّاجُ ونحوُه مِن الظَّالِمينَ، ويعلمون مِن هَذَا مِراتبَ السَّابِقينَ الأوَّلين، ويعرِفون ما لأبي بكرٍ وعمرَ مِن التَّقدُّمِ والفضائلِ ما لم يُشارِكْهما فيها أحدٌ مِن الصَّحابةِ، لا عثمانُ ولا عليٌّ ولا غيرُهما، كان هَذَا متَّفقاً عليه في الصَّدرِ الأوَّلِ، إلاَّ أنْ يكونَ خلافٌ شاذٌّ لا يُعبأُ بِهِ، حتى إَنَّ الشِّيعةَ الأولى مِن أصحابِ عليٍّ لم يكونوا يَرتابون في تقديمِ أبي بكرٍ وعمرَ، كَيْفَ وقد ثَبَتَ عنه مِن وجوهٍ متواترةٍ أنَّه كان يقول: خيرُ هَذِهِ الأمَّةِ بعدَ نبِيِّها أبو بكرٍ وعمرُ، انتهى.
ومِن كَذِبِ الرَّافِضةِ وضَلالِهم تسمِيتُهم أهلَ السُّنَّةِ ناصبةً حَيْثُ لم يُوافِقوهم على بِدْعتِهم وظُلمِهم، فإنَّ الرَّافِضةَ يزعمون أنَّ مَن تولَّى الصَّحابةَ لم يتولَّ القَرابةَ، ويقولون: لا ولاءَ إلا ببراءٍ، فمَن لم يتبرَّأْ مِن الصَّحابةِ لم يتولَّ القرابةَ،
ويُقابِلُهم الخوارجُ وأشباهُهم مِن النَّواصبِ الذين يزعمون أَنَّ الرَّفضَ هُوَ محبَّةُ أهلِ البيتِ، ويذُمُّون الرَّفضَ بهَذَا المعنى،
وهَذَا كُلُّه كَذِبٌ وضَلالٌ، فلا دليلَ على ذمِّ النَّصْبِ بالتَّفسيرِ الذي زَعَمه الرَّافِضةُ، كما لا دليلَ على ذمِّ الرَّفضِ بمعنى موالاةِ أهلِ البيتِ،
ولكنَّ المبتَدِعةَ يُلقِّبونَ أهلَ السُّنَّةِ بألقابٍ يَتَنقَّصون بها، فيُسمُّونهم رافضةً وناصِبةً، فهم كما قيل: (رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتِ)، وقد تقدَّمَ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ رضوانُ اللَّهِ عليهم يُوالُون جميعَ الصَّحابةِ والقَرابةِ، ويَترضَّوْن عنهم، ويُنْزِلُونهم منازِلهم التي يستحِقُّونها، فلا يَغْمطُونَهُم حَقَّهم، ولا يُغلونَ فيهم، وقد قال الإمامُ الشَّافِعيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- على النَّاصِبةِ:
يا راكِباً قِفْ بالمحصِّبِ مِن مِنًى ....... واهْتِفْ بقاعدِ خَيْفِها والنَّاهِضِ
إنْ كان رَفْضا حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ ....... فليَشْهدِ الثَّقلانِ أنِّيَ رافِضي
وقال غيره:
إنْ كان نَصْبا حُبُّ صَحْبِ مُحَمَّدٍ ....... فَليشْهَد الثَّقلانِ أنِّيَ ناصِبي
وقال غيره:
إنْ كان نَصْبٌ وَلاءَ الصِّحابِ ....... فإنِّي كما زَعَموا ناصِبي
وإنْ كان رَفْضا وَلاءُ الجميعِ ....... فلا بَرَحَ الرَّفضُ مِن جانِبي
(213) قولُه: (ويُمْسِكون عمَّا شَجَرَ بين الصَّحابةِ) أي: يَقِفون عن الخَوْضِ عمَّا وَقَع بين الصَّحابةِ مِن اختلافٍ ومنازَعةٍ، مِثلُ ما وقع بين عليٍّ ومعاويةَ، وما وقع بين طلحةَ والزُّبيرِ وعليٍّ وغيرِ ذَلِكَ.
قولُه: (شَجَرَ) أي: اضْطَرَب، واختلَفَ الأمرُ بينهم، واشْتَجَرَ القومُ وتَشاجَرُوا: تَنازَعوا، والمُشاجرةُ المنازَعةُ، فمذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ الكَفُّ عمَّا جرى بين أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، والإمساكُ عمَّا شَجَرَ بينهم، لما في الخَوْضِ في ذَلِكَ مِن توليدِ الإِحَنِ والحزازاتِ والحِقدِ علي أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، وَذَلِكَ مِن أعظمِ الذُّنوبِ، فإنَّهم خيرُ القُرونِ والسَّابقونَ الأوَّلونَ، فتجِبُ محبَّتُهم جميعاً والتَّرضِّي عنهم، والكَفُّ عمَّا جرى بينهم ممَّا لَعلَّه لم يَصِحَّ، وما صَحَّ فله تأويلاتٌ سائغةٌ، ثم هُوَ قليلٌ مغمورٌ في جانبِ فضائِلِهم.
قال ابنُ حمدانَ مِن أصحابِنا في نهايةِ المبتدئِين: يَجِبُ حبُّ كُلِّ الصَّحابةِ والكَفُّ عمَّا جرى بينهم كتابةً وقراءةً وإقراءً وسَماعاً وإِسْماعا، ويَجِبُ ذِكْرُ محاسِنِهم، والتَّرضِّي عنهم، والمحبَّةُ لهم، وتَرْكُ التَّحامُلِ عليهم، واعتقادُ العُذْرِ لهم، وأنَّهم فَعلَوا ما فَعلَوا باجتهادٍ سائغٍ لا يُوجِبُ كُفراً ولا فِسْقاً، بل ربَّما يُثابُون عليه لأنَّه اجتهادٌ سائغٌ. انتهى.
وأمَّا الحروبُ التي كانت بينهم فكانتْ لكُلِّ طائفةٍ شُبهةٌ اعتقدَتْ تَصويبَ أنْفُسِها بِسَببِها، وكُلُّهم عدولٌ ومتأوِّلُون في حُروبِهم وغيرِها، ولم يُخْرِجْ شيءٌ مِن ذَلِكَ أحدًا منهم عن العَدالةِ؛ لأنَّهم مجتهِدُونَ اختلَفُوا في مسائلَ مِن مَحَلِّ الاجتهادِ كما يَخْتلِفُ المجتهِدُونَ، ولا يلزَمُ مِن ذَلِكَ نَقصُ أحدٍ منهم، بل يَجِبُ التَّرضِّي عنهم واعتقادُ عَدالَتِهم، وأنَّ ما وقعَ منهم هم فيه مَعذُورون ومأْجُورون، وأمَّا معاويةُ -رضي اللَّهُ عنه- فهُوَ مِن العُدولِ الفُضلاءِ، وهُوَ مجتهِدٌ مخطِئٌ، والحقُّ في جانبِ عليٍّ، وعليٌّ هُوَ الخليفةُ في وَقْتِه بالإجماعِ لا خِلافةَ لغيرِه، وقد تقدَّمَ الكلامُ على ذَلِكَ، والنَّاسُ انْقَسَمُوا في ذَلِكَ الزَّمانِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
قِسمٌ: رأى الحقَّ مع أحدِ الطَّرَفَيْنِ، فوجبَ عليه اتِّباعُه بُموجِبِ اعتقادِه والقتالُ معه.
وقِسمٌ: توقَّفَ ولم يَظْهَرْ له شيءٌ فاعْتزلَ، وهَذَا هُوَ الواجِبُ عليه، وكُلُّهم مَعذورون ومَأجورون، رضوانُ اللَّهِ عليهم أجمعينَ.
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ في المنهاجِ: وأمَّا الصَّحابةُ فجُمهورُهم وجمهورُ أفاضِلِهم لم يَدْخُلوا في فتنةٍ، ثم ساقَ عن ابنِ سيرينَ قال: هَاجَت الفِتنةُ وأصحابُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- عَشْرةُ آلافٍ، فما حَضَرَها منهم مائةٌ، بل لم يَبْلُغوا ثلاثين، وهَذَا أصحُّ إسنادٍ على وجْهِ الأرضِ، وساق كَلاماً طويلاً يَدُلُّ على أنَّ أكثرَ الصَّحابةِ اعْتَزَلَ الفَرِيقَيْنِ،
إذا عرَفْتَ ما تقدَّمَ عَلمْتَ أنَّ طريقَ السَّلامةِ هُوَ الكفُّ عمَّا شَجرَ بينهم، والتَّرضِّي عن الجميعِ، ونقولُ كما قال اللَّهُ تعالى عن التَّابِعينَ بإحسانٍ: إنهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} وما شَجَرَ بينهم وتَنازَعوا فيه أمْرُه إلى اللَّهِ لا تَسألْ عن ذَلِكَ، قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وما أحسَنَ ما روى عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه قال: لمَّا سُئِلَ عمَّا وقع بين الصَّحابةِ: تِلْكَ دماءٌ طَهَّرَ اللَّهُ مِنها يَدِي فلا أُحِبُّ أنْ أُخَضِّبَ بها لِساني.
(214) قولُه: (ويقولونَ إنَّ هَذِهِ الآثارَ المَرْوِيَّةَ) إلخ أي: أنَّ أهلَ السُّنَّةِ متَّفِقون على محبَّةِ الصَّحابةِ والتَّرضِّي عنهم؛ وأنَّهم خيرُ الأمَّةِ بعد نَبيِّهم لِما تَواتَرَ مِن الأدِلَّةِ في فَضْلِهم، ولِما اشْتُهِرَ عنهم مِن الأعمالِ الفَاضِلَةِ ومُسابَقَتِهم إلى طاعةِ اللَّهِ وطاعةِ رسولِه، وبَذْلِ نُفُوسِهم وأموالِهم في سبيلِ اللَّهِ،
كما أنَّهم متَّفِقون على أَنَّ الصَّحابةَ كُلَّهم عُدولٌ ثِقاتٌ لا يُفتَّشُ عن عدالةِ أحدٍ منهم، فلا يُتْرَكُ هَذَا العلمُ المتيقَّنُ المتحقِّقُ الثَّابِتُ لِمَشْكوكٍ فيه، بل مقطوعٍ بكَذِبِه، فما يُرْوى في حقِّهم مِن المثالِبِ إمَّا أنْ يكونَ كَذِبا محْضاً، وإمَّا أنْ يكونَ مُحرَّفاً قد دَخلَه مِن الزِّيادةِ والنُّقصانِ ما يُخْرِجُه إلى الذَّمِّ والطَّعنِ،
والصَّحيحُ مِن ذَلِكَ هُوَ مِن مواردِ الاجتهادِ التي إنْ أصابَ المجتهِدُ فله أَجْرانِ، وإنْ أخطأَ فله أَجْرٌ واحِدٌ، كما في "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ أبي هريرةَ وعمرِو بنِ العاصِ أنَّ رسولَ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنِ اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ)) فما وَقَع منهم -رضي اللَّهُ عنهم- إنْ ثَبَتَ فهُوَ عَن اجتهادٍ، فَهُم مَعذورون ومأجورون على كِلا الحالَيْنِ،
ولهَذَا اتَّفقَ أهلُ الحقِّ ممَّن يُعتَدُّ بِهِ في الإجماعِ على قَبولِ شهادَتِهم ورِوايَتِهم وثبوتِ عدالَتِهم، وأنَّه يَجِبُ تَزكِيةُ جَمِيعِهم، ويَحْرُمُ الطَّعنُ فيهم، ويَجِبُ اعتقادُ أنَّهم أَفْضَلُ جميعِ الأمَّةِ بعدَ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال أبو زُرعةَ: إذا رأيتَ الرَّجُلَ يَنتقِصُ أحداً مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فاعلم أنَّه زِنديقٌ، وَذَلِكَ أَنَّ القرآنَ حقٌّ والرسولُ حقٌّ، وما جاء بِهِ حقٌّ، وما أدى ذَلِكَ النَّبأَ كُلَّه إلاَّ الصَّحابةُ، فمَن جَرحَهم فإنَّما أراد إبطالَ الكِتابِ والسُّنَّةِ. اهـ.
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ في المنهاجِ بعد كلامٍ: ما يُنقَلُ عن الصَّحابةِ مِن المثالبِ فهُوَ نوعانِ:
أحدُهما: ما هُوَ كَذِبٌ كُلُّه، وإمَّا محرَّفٌ قد دخَلَه مِن الزِّيادةِ والنُّقصانِ ما يُخرِجُه إلى الذَّمِّ والطَعْنِ، وأكثرُ المنقولِ مِن المطاعِنِ الصَّريحةِ هُوَ من هَذَا البابِ، يَرويها الكَذَّابونَ المَعرُوفون بالكَذِبِ، مِثلُ أبي مِخْنَفٍ لوطُ بنُ يحيى، ومِثلُ هِشامِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ السَّائبِ الكَلْبِيِّ، وأمثالُهما مِن الكذَّابينَ،
والنَّوعُ الثَّاني: ما هُوَ صِدقٌ، وأكثرُ هَذِهِ الأمورِ لهم فيها معاذِيرُ تُخرِجُها مِن أنْ تكونَ ذُنوبًا، وتَجعلُها مِن مواردِ الاجتهادِ التي إنْ أصابَ المجتهِدُ فيها فَلَه أجْرانِ، وإنْ أخطأَ فله أجرٌ واحدٌ، وعامَّةُ المنقولِ الثَّابتِ عن الخلفاءِ الرَّاشدينَ مِن هَذَا البابِ،
وما قُدِّرَ مِن هَذِهِ الأمورِ ذَنباً محقَّقاً، فإنَّ ذَلِكَ لا يَقدَحُ فيما عُلِمَ مِن فضائلِهم وسوابِقهم، وكونِهم أهلَ الجَنَّةِ؛ لأَنَّ الذَّنْبَ المحقَّقَ يرتفعُ عقابُه في الآخرةِ بأسبابٍ متعدِّدةٍ:
منها: التَّوبةُ والحسناتُ الماحيةُ،
ومنها: المصائبُ المكفِّرةُ،
ومنها: دُعاءُ المؤمنين بعضِهم لبعضٍ، وشفاعةُ نبِيِّهم،
فما مِن سببٍ يسَقُطُ بِهِ الذَّمُّ والعقابُ عن أحدٍ مِن الأمَّةِ إلاَّ والصَّحابةُ أحقُّ بِذَلِكَ، فهم أحقُّ بكُلِّ مدْحٍ، ونَفْيِّ كُلِّ ذَمٍّ ممَّن بعدهم مِن الأمَّة.
(215) قولُه: (مَعصومٌ) مِن العِصْمَةِ وهي: الحمايةُ والحِفظُ. قولُه: (بل يَجوزُ) أي: يُمْكِنُ، أي أنَّ أهلَ السُّنَّةِ يعرِفون قَدْرَ أصحابِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وقَرابَتِه، فيُنْزِلُونَهم مَنازِلَهم، كما وَردَ في الحديثِ: ((وَنَزِّلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ)) فلا يَغلُون فيهم بحَيْثُ يَرْفَعُونَهم عن مَنْزِلَتِهم التي أَنْزَلَهُم اللَّهُ بها، فلا يَعتقدُونَ أنَّهم مَعصومُون عَن الذُّنوبِ والخطايا، بل يَجوزُ عليهم ما يَجوزُ على غيرِهم مِن الذُّنوبِ والخطايا، وفي الحديثِ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ)) وفي حديثِ أبي ذرٍّ: ((إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنوبَ جَمِيعاً فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ)).
وقالَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ: ولم يَقُلْ أحدٌ يُعتدُّ بِهِ: إنَّ الصَّحابةَ -رضي اللَّهُ عنهم- أو غيرُهم مِن الأولياءِ أو القَرابةِ مَعصومٌ مِن كبائرِ الذُّنوبِ أو مِن الصَّغائِرِ، بل يجوزُ عليه وُقوعُ الذَّنْبِ، واللَّهُ يَغْفِرُ لهم، وقِصَّةُ حاطِبٍ في الصَّحيحِ، فقد غَفَرَ له الذَّنْبَ العظيمَ بِشُهودِه بَدْرا. اهـ.
فأهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ لا يَرَوْنَ عصمةَ أحدٍ لا مِن الصَّحابةِ ولا مِن القرابةِ، ولا يُؤَثِّمُونهم باجتهادِهم، بخلافِ أهلِ البِدَعِ الذين غَلَوْا مِن الجانِبَيْنِ:
طائفةٌ عَصَّمَتْهم، وطائفةٌ أَثَّمَتْهُم.
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ: ولم يَقُلْ أَحدٌ مِن الأئمَّة إلاَّ الإماميَّةُ والإسماعيليَّةُ. وقولُ بعضِهم: إنَّ النَّبيَّ معصومٌ، والوَلِيَّ محفوظٌ، إنْ أرادَ بالحِفظِ ما يُشْبِهُ العِصمةَ فباطِلٌ. انتهى.
أمَّا الأنبياءُ عليهم السَّلامُ فاتَّفَقَ العلماءُ على أنَّهم مَعصومُون في تبليغِ الرِّسالةِ، لا يَجوزُ أنْ يَستقِرَّ في ذَلِكَ شيءٌ مِن الخطأِ، وَكَذَلِكَ معصومونَ مِن الكبائرِ، أمَّا الصَّغائرُ فقد تَقَعُ منهم ولكنْ لا يُقِرُّونَ عليها،
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بعد كلامٍ: فالعلماءُ متَّفِقونَ على أنَّهم لا يُقِرُّون على خطأٍ في الدِّين أَصٍلا، ولا على فِسْقٍ أو كذبٍ في الجملةِ، كُلُّ ما يَقدَحُ في نُبُوَّتِهم وتَبْلِيغِهم عن اللَّهِ فَهُم متَّفِقون على تَنْزِيهِهم عنه، وعامَّةُ الجمهورِ الذين يُجَوِّزُون عليهم الصَّغائرَ يقولون: إنَّهم مَعصومُون مِن الإقرارِ عليها، فلا يَصْدُرُ منهم ما يَضرُّهُم، كما جاء في الأثرِ: كان دَاودُ بعدَ التَّوبةِ خيرًا منه قبلَ الخطيئةِ، واللَّهُ -سُبْحَانَهُ- يُحِبُّ التَّوابِينَ، ويُحِبُّ المتطَهِّرين، وإنَّ العبدَ يفعلُ السِّيِّئَةَ يَدخُلُ بها الجَنَّةَ، وأمَّا النِّسيانُ والسَّهْوُ في الصَّلاةِ فذَلِكَ واقِعٌ منهم، وفي وقوعِه حِكمةُ اسْتِنانِ المسلِمِينَ بهم، كما رُوِيَ في موطأِ مالِكٍ: إِنَّمَا أَنْسَى أَوْ أُنْسَى لأَسُنَّ. اهـ.
(216) قولُه: (ولهم مِن السَّوابِقِ والفضائِلِ) إلخ أي: حَدَثَ، فما يَقعُ منهم -رضي اللَّهُ عنهم- يُغْتَفَرُ في جانِبِ ما لهم مِن الحسناتِ العظيمةِ، كما في قِصَّةِ حاطبٍ: فقد غُفِرَ له الذَّنْبُ العظيمُ بِشُهودِه بدراً {وَكُـلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}.
وفي جامعِ الترمذيِّ أَنَّ النَّبيَّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال لَمَّا جاءَهُ عثمانُ لِتَجْهيزِ جَيشِ العُسْرَةِ: ((مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ)) مَرَّتَيْنِ، رواه الترمذيُّ وقال: حديثٌ حسنٌ،
وروى أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ عن جابرٍ أنَّ رسولَ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ))،
وأَخْرَجَ أحمدُ بِسَندٍ رجالُه ثِقاتٌ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ أَنَّ النَّبيَّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال لأهلِ الحديبيةِ: ((لاَ يُدْرِكَنَّ قَوْمٌ بَعْدَكُمْ صَاعَكُمْ وَلاَ مُدَّكُمْ)).
قولُه: (حتى إنَّهم يُغفَرُ لهم مِن السَّيِّئاتِ) إلخ: وَذَلِكَ لما لهم مِن الفَضائِلِ والسَّوابقِ والوَعْدِ بالمغفرةِ، قال تعالى: {وَكُـلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} فلأصحابِ رسولِ اللَّهِ من الحسناتِ والأسبابِ التي تَمْحُو السَّيِّئاتِ أعظمُ نَصيبٍ، قال: {لِيُكَـفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذي عَمِلُواْ} والحبيبُ يسامِحُ بما لا يُسامِحُ بِهِ غيرُه؛ لأَنَّ المحبَّةَ أكبرُ شُفعائِه ،كما قِيلَ:
وإذا الحَبِيبُ أَتى بِذَنْبٍ واحدٍ ....... جاءتْ محاسِنُه بألْفِ شَفيعِ
فلِمَقامَاِتهم العظيمةِ وجهادِهم في اللَّهِ أعداءَه حقَّ الجهادِ يُحتمَلُ لهم ما لا يُحتَمَلُ لغيرِهم، وذَكَر ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في المدارجِ في أثناءِ كلامٍ له: أِنَّه يُعفَى للمحِبِّ ولِصاحِبِ الإحسانِ العظيمِ ما لا يُعْفَى لغيرِه، ويُسامَحُ بما لا يُسامَحُ بِهِ غيرُه،
قال: وقد استدلَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّين -رَحِمَهُ اللَّهُ- على ذَلِكَ بقصَّةِ سليمانَ حين أَلْهَتْهُ الخيلُ عن صلاةِ العصرِ، فأَتْلَفَها فعوَّضَه اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- الرِّيحَ، وَكَذَلِكَ لَطَم مُوسى عَيْنَ مَلَكِ الموتِ فَفَقأَها ولم يَعْتَبْ عليه رَبُّه، وفي ليلةِ الإسراءِ عاتَبَ رَبَّهِ في النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه رُفِعَ فوقَه، ولم يُعاتِبْهُ اللَّهُ على ذَلِكَ، لِما له مِن المقاماتِ العظيمةِ. وكان شديدَ الغضبِ لرَبِّه، فاحتَمَلَ له مالم يَحتَمِلْه لغيرِه، وذو النُّونِ لمَّا لم يكُنْ له هَذَا المقامَ سَجَنَهُ في بطنِ الحوتِ مِن أجلِ غَضَبِه {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}. انتهى بتصرُّفٍ.
(217) قولُه: (وقد ثَبَتَ بقولِ الرَّسولِ) -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- إلخ: أَخرجَه مسلمٌ في الفضائلِ مِن حديثِ أبي هريرةَ، وأَخرَجَه أبو داودَ مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ، وأَخرجَه البُخاريُّ ومِسلمٌ والنَّسائيُّ مِن حديثِ عمرانَ بنِ حُصَينٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)) قال عِمرانُ بنُ حصينٍ: (فلا أَدْرِي أَذَكَر بعدَ قَرْنِه مَرَّتِين أو ثلاثًا)، وعنِ ابنِ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَومٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)).
قولُه: ((قَرْنِي)) القَرْنُ أهلُ زمانٍ واحدٍ متقارِبٍ اشتركُوا في أمرٍ مِن الأمورِ المقصودةِ، ويُطلَقُ القَرْنُ على مُدَّةٍ من الزَّمانِ اختلفوا في تَحديدِها، ووقع في حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ بُسرٍ عندَ مُسلِمٍ ما يَدلُّ على أَنَّ القرنَ مائةُ عامٍ، وهُوَ المشهورُ، انتهي مِن فتحِ الباري، والمرادُ بقَرْنِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: الصَّحابةُ، واتَّفقَ العلماءُ على أنَّ خيرَ القُرونِ قَرْنُه.
قولُه: ((ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)) يعني التَّابِعينَ ((ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)) يعني أَتْباعَ التَّابِعينَ، واقْتضَى هَذَا الحديثُ أنْ تكونَ الصَّحابةُ أَفْضلَ مِن التَّابِعِينَ، والتَّابِعينَ أَفْضلَ مِن أَتباعِ التَّابِعينَ، واستُدِلَّ بهَذَا على تعديلِ القرونِ الثَّلاثة وإنْ تَفاوتَتْ منازِلُهم في الفَضْلِ، واستُدِلَّ على جوازِ المفاضَلَةِ بين الصَّحابةِ رضوانُ اللَّهِ عليهم.
(218) قولُه: (وإنَّ المُدَّ مِن أحدِهم). إلخ: كما في "الصَّحيحَيْنِ" عن أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ))، وقد تقدَّم الكلامُ عن هَذَا الحديثِ.
قولُه: (ثم إذا كان قد صَدَرَ) إلخ: والتَّوبةُ تَجُبُّ ما قَبلَها، كما في الحديثِ: ((التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ)) والتَّوبةُ مَقبولةٌ مِن جميعِ الذُّنوبِ،
قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ}،
وقال: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ}،
وقال: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقد أخبَرَ اللَّهُ في كتابِه عن تَوبةِ أنبيائِهِ ودُعائِهم بالتَّوبةِ،
قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
وقال عن موسى -عليه السَّلامُ- إنَّه قال: {تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} إلى غيرِ ذَلِكَ من الآياتِ،
وأمَّا المأثورُ عنِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فكثيرٌ جِداًّ، وأصحابُه كانوا أفْضَلَ قُرونِ الأمَّة، فهم أعْرَفُ القرونِ باللَّهِ، وأشدُّهم له خَشْيةً، وقد وَقَع مِن بعضِهم أشياءُ نَدِمُوا عليها وتابوا منها، وهَذَا مشهورٌ.
قولُه: (أو أَتَى بحسناتٍ تَمْحُوه) قال اللَّهُ تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيَّئَاتِ} وقال النَّبيُّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((وَأَتْبِعِ السِّيَّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا))
وقال –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- للرَّجُلِ الذي قال أصبتُ حداًّ فَأَقِمْه عليَّ، فقال: ((هَلْ صَلَّيْتَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلاةَ؟)) قال: نَعَمْ، قال: ((اذْهَبْ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ)) الحديثَ،
والحسناتُ تَتَفاضَلُ بحسَبِ ما في القُلوبِ مِن الإيمانِ والتَّقوى، وحينئذٍ فيُعرَفُ أنَّ مَن هُوَ دُونَ الصَّحابةِ قد تكونُ له حسناتٌ تَمْحُو ما يُذَمُّ مِن أحدِهم، فكَيْفَ بالصَّحابَةِ -رضي اللَّهُ عنهم-.
قولُه: (أو غُفِرَ له لفَضلِ سابِقَتِه) كما تقدَّمَ مِن الأدِلَّةِ على ذَلِكَ،
ومنها قولُه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ))،
وكما في قِصَّةِ حاطِب بنِ أبي بَلْتَعَةَ فقد غَفَرَ له ذَلِكَ الذَّنْبَ العظيمَ بشُهودِه بَدْرا،
وقد بَرِئَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مما صَنَعَ خَالِدٌ ببني جذيمةَ وقال: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مَمَّا صَنَعَ خَالِدٌ)) ولم يُؤاخِذْه له لِحُسْنِ بلائِه ونَصْرِه للإسلامِ، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ الكثيرةِ.
قولُه: (أو بِشفاعةِ محمَّدٍ) إلخ: فإنَّهم أخَصُّ النَّاسِ بِدُعائِه وشَفاعَتِه.
قولُه: (أو ابْتُلِيَ بِبَلاءٍ في الدُّنْيَا كُفِّرَ بِهِ عنه) أي: امْتُحِنَ وَأُصِيبَ بمُصيبةٍ كَفَّرَ اللَّهُ بها عنه، أي مُحِيَ عنه ذَلِكَ الذَّنْبُ، لأنها تُكَفِّرُ الذَّنْبَ، كما في الصَّحيحِ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلاَ نَصَبْ وَلاَ غَمٍّ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَنٍ حَتَّى الشَّوْكَةَ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ)) متَّفقٌ عليه،
ذَكَرَ المصنِّفُ هنا بعضَ الأسبابِ المسقِطةِ للعقوبةِ، وقد استَوْفاها في المنهاجِ وشَرَحَها شَرْحاً وافِياً، ثم قال: فَهِذِهِ الأسبابُ لا تفوتُ كُلُّها من المؤمنين إلاَّ القليلَ، فكَيْفَ بالصَّحابةِ رضوانُ اللَّهِ عليهم الذين هم خيرُ قُرونِ هَذِهِ الأمَّةِ، فإذا كان الذَّنْبُ الُمحَقَّقُ تَسقُطُ عقوبَتُه بِعدَّةِ أسبابٍ في حقِّ آحادِ النَّاسِ فكَيْفَ في أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، فما مِن ذنبٍ يَسقطُ بِهِ الذَّمُّ والعقابُ عن أحدٍ مِن الأمَّةِ إلاَّ والصَّحابةُ أحقُّ بِذَلِكَ، فَهُم أحقُّ بكُلِّ مدحٍ ونَفْيِ كُلِّ ذَمٍّ ممَّن بعدَهم مِن الأمَّة. انتهى.
(219) قولُه: (فإذا كان هَذَا في الذُّنوبِ المحققَّةِ) تَسقُطُ عقوبَتُها عن آحادِ الأمَّةِ بأسبابٍ عديدةٍ فكَيْفَ بأصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فهم أحَقُّ بِذَلِكَ لِما لهم مِن الفَضائِلِ والسَّوابِقِ والوَعْدِ بالمغفرةِ، إلي غيرِ ذَلِكَ ممَّا لا يُمْكِنُ أنْ يَلْحَقَهُم فيه مَن بَعْدَهم، فإذا كان ما تَقدَّمَ في الذُّنوبِ المحققَّةِ (فكَيْفَ بالأمورُ التي كانوا فيها مُجْتَهِدِين؛ إنْ أصابوا فلَهُم أَجْرَانِ وإنْ أَخْطَئُوا فَلَهُم أجرٌ واحدٌ، والخطأُ مَغفورٌ)، فَهُم مأجورونَ على كِلا الحالَيْن، كما في "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ أبي هريرةَ وعمرِو بنِ العاصِ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ))، وقد تقدَّمَ، فما صدَرَ منهم فَهُم فيه مَعذورون ومأجورونَ، ولم يُخرِجْ ذَلِكَ أحدًا منهم عن العَدالةِ؛ لأنَّهم مجتهدُونَ اختلَفوا في مسائِلَ مِن مَحَلِّ الاجتهادِ كما يَختلِفُ المجتهِدونَ.
قولُه: (ثم القَدْرُ) إلخ: ثم حرفُ عطفٍ. قولُه: (جَانِبِ) أي: جِهَةٍ وناحيةٍ.
قولُه: (نَزْرٌ) أي: قليلٌ تَافِهٌ. قولُه: (مغمورٌ) أي: مُغطًّى مِن غَمَره إذا غطَّاهُ، وعَلاه أي: إِنَّ ما أَتَوْا بِهِ مِن الحسناتِ وما لَهُم مِن الفضائلِ والسَّوابِقِ غَمَرَ ما وقع منهم وغطَّاه وجَعَلَه كَلا شَيْءٍ، أو كقَطْرةِ نجاسةٍ وقَعَتْ في بحرٍ، هَذَا على فَرضِ ثبوتِ ذَلِكَ عنهم ووقُوعِه منهم، وإلاَّ فغالِبُ ما يُنقَلُ عنهم مِن المساوئِ إمَّا كَذِبٌ محْضٌ، وإمَّا محرَّفٌ كما تقدَّمَ؛ لأنَّ غالِبَ ما ذُكِرَ عنهم ذَكَرَهُ المؤرِّخون الذين يَكثُرُ الكَذِبُ فيما يَرْوونَه، وقَلَّ أنْ يَسْلَمَ نَقْلُهُم مِن الزِّيادةِ والنُّقصانِ، وأيضًا إذا ثَبَتَ صدُورُه عنهم فهُوَ صادِرٌ عن اجتهادٍ سائغٍ هُم مأجورونَ فيه على كِلا الحالَيْنِ.
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ومَن عَلِمَ ما دلَّ عليه القرآنُ والسُّنَّةُ مِن الثَّناءِ على القومِ -رضي اللَّهُ عنهم- واستحقاقَهُم الجَنَّةَ؛ وأنَّهم خيرُ هَذِهِ الأمَّةِ التي أُخرِجَتْ للنَّاسِ لم يُعارِضْ هَذَا المتيقَّنَ المعلومَ بأمورٍ مُشتَبِهَةٍ، منها ما لا يُعلمُ صحَّتُه، ومنها ما يَتَبَيَّنُ كذِبُه، ومنها ما لا يُعلمُ كَيْفَ وَقَعَ، ومنها ما يُعلمُ عُذرُ القومِ فيه، ومنها ما يُعلمُ تُوبَتُهم منه، ومنها ما يُعْلَمُ أنَّ له مِن الحسناتِ ما يَغْمُرُه، فمَن سَلَكَ سبيلَ أهلِ السُّنَّةِ استقام قولُه، وكان مِن أهلِ الحقِّ والاستقامةِ والاعتدالِ، وإلاَّ حَصلَ في جهلٍ ونقصٍ وتناقُضٍ كحالِ هؤلاء الرَّفَضةِ الضُّلاَّلِ.
(220) قولُه: (ومَن نَظَرَ) أي: تدبَّرَ وتفكَّرَ فيها، قولُه: (في سيرةِ القومِ) أي: خِطَّتِهم وعادَتِهم، وما كانوا عليه مِن الأحوالِ الفاضِلةِ والسِّيرةِ العادِلةِ، وجُمعُها سِيَرٌ، وهُوَ ما يعامَلُ بِهِ النَّاسُ مِن خيرٍ وشرٍّ، وأصلُ السِّيرةِ: هيئةُ فِعلِ السَّيْرِ وسَيْرُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- هيئةُ أفعالِه حَيْثُ كانت.
قولُه: (بِعِلمٍ) العِلمُ هُوَ حصولُ صورةِ المعلومِ في الذِّهْنِ. قولُه: (وبصيرةٍ) أي: معرفةٍ ويَقِينٍ، والبصيرةُ للقلبِ والبَصَرُ للعينِ، قال ابنُ القيِّمِ في المدارجِ بعد كلامٍ على قولِه: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} قال: يريدُ أنْ تَصِلَ باستدلالِكَ إلى أعلى درجاتِ العِلمِ، وَهِيَ البصيرةُ التي تكونُ نسبةُ المعلومِ فيها إلى القلبِ كنِسْبةِ المرئيِّ إلى البَصرِ، وَهَذِهِ الخِصِّيصةُ التي اختُصَّ بها الصَّحابةُ عن سائرِ الأمَّةِ، وَهِيَ أعلا درجاتِ العلماءِ. انتهى.
قولُه: (عَلِمَ يَقِيناً) أي: عِلماً لازماً لا يَدخُلُه شَكٌّ ولا شبهةٌ، فاليَقِينُ لغةً، طُمَأنِينَةُ القَلْبِ على حَقِيقةِ الشَّيءِ، يقالُ: يَقَنَ الماءُ في الحوضِ إذا استقرَّ فيه واصِطلاحًا هو: اعتقادٌ جازمٌ لا يَقْبَلُ التَّغييرَ، ومراتبُ اليقينِ ثلاثةٌ:
حقُّ اليَقينِ، وعِلمُ اليَقينِ، وعَينُ اليَقينِ،
فعِلمُ اليقينِ هُوَ التَّصديقُ التَّامُّ بِهِ بحَيْثُ لا يَعرِضُ له شكٌّ ولا شبهةٌ تَقدَحُ في تَصديقِه،
وعينُ اليقينِ هي مرتبةُ الرُّؤْيَةِ والمشَّاهَدَةِ،
وحقُّ اليقينِ هي مباشرةُ الشَّيءِ والإحساسُ به، قولُه: (لا كان ولا يكونُ مِثْلُهم) كان تامَّةٌ.
قولُه: (الصَّفوةُ) أي: الخيارُ، والصَّفوةُ مِن كُلِّ شيءٍ خالِصُه وخيارُه، فأصحابُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- همُ خيرُ الخلقِ بعدَ الأنبياءِ،
ومَن نَظَرَ في سِيرتِهم وتأمَّلَ أحوالَهم وما هم عليه مِن الدَّعوةِ إلى اللَّهِ والجهادِ في سبيلِه وبَذْلِ النَّفْسِ والنَّفِيسِ في سبيلِ إعلاءِ كلمتِه مع ما هم عليه مِن الصِّدقِ مع اللَّهِ والمسارَعةِ إلى الخيرِ مع العِلمِ النَّافِعِ – إلى غيرِ ذَلِكَ مِن صفاتِهم الفاضِلةِ عَلِمَ يقيناً أنَّهم خَيرُ الخَلقِ بعد الأنبياءِ، وأنَّهم أَكْملُ هَذِهِ الأمَّةِ عقلاً وعِلماً ودِيناً، كما قال فيهم عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ: مَن كان منكم مُسْتَناًّ فَليَسْتَنَّ بمَن قد مات، فإنَّ الحيَّ لا تؤمَنُ عليه الفتنةُ، أولئكَ أصحابُ مُحَمَّدٍ كانوا خيرَ هَذِهِ الأمَّةِ، وأَبَرَّها قُلُوبًا وأعْمَقَها عِلماً وأقَلَّها تَكلُّفا، قومٌ اختارَهم اللَّهُ لنَبِيِّه وإقامةِ دِينِه، فاعْرِفوا لهم فَضْلَهم واتَّبِعُوهم في آثارِهم، وتَمسَّكُوا بما استطعْتُم مِن أخلاقِهم ودينِهم، فإنَّهم كانوا على الهُدى المستقيمِ، رواه غيرُ واحدٍ، منهم ابنُ بطَّةَ عن قتادةَ،
وروى هُوَ وغيرُه بالأسانيدِ إلى زِرِّ بنِ حُبيشٍ قال: قال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه-: (إنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- نَظَرَ في قلوبِ العِبادِ بعد قلبِ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فوجَدَ قلوبَ أصحابِه خيرَ قلوبِ العِبادِ، فجَعلهَم وراءَ نِبيِّه يقاتِلون على دِينِه، فما رآه المسلمونَ حَسَناً فهُوَ عندَ اللَّهِ حسَنٌ، وما رآه المسلمونَ سيِّئاً فهُوَ عندَ اللَّهِ سيِّئٌ) رواه أحمدُ وأبو داودَ الطَّيالسيُّ،
وما قال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه- فيهم حقٌّ، كما تواتَرَتْ بِذَلِكَ الأحاديثُ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((خَيْرُ القُرونِ قَرْنِي)) الحديثَ،
وهُمْ أفضلُ الأمَّةِ الوسَطِ الشُّهداءِ على النَّاسِ،
وهم الصَّفوةُ مِن قرونِ هَذِهِ الأمَّةِ وأَكْرَمِها على اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال طائفةٌ مِن السَّلَفِ: هُم أصحابُ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، ولا رَيْبَ أنَّهم أفضلُ المُصْطَفَيْنَ مِن هَذِهِ الأمَّةِ التي قال اللَّهُ فيها: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لَّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مَّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ} فأمَّةُ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- الذين أُورِثوا الكتابَ بعدَ الأمَّتَيْنِ قَبلَهم اليهودُ والنَّصارى، وقد أخبَرَ أنَّهم الذين اصْطَفى، فأصحابُ مُحَمَّدٍ هم المصطفَيْنَ مِن المصطفَيْنَ مِن عِبادِ اللَّهِ، فهم صَفوةُ الصَّفوةِ، رضوانُ اللَّهِ عليهم أجمعين، فأُمَّةُ مُحَمَّدٍ خيرُ الأممِ وأكْرَمُها على اللَّهِ كما قال -سُبْحَانَهُ-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وروى الإمامُ أحمدُ عن حكيمِ بنِ معاويةَ عن أبيه -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَنْتُمْ تُوَفُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ -سُبْحَانَهُ-)) رواه الترمذيُّ وابنُ ماجهْ والحاكِمُ في مستدرَكِه، وأصحابُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- خيرُ هَذِهِ الأمَّةِ، فهُمْ أفضلُ الخلقِ على الإطلاقِ بعد النَّبِيِّينَ والمُرْسَلِينَ.