1.استخرج الفوائد السلوكية من قوله تعالى:
{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)}.
1- (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح) قد يكون من السهل الاستجابة لله ورسوله في بعض الأوامر, ولكن الصعب هو الاستجابة الفورية في ظرف صعب, أو بعد الألم, أو بعد استنفاد الطاقة والجهد في العبادة, فلا يقوى أن يصبر حتى يتمها, أو يأتي بغيرها, وهنا مربط الإيمان الحقيقي, والمحنة الحقيقية للمؤمن.
2- (للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) الإتيان بالعبادة عمل عظيم, لكن الأعظم والأكمل هو الوصول لمرحلة الإحسان في أدائها, والتقوى خشية فواتها, فهذه هي المرتبة الكبرى التي ينال بها الأجر العظيم.
3- (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) ومما تدور به العادة, ويمتد ما امتدت الأزمان ووجد الإنسان, أن القيل والقال هي الصفة التي تلوكها ألسن الناس وتحب تناقلها, بل إن الناس قد يتلذذون بنشر الأخبار المروعة أكثر من الأخبار الطبيعية والمفرحة, لذا فيجب على المرء أن يضع بينه وبين شائعات الناس حدا لا يتعدونه, وإيمانا عميقا بربه لا يخترقونه.
4- (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا) ومما يدل عليه قوة المؤمن بربه, هو هوان القوى المادية في نظره, وعدم تأثره بالبروباجندا المثيرة للخوف والجدل, فالمؤمن يفوض أمره لله, بل ويزداد إيمانه به كلما ازداد الوضع حرجا, فهو يثق بفرج الله, ويطمئن لقضائه.
5- (وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) مما يحسن بالمؤمن ترديده عند الشدائد هذا الدعاء, ففيه تفويض الأمر لله, والاكتفاء به عن غيره.
6- (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء) دائما في الوعود الربانية يكثر استعمال الأسلوب الدال على تحقق الأمر قريبا, وانتهاء الظلم عاجلا, وتيسير الفرج سريعا, ففاء التعقيب هنا مما يدل على تحقق ذلك فيمن أوكل أمره لربه حتى في أشد الحالات ضيقا, أكثرها حرجا, وكلما زادت المحنة, قرب الفرج.
7- (واتبعوا رضوان الله) يندب للمرء دائما إتباع العمل الخير بآخر مثله يستجر رضا الله ويستديم به فضله.
8- (والله ذو فضل عظيم) تنكير الفضل ووصفه بالعظمة دلالة على عظم هذا الفضل وعموميته, وفضل الله محسوس مشاهد مثبت في واقع المرء في هذه الحياة الدنيا, ناهيك عما يخبئه لك في دار الآخرة لمن اتقاه واتبع رضاه.
9- (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) قوله :"يخوف أولياءه" فسرت بتفسيرين, الأول: أن الشيطان يخوف أولياءه من المنافقين والمشركين ونحوهم. والثاني: أنه يخوفكم أيها المؤمنين بأوليائه من الكفار ويهول من عددهم وعدتهم في أعينكم. وفي كلا المعنيين بيان لعدم إعطاء المرء للشيطان مجالا للتمكن منه, وذلك أن استسلامك لمخاوف الشيطان ووساوسه إما يجعلك بذلك قد تدخل في أوليائه الذين أعطوه ما لم يستحق من الخوف والترهيب الذي لا يكون إلا لوجه الله, أو أن تكون ممن يستسلم لأوليائه من أعداء الإسلام بإعلانك الخوف منهم, وتهويل ما يملكونه من عدد وعدة, كما قد يحدث في عصرنا الحالي من القوة التي يملكها الجيش الإسرائيلي, ولكن هذا لا يزيد المؤمن الفلسطيني -مثلا- في مواجهته إلا عزة وثقة بالله, إذ الاستسلام لمشاعر الخوف من هذا العدو نوع من الاستسلام المنهي عنه, والذي يخالف كمال الخوف من الله.
10- (وخافون) الخوف من الله إحدى جناحي طائر لا يستغني عنهما المؤمن, فلا إيمان بلا خوف, كما لا إيمان بلا رجاء.
2. حرّر القول في معنى قوله تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
في تحرير معنى قوله "سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة" عدة مسائل:
الأولى:
*متعلق البخل في الآية.
الثانية:
*المراد بالطوق في قوله:"سيطوقون".
المسألة الأولى: متعلق البخل في الآية.
*القول الأول: البخل بما سأله ذو قرابة أو ولاية حقا من غنى. فسره ابن وهب بحديث رواه صفوان بن سليم عن رسول الله, وروى الطبري وابن حجر عن رسول الله حديثا مقاربا لهذا المعنى, وقال به مسروق, وأبو مالك العبدي, وأبو وائل.
-التخريج:
-حديث رسول الله الذي رواه صفوان بن سليم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذكر أهل اليمن، فقيل: يا رسول اللّه، أليس يؤتون زكاة أموالهم ويتصدّقون، قال: فكيف بما تحوي الفضول من سأله ذو قرابةٍ حقًّا من غنًى فمنعه طوّق شجاعًا أقرع حتّى يقضي بين الخلق يوم القيامة ثم قال: {ولا تحسبن الّذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيرٌ لهم بل هو شرٌ لهم سيطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة}). رواه ابن وهب عن اللّيث بن سعدٍ عن عبيد اللّه بن أبي جعفرٍ عن صفوان بن سليمٍ أن رسول الله قاله.
-والحديث الذي رواه الطبري عن ابن المثنّى، قال: حدّثنا عبد الأعلى، قال: حدّثنا داود، عن أبي قزعة، عن رجلٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ما من ذي رحمٍ يأتي رحمه فيسأله من فضلٍ جعله اللّه عنده فيبخل به عليه إلاّ أخرج له من جهنّم شجاعٌ يتلمّظ حتّى يطوّقه.
-وروى الطبري كذلك عن ابن المثنّى، قال: حدّثنا أبو معاوية محمّد بن خازمٍ، قال: حدّثنا داود، عن أبي قزعة حجر بن بيانٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ما من ذي رحمٍ يأتي ذا رحمه فيسأله من فضلٍ أعطاه اللّه إيّاه فيبخل به عليه، إلاّ أخرج له يوم القيامة شجاعٌ من النّار يتلمّظ حتّى يطوّقه ثمّ قرأ: {ولا يحسبنّ الّذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله} حتّى انتهى إلى قوله: {سيطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة}.
-وروى الطبري عن زياد بن عبيد اللّه المرّيّ، قال: حدّثنا مروان بن معاوية، وحدّثني عبد اللّه ابن عبدالله الكلابيّ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن بكرٍ السّهميّ، وحدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا عبد الواحد بن واصلٍ أبو عبيدة الحدّاد واللّفظ ليعقوب جميعًا، عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه، عن جدّه، قال: سمعت نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: لا يأتي رجلٌ مولاه فيسأله من فضل مالٍ عنده فيمنعه إيّاه إلاّ دعا له يوم القيامة شجاعًا يتلمّظ فضله الّذي منع.
-وروى ابن حجر عن أبي معاوية: عن داود - (هو) ابن أبي هندٍ -، عن أبي قزعة، عن حجير بن بيان رضي الله عنه، قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ما من ذي رحمٍ (يأتي رحمه) فيسأله من فضل ما أعطاه اللّه تعالى إيّاه، فيبخل عليه، إلّا أخرج له يوم القيامة، شجاعٌ (يتلمّظ) حتّى يطوّقه، ثمّ قرأ: {ولا يحسبنّ الّذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله}، الآية.
-قول مسروق رواه سعيد بن منصور عن خلف بن خليفة، عن أبي هاشمٍ، عن أبي وائلٍ، عن مسروقٍ, وذكر قوله.
-قول أبي مالك العبدي رواه الطبري عن الحسن بن قزعة، قال: حدّثنا مسلمة بن علقمة، قال: حدّثنا داود، عن أبي قزعة، عن أبي مالكٍ العبديّ, وذكر قوله.
-قول أبو وائل رواه الطبري عن القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشمٍ، عن أبي وائلٍ.
*القول الثاني: البخل بعدم أداء زكاة المال. فسره البخاري بحديث عن رسول الله, ورجحه ابن حجر ونقل عن الواحدي إجماع المفسرين على هذا القول, وقد ذكر أن في صحته نظر, وروى ابن حنبل وابن ماجه والترمذي والنسائي ما يؤيده.
-التخريج:
- الحديث رواه البخاري عن عبد اللّه بن منيرٍ، سمع أبا النّضر، حدثه عبد الرّحمن هو ابن عبد اللّه بن دينارٍ، عن أبيه، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: " من آتاه اللّه مالًا فلم يؤدّ زكاته، مثّل له ماله شجاعًا أقرع، له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - يقول: أنا مالك أنا كنزك " ثمّ تلا هذه الآية: (ولا يحسبنّ الّذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله) إلى آخر الآية.
- ما رواه ابن أبي حاتم وابن حنبل (بتصحيح أحمد شاكر) وابن ماجه والترمذي والنسائي عن جامع ، عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ متقاربة.
*القول الثالث: أنها متعقلة باليهود الذين يكتمون صفة النبي. قاله ابن عباس, وقاله ابن جريج نقلا عن ابن حجر, واختاره الزجاج.
واستدل ابن عباس بقوله تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) التي تتحدث عن اليهود بأنها تؤيد قوله.
-التخريج:
-قول ابن عباس رواه الطبري عن محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه عن ابن عبّاسٍ.
*القول الرابع: أنها فيمن يبخل بالنّفقة في سبيل الله. قال به الحسن.
التخريج:
-رواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن أحمد، ثنا موسى بن محكمٍ، ثنا أبو بكرٍ الحنفيّ، ثنا عبّاد بن منصورٍ قال: سألت الحسن, وذكر قوله.
*القول الخامس: أنها فيمن يبخل على العيال. ذكره ابن حجر.
*توجيه الأقوال في هذه المسألة:
بالنسبة للقول الثالث وهو قول ابن عباس -رضي الله عنه- فإن مبنى قوله كان عن طريق تفسيره القرآن بالقرآن, واستقرائه له, وتقديمه النص القرآني على غيره في تفسير هذا النص.
وبالنسبة للقولين الأول والثاني والقول الخامس فإنهم خصصوا هذه الآية, إلا أن الأول والثاني امتازا بتخصيصهما الآية بالأحاديث النبوية الصريحة في تخصيص هذا المعنى وتوضيحه, أما الأخير فإنه شاذ دون أي استدلال, وقد يكون هنالك استدلال نبوي في وجوب النفقة على الأبناء مثلا, لكن لن تجد أحاديث تصف من يبخل على أبنائه كالأحاديث التي في القولين الأول والثاني والتي وصفته وصفا يشابه معنى الآية.
أما بالنسبة للقول الرابع فإنه أخذ المعنى بعموميته.
*دراسة الأقوال ونقدها وبيان الراجح منها:
نأتي لقول ابن عباس -رضي الله عنه- وبرغم قوته لاستدلاله, ولقوة المستدل به في عالم التفسير, إلا أن رأيه شذ عن بقية المفسرين والعلماء والصحابة كابن مسعود, بالإضافة إلى أنه ذهب إلى معنى آخر وترك السياق الذي قد يدل على معنى البخل العام الذي يتعلق فيمن ينفق في سبيل الله بدلالة :"ولله ميراث السماوات والأرض" والتي تشعرك بأن المقصود هو الممتلكات المادية الملموسة, لا بصفة النبي ونحوه, وإن كانت الآية اللاحقة والتي تتحدث عن اليهود وقولهم "إن الله فقير" قد تقوي هذا الرأي إلا أنه لا زال ضعيفا أمام القولين الأول والثاني, واللذان دعما بأدلة نبوية صحيحة صريحة تناسب معنى الآية ومقتضاها, لذا فهذا مما يستبعد هذا القول.
وبالنسبة للقول الخامس فإنه خصص الآية دون دليل واضح لذا فهو مستبعد بقوة.
تبقى لدينا الآن القول الأول والثاني والرابع, فالأول يخصص المعنى بمانعي المال عن ذي القربى أو الولاية وإن كانوا أصحاب مال, والثاني يخصص المعنى بمانعي الزكاة, والرابع يذم البخل في النفقة في سبيل الله بشكل عام, وهذا القول هو ما يجمع القول الأول والثاني وكل قول آخر قد يدخل في معنى هذه الآية الكريمة التي عودنا قائلها أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب, كما أن هذا بلا شك لا يلغي انطباق الآية بالدرجة الأولى على القول الأول والثاني, لتعضيد الأحاديث النبوية الصريحة لهما, ثم بالدرجة الثانية على كل من يبخل عن النفقة في سبيل الله, أو عن نشر الحقيقة والعلم كما فعل مثل ذلك اليهود كما ذكر ابن عباس, فبهذا القول يدخل قول ابن عباس وكل الأقوال التي قد تحتملها الآية ودون أن تتعارض.
المسألة الثانية: المراد بالطوق في قوله :"سيطوقون".
*أن المراد أن يطوّق شجاعًا (الشجاع:الحية) في عنقه, وذلك يوم القيامة. فسره البخاري بحديث عن رسول الله, وروى الطبري وابن حنبل وابن ماجه والترمذي والنسائي وابن حجر ما يؤيده, وقال به ابن مسعود, ومسروق, وأبو مالك العبدي, والشعبي, والسدي, وأبو وائل.
-التخريج:
- الحديث رواه البخاري عن عبد اللّه بن منيرٍ، سمع أبا النّضر، حدثه عبد الرّحمن هو ابن عبد اللّه بن دينارٍ، عن أبيه، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: " من آتاه اللّه مالًا فلم يؤدّ زكاته، مثّل له ماله شجاعًا أقرع، له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - يقول: أنا مالك أنا كنزك " ثمّ تلا هذه الآية: (ولا يحسبنّ الّذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله) إلى آخر الآية.
-وما رواه ابن وهب وعبدالرزاق والنهدي وسعيد بن منصور والطبري وابن أبي حاتم والحاكم (وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) عن أبي وائل عن ابن مسعود, ورواه ابن أبي حاتم وابن حنبل (بتصحيح أحمد شاكر) وابن ماجه والترمذي والنسائي عن جامع ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
-والحديث الذي رواه الطبري عن ابن المثنّى، قال: حدّثنا عبد الأعلى، قال: حدّثنا داود، عن أبي قزعة، عن رجلٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ما من ذي رحمٍ يأتي رحمه فيسأله من فضلٍ جعله اللّه عنده فيبخل به عليه إلاّ أخرج له من جهنّم شجاعٌ يتلمّظ حتّى يطوّقه.
-وروى الطبري كذلك عن ابن المثنّى، قال: حدّثنا أبو معاوية محمّد بن خازمٍ، قال: حدّثنا داود، عن أبي قزعة حجر بن بيانٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ما من ذي رحمٍ يأتي ذا رحمه فيسأله من فضلٍ أعطاه اللّه إيّاه فيبخل به عليه، إلاّ أخرج له يوم القيامة شجاعٌ من النّار يتلمّظ حتّى يطوّقه ثمّ قرأ: {ولا يحسبنّ الّذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله} حتّى انتهى إلى قوله: {سيطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة}.
-وروى ابن حجر عن أبي معاوية: عن داود - (هو) ابن أبي هندٍ -، عن أبي قزعة، عن حجير بن بيان رضي الله عنه، قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ما من ذي رحمٍ (يأتي رحمه) فيسأله من فضل ما أعطاه اللّه تعالى إيّاه، فيبخل عليه، إلّا أخرج له يوم القيامة، شجاعٌ (يتلمّظ) حتّى يطوّقه، ثمّ قرأ: {ولا يحسبنّ الّذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله}، الآية.
-قول مسروق رواه سعيد بن منصور عن خلف بن خليفة عن أبي هاشمٍ، عن أبي وائلٍ، عن مسروقٍ. ورواه الطبري وابن أبي حاتم عن إسرائيل، عن حكيم بن جبيرٍ، عن سالم بن أبي الجعد, عن أبيه, عنه.
-قول أبي مالك العبدي رواه الطبري عن الحسن بن قزعة، قال: حدّثنا مسلمة بن علقمة، قال: حدّثنا داود، عن أبي قزعة، عن أبي مالكٍ العبديّ, وذكر قوله.
-قول الشعبي رواه الطبري عن ابن المثنى قال حدثنا عبد الصمد قال حدثنا شعبة عن المغيرة عن الشعبى, وذكر قوله.
-قول السدي رواه الطبري عن محمّد بن الحسين، قال: حدّثني أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ.
-قول أبو وائل رواه الطبري عن القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشمٍ، عن أبي وائلٍ.
*القول الثاني: أنهم يطوقون في أعناقهم يوم القيامة ما بخلوا به كالطوق. قال به قتادة, وابن حجر, والطبري.
-تخريج القول:
-قول قتادة: رواه عبدالرزاق عن معمر عن قتادة.
*القول الثالث: أنه طوق من نار. قال به إبراهيم النخعي.
-التخريج:
-قول إبراهيم النخعي: رواه عبدالرزاق والنهدي وسعيد بن منصور والطبري وابن أبي حاتم عن منصور عن إبراهيم, وذكر ابن حجر أنه إسناد جيد.
*القول الرابع: أن اليهود سيحملون ما بخلوا به وكتموه من الكتاب يوم القيامة. قال به ابن عباس.
-التخريج:
-قول ابن عباس رواه الطبري وابن أبي حاتم عن محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه عن ابن عبّاسٍ.
*القول الخامس: أن المراد: أي يلزمون بذلك, كقولك: طوّقته بالطّوق. قال به أبو عبيدة نقلا عن ابن حجر.
*القول السادس: أنهم سيكلفون بأن يأتوا بما بخلوا به في الدنيا من الأموال. قال به مجاهد.
-التخريج:
-قول مجاهد رواه الطبري والهمذاني عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ.
*توجيه الأقوال في هذه المسألة:
القول الأول بني على أساس متين صريح صحيح من الأحاديث النبوية.
أما القول الثاني فإنه تعامل مع الآية دون زيادة معنى أو نقصان, بل بالعودة للمعنى اللغوي لكلمة (طوق)وما قد تعنيه, لذا بني على معنى أن المراد أنهم سيحملون ما بخلوا به كالطوق, كهيئة الطوق.
القول الثالث خصص هذا الطوق بأنه من نار, ولا أعلم سببا للتخصيص سوى أنه قد يكون اجتهد فقدر أن العذاب مرتبط بالنار, فهذا الطوق إذن من نار, لا أعلم السبب خلف مثل هذا القول دون وجود نص شرعي أو لغوي, سوى ما اجتهدت أن أفسره من تلقاء نفسي, والله أعلم بمدى صحته.
أما الرابع فإنه مبني على المسألة السابقة وربطها باليهود, لذا كان تفسير الطوق هنا بحمل ما بخل به اليهود وكتموه من الكتاب يوم القيامة, والكلمة هنا مأخوذة من الطاقة لا من التطويق كبقية سابقاتها, كما ذكر ابن عطية.
والخامس أخذ معنى الطوق المجازي والذي يشعر بالإلزام بالأمر لأنه أصبح منوطا برقبتك, فبناه على هذا المعنى.
والسادس كذلك فسر الطوق بمعنى الإلزام بالإتيان وحمل ما بخل به في تلك الدنيا من الأموال.
*دراسة الأقوال ونقده وبيان الراجح منها:
مبدئيا الأقوال هنا متقاربة وصحيحة, فسواء كان المعنى مجازيا أو حقيقيا فإنه في كلا الأمرين متحقق, لكن قد يكون الأقل رجاحة من الأقوال قول ابن عباس لما ذكرنا في المسألة السابقة من أسباب تدعو لعدم تخصيص الآية بمعنى خارج سياقها.
أما الثاني والخامس والسادس فكلها تحمل معنى متقاربا جدا يحمل معاني الحمل والإلزام والتطويق حول العنق كجزاء من جنس العمل, إذ ببخلهم وعدم إنفاقهم للمال حملوها وطوقت بها أعناقهم إن حرفيا أو مجازيا.
أما الثالث وإن كان لا يستبعد حصوله إلا أن عدم وجود سند لغوي أو نص شرعي لا يجعلنا نميل إليه.
يتبقي الأول والأقوى والأرجح من حيث كثرة النصوص الدالة عليه, وكثرة القائلين به, وإن كنا نقول في هذه المسألة ما قلنا في الأولى من حيث إمكانية الجمع بين الأقوال بأن يكون المعنى أننا طوقناهم بتلك الحية التي بالتفافها عليهم أدت معنى التطويق, وقد يحدث لهم أكثر من أمر كأن يطالبوا بالإتيان بما بخلوا به ويلزموا بحمله على أعناقهم وتطويقهم به ثم بعد ذلك تتعرض لهم تلك الحية المذكورة في النصوص, فالنصوص بشكل عام لا تتعارض.
وقانا الله وإياكم من داء البخل وعواقبه دنيا وآخرة, وأورثنا الله من فضله الواسع في الدارين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
*المراجع:
-[الجامع في علوم القرآن لعبدالله بن وهب المصري: 1/33-100].
- [تفسير عبد الرزاق: 1/140-141].
-[تفسير الثوري للنهدي: 82].
-[سنن سعيد بن منصور: 3/1129-1135].
-]مسند أحمد 5/200 في الدرر السنية[.
-[صحيح البخاري: 6/39].
-]سنن ابن ماجه 1/568 في الموسوعة الشاملة[.
-[سنن الترمذي: 5/82].
-[السنن الكبرى للنسائي: 10/55].
-[جامع البيان للطبري: 6/271-276].
-[تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم: 2/826-828].
-[تفسير مجاهد: 140].
-[المستدرك للحاكم: 2/326-327].
-[فتح الباري لابن حجر: 8/230].
-[المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: 14/546].
-[المحرر الوجيز لابن عطية: 2/430-432].